الأربعاء 02 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

جولة فى كنوز أشهر مُراسل أوروبى ندهته «المحروسة» 40 عامًا

1984.. مشاهد نادرة من مصر فى أوائل الثمانينيات

حرف

- متى بدأ التفكير فى إنشاء الطريق الدائرى؟ وما علاقة جبل المقطم؟

- لماذا ألزمت الحكومة السيارات بالسير فى «الحارة الشمال» لسنوات؟

-«كله بجنيه ونص».. كيف كانت «وكالة البلح» قبل 41 عامًا؟

- منذ 1984.. صندوق النقد يطالب الحكومة بإلغاء أو خفض الدعم

كل شىء على هذه الأرض أثر، يمكنه الخلود بكل سهولة، وله قدرة على إبهار الجميع، ودفعهم إلى الإعجاب به وتسجيله ونقله إلى الآخرين.

كل شىء فى مصر يستحق التوثيق، يستحق التعامل معه كما يتعامل المُنقِب مع ذرات ذهب تختلط بأديم الأرض.. لذا لا تستغرب من أولئك الذين ندهتهم «نداهة» المحروسة، فاحتفظوا حتى بترابها الذى خطته أقدامهم يومًا.

من بين هؤلاء أولى سيبل، مراسل هيئة الإذاعة الدنماركية «DR» فى الشرق الأوسط، الذى جاء إلى مصر منذ أوائل ستينيات القرن الماضى، وظل يمارس عمله الصحفى فيها وغيرها من دول المنطقة لمدة 40 عامًا كاملة، سجل خلالها مشاهد فريدة من «أم الدنيا»، خاصة خلال فترتى الثمانينيات والتسعينيات.

ومن حسن الحظ أن «سيبل»، الذى توفى فى 12 سبتمبر 2013، وعُرف بمواقفه المناهضة لإسرائيل وطالما هاجمه إعلامها، احتفظ بجميع لقطاته الخام، التى تحتوى على مقابلات ومقاطع فريدة لم تُعرض بالكامل من قبل. ومع انتهاء حقوق ملكية هيئة الإذاعة الدنماركية لهذه المقاطع، بدأت- فيما يبدو- أسرته فى نشر هذه المقاطع، على قناة خاصة فى «يوتيوب»، لإحياء ذكرى المراسل الشهير.

وبحسب المسئول عن القناة، فإنه عمد على تحويل هذه المقاطع إلى صيغة رقمية، مباشرة من أشرطة الفيديو الأصلية، مع نشرها كل يومين أو ثلاثة أيام على «يوتيوب»، مؤكدًا أنه يعمل على «رقمنة» الأشرطة القديمة فى وقت فراغه، لذا يعطله العمل ومشاغله عمومًا عن تحويل كل الشرائط، التى يبدو أنها كثيرة.

هذه التسجيلات كنز بكل ما تحمله الكلمة من معنى، ونظرًا لأهميتها الكبيرة، تقدم «حرف» ملخصًا لمحتواها فى السطور التالية، داعية كل قرائها إلى مشاهدتها، فكل ما فيها يعدكم بالمتعة وأكثر.

الأزمة السكانية

سجل «سيبل» ١٣ شريط فيديو عن مصر، فى فبراير ١٩٨٤، بدأت القناة التى دشنتها أسرته فى نشرها، وكان نصيبنا منها ٣ أشرطة، حتى كتابة هذه السطور.

 الدولة كانت تتوقع وصول عدد السكان إلى 70 مليون نسمة فى عام 2020

الشريط الأول سُجل بتاريخ ٧ فبراير ١٩٨٤، وهو عبارة عن ٢١ دقيقة، ١٣ منها عبارة عن مُقابلة مع «مسئول مصرى» حول «أزمة الزيادة السكانية».

لم يوضح المراسل الدنماركى هوية هذا المسئول، بل إن من نشر الفيديو من أسرته، طلب فى التعليقات ذكر اسمه، إذا ما كان أحد يعرفه.

ببحث «حرف» عن هوية الرجل، الذى يقول فى الفيديو إنه «مسئول عن برنامج وخطة الدولة المصرية لمواجهة الزيادة السكانية»، يبدو أنه الدكتور ممدوح جبر، الذى تولى مسئولية وزارة الصحة والسكان والمجلس الأعلى للسكان، فى الفترة من أواخر السبعينيات إلى أوائل الثمانينيات.

