مدير «بيت الحكمة»: الثقافة ليست عملًا فرديًا
جهد وزخم كبيران حققهما الدكتور أحمد السعيد، مدير دار بيت الحكمة للنشر، الفائزة بجائزة النشر المقدمة من اتحاد الناشرين فى معرض القاهرة الدولى للكتاب، حيث حققت إصداراتها الكثير من التفاعل مع النقاد ومختلف شرائح القراء.
ورأى أحمد سعيد خلال حواره مع «حرف»، أن الجائزة تكليف أكثر مما هى تشريف، ورأى أن الجوائز فى مجال النشر هى إشارة على أن «عملك جيد»، ولابد أن يكون أداؤك فيما بعد الجائزة، أفضل مما هو قبلها.
واعتبر الجائزة موجهة لمشروع وليس لشخص، لأنه يرى أن الثقافة ليست عملًا فرديًا وخصوصًا فى مجال النشر، وليس هناك ناشر نجم، بل هى رؤية عامة يتم وضعها وصناعتها وتوجيهها لشرائح القراء.
■ بداية.. ما الذى تقوله عن فوز «بيت الحكمة» بالجائزة المقدمة من اتحاد الناشرين المصريين؟
- أعتبر الجائزة تكليفًا أكثر مما هى تشريف، بمعنى أن الجوائز فى مجال النشر تقول إن عملك جيد، فلابد أن يكون أداؤك فيما بعد الجائزة، أفضل مما هو قبلها، الأمر الآخر هو حين تنال جائزة توضع تحت مجهر الرؤية، فيطالبك جمهورك بالأفضل.
والجائزة لمشروع وليس لشخص، وخصوصًا فى الثقافة؛ لأنى أؤمن أن الثقافة ليست عملًا فرديًا وخصوصًا فى مجال النشر وليس هناك ناشر نجم، لأنك تأخذ الكتاب من المؤلف للجنة قراءة، وبعدها هناك لجنة لملاحظات العنوان والمتن والصياغة، والتدقيق اللغوى والتحرير والتصميم الفنى والغلاف، وحين ينتهى ذلك نمنح الكتاب لأى قارئ ليعطينا انطباعه.
وأنا أستهدف الجمهور، فلا بد أن يقرأ العمل واحد من الجمهور، لأن الجمهور شريك عمل، وبالتالى مهما كانت رؤيتك صحيحة، فالأفكار وحدها لا تصنع مستقبلًا، لا بد من فريق عمل، فالتكريم كان موجهًا لفريق عمل يجتهد فى صناعة ما يطلق عليه مشروعًا، وهو رؤية وأهداف وخطة زمنية ومحتوى محدد، وليس أمرًا قائمًا على التكرار أو النقل، ولكن على الإبداع.
لا أحب أفعال التفضيل مثل أفضل ناشر وأفضل كاتب، لأن العمل الثقافى ليس تنافسيًا، ولكنه تكاملى، وأحب وصف الجائزة الذى أطلقه اتحاد الناشرين وهو «جائزة تشجيعية»، أنا أكره فكرة الأكثر مبيعًا، لأن هذا مضر، الثقافة هى كل ما يتعلق بسلوك البشر فى منطقة معينة، الصلاة ثقافة، والأكل والشرب ثقافة، والملبس ثقافة، والعادات والتقاليد ثقافة، والفنون ثقافة، وبالتالى كل من يعمل فى هذا المجال، ولدى جماعة بعينها فى أرض بعينها، فهو يعمل فى الثقافة، والجائزة حافز للاستمرارية وليست نهاية طريق، ولا تعنى الأفضلية، هى تعنى أن هناك مشروعًا وصل لمرحلة ما من النضج ويمكن أن يستمر.
■ هل يمكننا القول إن «بيت الحكمة» هى أفضل دار تقدمت للمسابقة؟
- بالطبع لا، ولكن يمكن أن يكون مشروع بيت الحكمة قد حقق نضجًا معينًا، ويستحق التقدير فى هذه المرحلة، ولكن هذا التقدير يأخذ بيت الحكمة لمستويات أعلى من الإبداع، حين قررنا النشر العربى كان الاختيار على إعادة النظر فى الكتب التى أصبح يقال عنها إنها لا تبيع، وعملنا على كتابات «الكبار المسمعين» بكتابتهم الجيدة فى الثقافة المصرية، فتواصلنا مع عزمى عبدالوهاب، على سبيل المثال.