ما يهمنا فى المقابلة أن المراسل سأل الرجل: 

- كم عدد سكان مصر حاليًا؟ 

- ما بين ٤٦ و٤٧ مليون شخص.

- كم تتوقع أن يصل العدد فى عام ٢٠٠٠؟

- بين ٦٠ و٧٠ مليون نسمة.. نأمل ألا يتعدى الرقم ٦٠ مليون.

- هل تعتقد أنكم قادرون على تحقيق هذا الهدف؟

- نعم.. نتمنى ذلك.

«عدد سكان مصر فى عام ٢٠٠٠ وصل إلى ٧٤ مليونًا و٣٣ ألف نسمة».

توقع المسئول المصرى أيضًا وصول عدد السكان إلى ٧٠ لـ٨٠ مليون نسمة بين عامى ٢٠١٥ و٢٠٢٠.

«عدد سكان مصر فى ٢٠١٥ وصل إلى ٩٨ مليون نسمة، وفى ٢٠٢٠ بلغ ١٠٧.٥ مليون نسمة».

من المهم فى المقابلة أيضًا، أن المراسل الدنماركى سأل: هل هناك عقبات دينية أمام تنظيم الأسرة؟

أجاب المسئول بجرأة: لا أعتقد أنهم «مسئولى المؤسسة الدينية» جادون. مثل أى مجتمع آخر لدينا بعض المحافظين، رغم أن الإسلام لا يعارض تنظيم الأسرة. 

ما تفتحش حنكك كده 

بعد انتهاء المقابلة، انتقل أولى سيبل إلى أحد المستشفيات الحكومية، كُتب على اللافتة الخاصة به: «مستشفى قروى كرداسة».

أمام المستشفى بدأ فى التقاط مشاهد متعاقبة للأطفال الصغار والسيدات والفتيات بزيهم الريفى المميز.

تطلب منه سيدة الابتعاد قليلًا عند التصوير: «ورا شوية.. لورا شوية كده». وبينما تزيح أخرى الغطاء عن ابنتها الرضيعة لتصويرها، والسعادة تبدو على وجهها، تطلب ثالثة من طفل وقف أمام الكاميرا بفم عريض: «يا واد ما تفتحش حنكك كده!».

تشكك رابعة فى أن هناك تصويرًا من الأساس: «ولا بيصور ولا حاجة.. فين التصوير؟!». فيما تجرى الخامسة والسادسة بسرعة، هاربتين من التصوير ورافضتين له رفضًا قاطعًا.

يأتى صوت رجل من بعيد: «معلش يا باشمهندس.. بيخافوا من الكاميرا». يدعمه رجل ثان بالسؤال: «إنتوا معاكم تصريح للتصوير ده؟»، فيرد عليه مرافق للمراسل الدنماركى: «وإنت مالك؟»، فيسأل الرجل المعترض مُتحريًا: «إنت ما شفتش بريطانيا فضحونا إزاى؟».

تركب فتاة صغيرة فوق «شيلة برسيم» على حمار.. «يمشى بها الهوينا». فى المشهد التالى تحمل مجموعة من الفتيات «البرسيم» على رءوسهن. أما المشهد الثالث فيحمل- كالعادة- شكوى سيدة من موظف رفض أن «يخلص ورقها فى الوحدة المحلية»، طالبًا منها التوجه به إلى «السجل فى إمبابة».

صور ياد حلو

الشريط الثانى يحمل التاريخ نفسه، ٧ فبراير ١٩٨٤، والمكان نفسه، إحدى قرى كرداسة، وبالتحديد نفس المستشفى الذى انتهى فيه شريط الفيديو الأول.

المشهد الأول فى الشريط لسيدة تدخل إلى عيادة الكشف، ومعها طفلتان، للكشف على إحداهما. يطلب «سيبل» من الطبيبة أن تكشف على الطفلة بشكل طبيعى، مع تجاهل وجوده تمامًا، فتبدأ الطبيبة فى مباشرة عملها، بعد أن تعطيها ممرضة عجوز «إيصال الكشف».

تقول الأم للطبيبة: «البت سخنانة وملتهبة شوية». يطلب أحد الحضور من الممرضة العجوز عدم النظر إلى الكاميرا: «ما تبصيش يا حاجة». فما يكون من «الحاجة» سوى التفرغ لمساعدة الطبيبة فى الكشف على ظهر الطفلة بالسماعة.

فى المنزل.. رائدات ريفيات من «الصحة» يشرحن للأمهات حديثًا «طرق الرضاعة»

تنتقل الكاميرا إلى خارج عيادة الكشف التى كُتب على بابها «الاستقبال»، فتظهر وجوه لمجموعة من السيدات يحملن أطفالهن، وترتدى كل منهن زيها الريفى المميز. بينما يرتدى غالبية الرجال الظاهرين فى المشهد الجلباب والطاقية الفلاحى.

تلتقط الكاميرا موظفًا يوجه «نصيحة طبية» لإحدى السيدات الكبيرات فى السن: «لمونة تحطيها عليها».. لا أعرف يقصد مَن بـ«عليها».. طفلة لديها مريضة أم وجبة ما!

يتجول «سيبل» فى شوارع كرداسة، يسير وراء «رائدة ريفية»- بمسماها الحالى- وهى فى طريقها للمرور على منزل سيدة أنجبت حديثًا.

فى الطريق إلى المنزل، يسجل المُراسِل الدنماركى لقطات لسيدات مُتشحات بالسواد، وأخريات بزيهن الريفى الملون، كلهن يبدين الاستغراب، ومنهن من تضع يديها فوق وجهها تجنبًا للظهور، قبل أن يقطع صمت المشهد طفل يركب على دراجته وينظر إلى الكاميرا ويقول: «صور.. صور ياد حلو!».

«رضعة» أمام الكاميرا

فى المنزل المستهدف وصلت «الرائدة الريفية»، لتبدأ فى منح السيدة المستهدفة مجموعة من النصائح الطبية: كيفية إرضاع طفلتها حديثة الولادة، التطعيمات المطلوبة فى هذه المرحلة.

كل هذا والسيدة تكشف عن صدرها لإرضاع طفلتها أمام الكاميرا، بل ويطلب منها الحضور الكشف عنه «الصدر» بشكل أوضح.

«بعد شهرين أو تلاتة ممكن تبدأى توكليها.. ممكن تاكل زبادى أو رز بلبن.. وبعد أربع أو خمس شهور ممكن تغيريلها الأكل».. تقول «الرائدة الريفية»، بينما يأتيها صوت سيدة أخرى، يبدو أنها رئيستها فى العمل، طالبة منها عرض «تابلوه» أمام الكاميرا، بما يتضمنه من إرشادات للمُرضِعات، قبل أن توجه هى الأخرى نصيحة للأم: «المهم إنتى تاكلى كويس.. عشان تعرفى ترضعيها كويس».

يجرى «سيبل» بعد ذلك لقاءً مع الأم، التى يبدو من ملامحها صغر سنها بوضوح، مستعينًا فى ذلك بمُترجم:

- بقالِك كام سنة متجوزة؟

- متجوزة من ٤ سنين.

- عمرك كام دلوقتى؟ 

- ١٨ سنة.

- عندك كام عيل؟

- واحد.

- عايزة تجيبى عيال تانى؟

- نفسى فى ولد أكيد.

- إمتى ناوية تجيبيه؟

- بعد ٣ أو ٤ سنين.

- طب لو المولود التانى بنت؟

- الحمد لله على كل شىء.

- ليه عايزة ٢ بس؟

- عشان نعرف نربيهم ونعلمهم كويس، ونأكلهم أكل نضيف.

فوتو فوتو

يقف مجموعة من الأطفال أمام «سيبل» فيلتقط لقطات مرحة لهم بزيهم البسيط. يسأل أحدهم وهو يضحك: «هى دى الكاميرا؟».

تنتقل الكاميرا فى شوارع القرية، بين سيدة تبيع الطماطم، وأخرى عجوز تحمل قفصًا مُحملًا بالخضار فوق رأسها، وتقف أمام الكاميرا بكل ثقة وتطلب منه تصويرها: «يلا صور.. اتبسط!».

«حنفيات عمومية» فى الشارع.. ومحاولات تسلق الهرم موجودة منذ الثمانينيات 

مقلة «السلام» تقف فيها فتاة تبيع بشعرها، وتستعجلها سيدة لتلبية طلبها: «يلا يا عفاف».

سيدات يقفن على «حنفية عمومية» وتملأ كل منهن إناء من الألمونيوم «كنا نطلق عليه فنطاس». بينما تشرب فتاة من الحنفية المقابِلة، إلى الفم مباشرة.