والنشر الفردى ليس قائمًا على اختيار كتاب جيد، ولكن هناك مربعات مرسومة لدينا مسبقًا، حين قررنا البناء على هذا، اخترت كتابات كمال مغيث فى الفن، وكتاب «هموم الثقافة» لعزمى عبدالوهاب، وفى الرؤية الثقافية العامة، أحضرنا خالد عزب، ونحن نعمل على الثقافة الصينية، وقررنا نقل ثقافتها، فكان كتاب مصطفى عبادة «الاقتراب من العمق رحلة داخل المجتمع الصينى»، أضف إليهم من يكتبون جيدًا، مثل مهاب نصر فى كتابه «الكتابة على حافة النوم».
■ هذا يعنى أن بيت الحكمة هو من يذهب إلى الكتّاب بنفسه؟
- نعم بالضبط، أنا كما أشرت لدىّ مربع واضح، قد يكون هناك كتاب جيد جدًا، لكنه لا يدخل فى إطار المربع الذى تم تحديده مسبقًا، فأقول لصاحبه «كتاب جيد لكنه لا يصلح عندى»، أنا أنشر فى منطقة وسط ما بين النشر الخفيف والنشر الأكاديمى، هى منطقة وسط، وهذه المنطقة أُهملت، لأن دور النشر توجهت للربح التجارى أكثر، وأنا لدى مشروع مؤمّن ماديًا، وأعمل على مشاريع كبيرة مع الصين، فقررت تنفيذ خطة لنشر هذه الكتب التى أستقطب بها جمهورًا ما بين الأكاديميين ورواد النشر الخفيف، ولكنى لا أنظر لأسماء بقدر ما أنظر للمحتوى، وأن يناسب رؤيتنا أيضًا، نحن نخدم مشروعًا وليس أشخاصًا بعينهم، وهذا ما رأيته فى دور النشر العالمية.
■ أنت تتحدث عن خطة موضوعة للنشر، لكن ما الهدف منها؟
- عند وضع خطة نشر سألنا أنفسنا، ماذا وإلى أين نريد الذهاب فى هذه المرحلة، ولهذا حين اخترت شعارًا ثابتًا لبيت الكتب كان «كتب تبقى»، ومعناه أن الكتاب لا يقرأ مرة واحدة، وأن يكون هذا الكتاب مرجعًا فى الكثير من الكتابات، وأنا مسئول عن إبراز جماليات الفكر المصرى، نحن قضينا فى مصر الكثير من الأعوام ندفع عنّا تهمًا كثيرة، مثل الإرهاب والتخلف والتطرف، لم نقم بالجريمة، لكننا مطالبون بالرد، هل أمشى وراء الغرب لتبرئتى، أم أقدم منتجى لثقافات أخرى؟ لذلك ما نقدمه للصين ينبع من فكرة «هل يجعل هذا الكتاب الصينيين يحبون مصر».
■ منذ تأسيس الدار اعتمدت على خطة لنشر الكتب المتعمقة فى الثقافة المصرية.. ما هى الخطوة التالية؟
- لدينا مشروع اسمه «أفق»، فاز منه كتابان فى النقد الأدبى بجوائز معرض الكتاب، أنا لم أقدمهما لجائزة النقد الأدبى، لكننا وجدنا أن الصوت المسموع فى النقد هو صوت الجيل الأول، محمد عبدالمطلب وصلاح فضل وجابر عصفور وشاكر عبدالحميد، والجيل الآخر الذى يليه صوته منخفض، فقررت بناء منصة للجيل التال مثل هيثم الحاج على ومحمد عبدالعال وحسام جايل ومحمود الضبع، الاختيارات كانت لصاحب المشروع، وهل سيكمل مشروع «أفق» أم لا، بالطبع لا، لأن السوق لا تحتمل، الخطة أن ننتقل للفكر، بمعنى أن أحدهم يعمل فى الثقافة ويطلع على تفاصيل الثقافة، فيمكن أن يخرج رؤية ثقافية سياسية اجتماعية محلية عن المجتمع ومشاكله وما يمكن حله، وأنا أعمل على ١٢ إصدارًا لها علاقة بالشأن المصرى، فما بعد جلال أمين وكتابه «ماذا حدث للمصريين»، لم تعد هناك كتب فى الشأن المصرى، مصطلح مثل «الجمهورية الجديدة» يحتاج لكتب تأسيسية وتوثيقية، نحن مشغولون بالدفاع عن أنفسنا أمام المعارضين، لماذا نبنى، ولماذا نطور؟ وغيرها، لماذا لا نوثق كل ما نفعله فى الكتب؟ سأضرب لك مثلًا، لدينا تجربة أن الرئيس الصينى يكتب كتابًا كل ٣ أعوام، اسمه «حول الحكم والإدارة» يضع فيه رؤية الدولة وخطتها وغيرها.