من بعيد يقف تاجر ببالطو صوف لا يتوفر سوى لـ«معلم»، يُفرغ من عربة نصف نقل حمولة قصب، يبدو أنها لعصارته، أو لربما كانت لـ«عيد الغطاس».

ينتقل بعدها الشريط الثانى إلى أهرامات الجيزة، حيث ٣ شباب يحاولون تسلق الهرم الأكبر، أحدهم وصل إلى نصف الهرم تقريبًا، والآخران يتبعاه بجرأة كبيرة. 

مجموعة من السياح يخرجون من إحدى غرف الهرم المسموح بدخولها، ومجموعة أخرى تتمشى أمام «العجيبة الكبرى». 

فوج سياحى آخر آسيوى يركب الجمال، بينما صوت مصورين مصريين يتعالى: «فوتو فوتو؟».

ورا مصنع السجاد

مجموعة من مُلاك الجمال والخيول ينتظرون فوجًا سياحيًا ينزل من أتوبيس وصل توه إلى الأهرامات، ويعرضون عليهم خدماتهم، مع تحديد الأسعار.

«خلوا بالكم اللى بيصور ده».. يتعالى صوت أحدهم عندما شاهد «سيبل».

أحد «الجَمالة» يتحدث الإيطالية بطلاقة، ويعرض على المجموعة السياحية الموجودة التقاط صورة فوتوغرافية، أو ركوب الجمل. بينما يقف أشخاص لبيع هدايا تذكارية، تحديدًا لوحات مرسومة على ورق البردى.

ينتقل المراسل الدنماركى بعدها إلى أحد مصانع السجاد، بنسبة كبيرة فى كرداسة أيضًا، فالمنطقة مشهورة بهذه الصناعة منذ سنوات طويلة.

تقف فتاتان أوتت كل منهما شطرًا من الحُسن حتى اكتمل على الشاشة، تمسكان بأداة معدنية، وتزيلان الزوائد الدقيقة من سجادة كاملة الصنع تقريبًا.

يأتى فى منتصف الفتاتين من يبدو أنه مشرف عمالة يختلس من الكاميرا مشهدًا بابتسامة غير مُكتمِلة، فتضحك الفتاتان. لا تعرف إن كانت ضحكتهما بسبب التصوير، أم لرؤيتهما ذلك المشرف يضحك للمرة الأولى فى حياته.

فتاة أو سيدة أخرى مهمتها «لف» السجادة وربطها بخيط. تفعل ذلك بكل ما تحمله كلمة «دقة» من معنى، وكأنها السجادة الـ١٠٠٠ التى تتعامل معها. تغلف المشهد بابتسامة عريضة، وحلق واسع يتدلى من أذنيها، فى علامة بارزة للمصريات فى الثمانينيات والتسعينيات.

خلية نحل فى المكان، رجال وسيدات، وبكرات خيط ضخمة، وآلات يعلو صوتها فوق أى صوت، والنتيجة عشرات الوحدات من السجاد، تتجمع فى باحة المكان، تنتظر من تزيل عنها الزوائد، ومن تلفها وتغلفها، ومن يُحملها على عربات نقلها إلى الأسواق.

فاضية أهى يابهايم 

ينتقل المشهد إلى سيدة أخرى، تقف على ما يبدو أنه «نول ضخم»، وتمسك بآلة معدنية أخرى، إبرة كبيرة، تأخذ بها الخيط إلى الخارج، ثم تُعيده إلى مكانه الأول، فى سجادة تبعث أناملها فيها الروح.

شاب ظهر أخيرًا، يمسك السجادة بكل قوة، ويضعها تحت ماكينة خياطة عملاقة، ويخيط أطرافها بكل همة. يخطف نظرة إلى الكاميرا، ثم يعود إلى الماكينة، فى عملية مستمرة تُزينها ابتسامة مطبوعة على الوجه.

تمتد الخيوط على مصراعيها بين آلات ضخمة متجاورة، بيضاء وصفراء وحمراء وزرقاء فى ترتيب متكرر. يقف أحد العمال بين الآلات المُترَاصة، يشد الخيوط، أو هكذا يبدو، فى تكامل بين البشر والآلة.

ما يثير الانتباه فى الفيديو أن السجاد يُصنَع بأطوال ضخمة للغاية، ليتم بعدها قصه إلى أكثر من سجادة، وفقًا للمقاسات المطلوبة.

تعود الكاميرا إلى فتاة أخرى تزيل زوائد الخيوط عن السجادة، فيقطع المشهد صوت مشرف عمال يوجه بصوت عالٍ: «هاتوا فى الفاضى هنا.. ما هى فاضية أهى يا بهايم!».

يظهر رجلان يمسكان بإبرتين ضخمتين ويخيطان يدويًا أطراف سجادتين تنامان أمامهما.

«اطلع بيه فوق.. عايز ياخد الصالة كلها مع بعضها».. صوت أحد المشرفين يأمر عاملًا بأخذ المراسل الدنماركى إلى منطقة أعلى، حيث التقط مشهدًا رئيسيًا للمكان من الداخل.

تعالى لجاى

وقع بناء فى إحدى المناطق الصحراوية هو ختام الفيديو رقم «٣».

أكثر من نجار مُسلَح أمامهم مجموعة أخشاب، يشاهدون الكاميرا فيتوقفون عن العمل، فيأتيهم صوت مُشرف عليهم مُصاحب لـ«سيبل»: «اشتغل يالا... اشتغلوا وما تبصلوش». من بين العمال طفل يرتدى طاقية شتوية جلدية تشبه الطواقى الروسية، يعرفها جيدًا مواليد الثمانينيات والتسعينيات، يخلع الخشب من على الأعمدة الخرسانية بكل همة، ثم ينظر إلى الكاميرا ويبتسم. ينساب فى الخلفية صوت طفل آخر يقول بلهجة صعيدية: «لجاى.. تعالى لجاى»، أى «تعال إلى هنا»، قبل أن ينتهى الشريط بمهندس مساحة يقف أمام جهازه، ويوجه شخصًا فى الجهة المقابلة، وفى يده سيجارة لَف.

هنا «العاشر»

الشريط الرابع سجله أولى سيبل من مدينة العاشر من رمضان، بعد ٥ سنوات من نفخ الروح فيها، وحيث لا تزال المساحة الأكبر منها صحراء شاسعة نبتت فوقها العديد من المبانى الجديدة، سكنية أو خدمية، يحيطها شريط أخضر مميز، إلى جانب وسائل النقل المعتادة التى بدأت تعرف لها طريقًا.

تضمن الجزء الأول من الشريط مقابلة مع رئيس جهاز مدينة العاشر من رمضان عام ١٩٨٤، الذى شرح الفكرة الرئيسية من وراء إنشائها، مبينًا أن المنطقة المأهولة من إجمالى مساحة مصر لا تتعدى ٤٪.

* تبلغ المساحة المأهولة الآن ٧.٨٪، وفقًا للهيئة العامة للاستعلامات.

وكشف رئيس الجهاز عن أن المستهدف من إنشاء مدينتى «العاشر من رمضان» و«السادات» هو استيعاب نصف مليون نسمة حتى عام ٢٠٠٠.

* عدد سكان المدينة الآن يفوق المليون و١٠٠ ألف نسمة، وفقًا لرئيس جهاز المدينة الحالى.

حلول خاصة لمواجهة أزمة «تسقيع الشقق» فى مشروعات الدولة للإسكان

مما قاله أيضًا ويثير الانتباه أن المدينة لم تنشأ بغرض انتقال سكان القاهرة وغيرها إليها، بل هى عبارة عن «مدينة عمل»، وبالتالى الأولوية فيها لمن يعملون بداخلها، هم وأسرهم.

وأكد وضع بعض «القيود» لتحقيق هذه «الأولوية»، خاصة مع رغبة كثيرين فى امتلاك شقق بالمدينة، حتى مع عدم مجيئهم إليها يوميًا وسكنهم فيها من الأساس، وكأنه يشير إلى «التسقيع»، الذى يبدو أننا نعانى منه منذ فترة كبيرة.

بذكاء كبير، حاول المراسل الدنماركى وضع المسئول فى «خانة اليك»:

- وأنت.. أين تسكن؟

لكن رئيس جهاز مدينة العاشر هرب من السؤال بكل ذكاء، وأجاب بابتسامة تعلو وجهه:

- الأمر مختلف بالنسبة لى.. لم أتولَ منصبى إلا منذ شهر.