وأنت كشخص أجنبى حين تقرأ الكتاب تعرف ما يدور فى فكر الرئيس الصينى، والكتاب يترجم لـ٣٢ لغة، لماذا لا توجد لدينا رؤى مشابهة، لماذا لا نأخذ قرارات الرئيس فى ١٠ أعوام ونحللها ونحولها لرؤى، هل نعمل هذا لكى نصفق للدولة، بالطبع لا، ولكن الدولة فى مرحلة ما يجب أن يُؤرخ لها.
■ هل مثل هذه الكتب يمكن أن تصبح تأريخًا لفترة معينة؟
- بالطبع، مشروع مثل العاصمة الإدارية، ما يظهر منه هو المبانى، أين قصص هؤلاء الناس، ولا أقصد هنا التناول السياسى، ولكن المجتمعى، وما يشغلنى لماذا لم تقع مصر خلال العشر سنوات الماضية فى الاقتتال الداخلى؟ والإجابة لأن اسم مصر مرتبط بحضارة المصريين، وتكيفهم على كل الأوضاع، وأواصر الصداقة والمحبة بينهم وبعضهم، فمن المستحيل أن نصل لهذا الأمر، بالرغم من أن أزمة مصر كانت أكبر من أزمتى سوريا والعراق وغيرهما.
السؤال هنا، هل هذا تم توثيقه من خلال المنظور الثقافى أو المنظور الفكرى أو الاجتماعى، بعيدًا عن الأرشيف الصحفى، الأمر الآخر وما سأعمل عليه هو أننى لدى اكتشافات لكتّاب جدد، على قدر كبير من الإبداع، ولكن تظلمهم معطيات السوق، فهم ليسوا مشاهير ولن تقبل دور النشر أن تنشر لهم، ولهذا ذهبت للفائزين بجائزة خيرى شلبى وقائمتها القصيرة، وطلبت نشر كل كتبهم، نتمنى أن ننشر شيئًا لا يعتمد على الشخص، ولكن على جودة ما يُكتب، فكرة الكشافين الذين يجوبون القرى للبحث عن المواهب الكروية فكرة ممتازة، فلماذا لا نطبقها فى الثقافة مثلًا؟
■ هل تقصد إبراز الخريطة الثقافية المصرية بشكل أعم وأشمل؟
- نعم بالطبع خريطة مصر الثقافية، يجب أن تبرز بشكل أكبر، نحتاج للنشر فى الحرف اليدوية الجنوبية مثلًا، حتى «حياة كريمة»، والتى يمكن أن تخرج منها قصص مؤثرة جدًا، تتحول لكتاب يحقق معايير تجارية، ولكن بتوثيق محترم، وأنا هنا لا أهلل للدولة، ولكنى أوثق ما تفعله الدولة.
الأدب معبر عن مجتمعه، فلابد أن يبرز هذا، وعلى اختياراتنا فى النشر، فهناك مثلًا روايات جديرة أن تدخل فى جوائز، والرؤية المستقبلية لبيت الحكمة هى الرصد الثقافى الفكرى لمصر، ومنطلقه الأساسى «عظمة مصر التاريخية» ثم الواقع ثم الذهاب للمستقبل، ولهذا سنطلق فرعًا جديدًا اسمه كتابات مستقبلية عن المستقبليات أو الدراسات المستقبلية.
■ هل هذا يتضمن رصد ما يُكتب عبر الذكاء الاصطناعى وغيره؟
- نعم بالضبط، وعلاقة الذكاء الاصطناعى بالمجتمع والإبداع، والكتابة فى المستقبل، ونحن هنا نجرى دراسة جدوى، لنلاحظ من الأفضل فى الكتابة، معيارى فى الكتاب هو جودته وليست إمكانية بيعه، لأن قناعتى فى بقاء الجيد، والضعيف إلى زوال، وأنا أدرس الروايات المصرية التى أحدثت أثرًا جيدًا فى فترات سابقة فى الستينيات والسبعينيات ونشرها، وهذا بدأ الآن، وحين أنشر تراثًا، فيكون ضمن مشروع اسمه إحياء التراث، ولن نذهب لما ينشر من التراث، وإنما لما أهمل من التراث فى فترات سابقة، ولم يُنتبه إليه، وهذا جزء مغاير لما هو موجود فى السوق، ولدينا فى الترجمة مناطق جديدة، مثل الترجمة من جنوب شرق آسيا، ومن الهند مثلًا.