لم يمنح المراسل، وهو الذى طالما غطى حروبًا وصراعات «الداخل إليها مفقود والخارج منها مولود»، المسئول المصرى فرصة للهروب:

- هل تنوى الانتقال إلى هنا إذن؟

لكن «المصرى يكسب»، ولا يمكنك أن تغلبه فى «لف ودوران»:

- كل من انتقلوا إلى هنا من موظفى المدينة كانوا يسكنون مدنًا أخرى.

وحتى عندما عاد المراسل وسأله:

- هل ستفعل مثلهم؟

أجابه بكل ثقة:

- أنتظر انتهاء أولادى من الامتحانات، وأرى إمكانية مواصلتهم الدراسة هنا فى المدينة.

جامعات الطماطم

ينتقل المشهد إلى آلات ضخمة تروى مساحات كبيرة من المحاصيل الخضراء عن طريق التنقيط، وأشجار أخرى التقتها خراطيم المياه الممتدة إلى جانبها على الأرض، لكنها لم تكبر بعد، لتسأل نفسك وأنت تشاهد هذا بعد ٤١ عامًا كاملة: ما مصيرها الآن؟

مجموعة من أطفال الريف، أغلبهم من بنات حواء، يتصدرن المشاهد التالى، وهن يجمعن بدأب ونشاط محصول الطماطم. تمسك واحدة منهن ما جمعته يداها، وتشير بـ«حجرها» الذى امتلأ عن آخره إلى كاميرا أولى سيبل، قبل أن يوجه ضيفنا الدنماركى عدسته إلى صناديق بلاستيكية امتلأت عن آخرها بالمحصول الأحمر. سيارة ربع نقل بيضاء تخترق المشهد، وعليها مجموعة من أطفال الريف أيضًا، تكدسوا فى صندوقها المفتوح الخلفى، وبدأوا فى إطلاق صيحات الفرحة، لا تعرف فرحة بمغادرتهم إلى قراهم بعد يوم عمل طويل وشاق، أما أن أحدهم نبه إلى وجود كاميرا توجه أنظارها إليهم، ربما للمرة الأولى فى حياتهم.

تعود الكاميرا من جديد إلى «جامِعات الطماطم»، وتنتقل من مُشرف عمال يرتدى بالطو طويلًا رماديًا، ويُمسك فى يده ما يبدو أنها «عصا جلدية»، إلى طفلة تواصل أداء مهمتها بنفس النشاط، رغم ظهرها الذى فرضت طبيعة العمل انحناءه، ورغم صوت المشرف الغليظ.

ومن الطفلات الهزيلات اللاتى تغلب ابتساماتهن أى أسى فى المشهد، تنتقل الكاميرا إلى أبقار ضخمة، حيث أُقيمت مزارع لتربية الأبقار المستوردة، مُلحق بها مراكز خاصة لتجميع الألبان.

كراكون فى الشارع 

الشريط الخامس لم يختلف فى مدته عن سابقيه، نحو ٢٠ دقيقة، نصفهما مقابلة مع الفريق أول يوسف صبرى أبوطالب، وزير الدفاع والإنتاج الحربى فى الفترة من ١٩٨٩ إلى ١٩٩١، خلفًا للمشير محمد عبدالحليم أبوغزالة، ومحافظ شمال سيناء من ١٩٨٠ إلى ١٩٨٢، والقاهرة من ١٩٨٣ إلى ١٩٨٩، بما يعنى أن هذه المقابلة كانت وقت توليه منصب محافظ القاهرة.

كم عدد سكان القاهرة الآن؟ كان السؤال الأول الذى وجهه أولى سيبل إلى الفريق «أبوطالب». الإجابة كانت: «١٠ ملايين نسمة، إلى جانب ٢ مليون شخص يدخلون ويخرجون إلى ومن العاصمة يوميًا».

هذه الإجابة غريبة، فعدد سكان القاهرة فى ٢٠٢٤ وصل إلى ١٠ ملايين و٣٣١ ألفًا و٦٢٤ نسمة، وفقًا لجهاز الإحصاء، فكيف يكون نفس الرقم تقريبًا فى ١٩٨٤؟ لا أعلم إن كان «أبوطالب» أخطأ فى الرقم، أو أنه كان يتحدث عن إقليم «القاهرة الكبرى» بمحافظاته الثلاث.