■ هل هذا يعنى أن مشروع بيت الحكمة يتخطى العلاقة ما بين الصين ومصر؟
- لدىّ عشر سنوات من التعامل مع الثقافتين الصينية والمصرية، كنا حينها نتعلم النشر، واحتياجات السوق وما يخدم هذا المجتمع، ونحل مشاكل مادية متعلقة بالبدايات الجديدة، فحين نتحقق فى مشروع ونقدر على تكاليفه فسننجز عملًا جيدًا، وبعد خمس سنوات آمل أن تكون لدينا منصة للنشر الرقمى، ليس لما هو منشور ورقيًا بالفعل، ولكن ليكون النشر الرقمى هو الأساس، فى العالم كله النشر الرقمى توجه والتقليدى الورقى توجه آخر، ولكن ما يحدث فى العالم العربى ليس نشرًا رقميًا، لأن الكتاب نفسه موجود ومتداول.
من أكبر المشاريع لـ«بيت الحكمة» هو أدب الناشئة، ووصلنا لـ١٠٠ عنوان منها ١٢ مؤلفًا و٨٨ مترجمًا من ٣ لغات التركية والصينية والإسبانية، لأنه بعد وفاة أحمد خالد توفيق تحول النشء لقراءة أدب الرعب، فحدثت له أزمة تغريب، ولم يمر بمرحلة تأسيسية تتعلق بالتربية الأخلاقية،التى لا تعتمد على النصائح الدينية، ولكن على الإنسانيات.
■ أو بمعنى آخر.. تريد أن تهيئ للنشء البداية من خلال إصدارات معلمة وملهمة؟
- بالطبع، وسبحان الله أول رواية نشرناها فى سلسلة النشء باللغة العربية بعد انتقالنا من «الصينى»، وصلت للقائمة الطويلة للشيخ زايد، وأنا أنشر ما يتناسب مع مشروع بيت الحكمة، لذلك مثلًا فى المغرب، هناك كتاب قررته الحكومة على المدارس، لأنه يتضمن محتوى يناسب الطفل من ١٢ لـ ١٦ عامًا، كتب ليس فيها عنف ولا جنس، وبعيدة عن التابوهات تمامًا.
وبعيدًا عن الوصايا الدينية، لدينا سلسلة «قوس قزح» للبنات، ومنها تتعلم البنات كيفية المحبة وكيفية التعامل وغيرها.
■ الثقافة واحدة والمجتمع متغير وما تتعرض له البنات فى القاهرة لا تتعرض له البنات فى صعيد مصر، ما العامل المشترك فى هذه الإصدارات؟
- هذا صحيح، ولكن ما نطرحه لا يتعلق بالعادات الشعبية، وإنما بالعامل النفسى، أن يقرأ النشء ما يخرج منه بفائدة كبيرة، منها مثلًا مناهضة فكرة التنمر والتمييز بين الناس بألوانهم، وفكرة حب الوطن؛ لأننا لدينا تراجع فى مفاهيم حب الوطن منذ عام ٢٠١١، سببه كثرة الصراعات والتحزب وغيرها، وهنا يجب أن نحل هذه المسالة منذ الصغر، لدينا سلسلة للأطفال اسمها «كيف نحب»، وفيها نأخذ نماذج من عالم الحيوانات، مثل علاقة الحيوان بأمه وأبيه والمحبة بينهما، لينعكس هذا على الطفل فى سن مبكرة، النشر لدينا مسئولية، وكل مجال ننشر فيه يعتمد على خطط، والخطة ليس هدفها الربح فى المقام الأول، ولكن هل المشروع لن يربح، فكرة الاستمرارية هى ما تحقق الربح، أنا مثلًا ترجمت رواية اسمها «طلاق على الطريقة الصينية»، وبعد خمسة أعوام راجت الرواية بشكل كبير ووصلت للطبعة الثالثة، وأصبحت من أعلى الأعمال مبيعًا فى الشرق الأوسط، النشر سوق بلا ضوابط، ومن هنا فإن كل من يريد النشر يحضر سجلًا تجاريًا وينشر، وأيضًا غياب الضوابط يجعل هناك عشوائية، ومن يدخل فى معمعة النشر ينظر للربح التجارى فقط، حتى إن هناك نحتًا لأسماء بعض الروايات التى تفوز بالجوائز، وهناك نحت لأسماء مؤلفين أيضًا، ولهذا فالأعمال الجادة قليلة جدًا.