وخلال المقابلة التى جرت قبل عامين من عرض فيلم «كراكون فى الشارع»، أقر المحافظ بأن الإسكان هى «المشكلة الأكبر» فى العاصمة، مشيرًا إلى عمل الحكومة على بناء ١٠ آلاف وحدة سكنية كل عام، إلى جانب دعم بناء ١٥ ألف وحدة سكنية عن طريق التعاونيات وما شابه، والسماح أيضًا للقطاع الخاص ببناء ٥٠ ألف وحدة سكنية أخرى، فى إطار مواجهة الأزمة، وفى القاهرة وحدها.

رغم هذا العدد، كانت القاهرة تحتاج– آنذاك- إلى بناء ١٥٠ ألف وحدة سكنية سنويًا، خاصة أنها تشهد زيادة سكانية بنحو ٣٠٠ ألف نسمة كل عام، وفقًا لـ«أبوطالب».

وكشف كذلك عن بناء «شبكة صرف صحى جديدة»، يمتد نفقها الرئيسى بطول ١٥ كم، ويقطع العاصمة من الجنوب إلى الشرق، ويستغرق ٥ سنوات كاملة، إلى جانب أنفاق فرعية تتصل به، بالتزامن مع العمل على تحديث شبكة المياه.

بداية «المترو» و«الدائرى»

بالنسبة لمعالجة أزمة الاختناقات المرورية، قال محافظ القاهرة فى عام ١٩٨٤: «يتم إنشاء العديد من الكبارى العلوية والطرق الجديدة، إلى جانب البدء فى بناء طريق دائرى حول القاهرة».

وقدم «أبوطالب» شرحًا وافيًا للدافع وراء إنشاء الطريق، قائلًا: «فى أى دولة يمكن تجاوز العاصمة، والانتقال من جزء إلى آخر. لكن القاهرة، ومنذ عصر الفراعنة، تعتبر الرابط الوحيد بين صعيد مصر ومصر السفلى، وبالتالى ينبغى أن يمر عليها من يريد الانتقال بينهما. ومع وجود جبل المقطم ونهر النيل كعائق، تم التفكير فى إنشاء طريق دائرى حول القاهرة لتجنب هذا التقاطع فى وسط المدينة».

تحدث أيضًا عن إنشاء مترو أنفاق القاهرة فقال: «نبنى الآن أيضًا مترو الأنفاق. لهذا السبب تجد أن العديد من الطرق الرئيسية مليئة بالإنشاءات، مع حركة مرور كثيفة فى المنطقة اليسرى من الشوارع».

وعن تمويل هذه المشروعات الضخمة، قال المحافظ: «نسعى إلى خلق مصادر دخل وطنية، إلى جانب الدعم من دول صديقة، بما فيها الدول العربية والأوروبية واليابان والولايات المتحدة»، بهدف «اللحاق بركب التنمية وتعويض ثلث قرن من الحرب».

وتوقع وصول عدد سكان القاهرة إلى ١٦ مليون نسمة، فى عام ٢٠٠٠، حال نجاح برامج تنظيم الأسرة، أو ٢٠ مليون نسمة، حال لم تنجح، رغم أن قدرة استيعاب المدينة عامةً أقل بكثير من ١٠ ملايين نسمة. 

* وصل عدد سكان القاهرة فى عام ٢٠٠٠ إلى ١٣ مليونًا و٦٢٦ ألفًا نسمة وفقًا للمجلس القومى للسكان.

تيجى تيجي ياهوى

الجزء الأخير من الشريط الخامس عبارة عن جولة فى حى بولاق بالقاهرة، تبدأ بمشهد لعجوز يحاول إيقاف «تاكسى» بشكله الكلاسيكى «أبيض فى أسود»، وهو يمسك فى يده جريدة ورقية، فى زمن كانت الجرائد ليست أمرًا غريبًا أو نادرًا.

نحن فى «وكالة البلح» الآن، لا يمكن أن تجهلها عين، حيث محال و«فرشات» الملابس.

كل الوجوه تقريبًا تتطلع إلى كاميرا «سيبل». أطفال خارجون لتوهم من مدارسهم، وآخرون فى طريقهم إلى أعمالهم، وسيدات وقفن أمام محال الملابس لـ«الفصال» أكثر من الشراء!

 أحمد عدوية الترند بـ«تيجى يا هوى» و«راحوا الحبايب»

تبدو لافتة محل من بعيد كُتب عليها: «فوزى زخارى وشركاه».. أخرى تُعلن عن محل آخر لبيع قطع غيار السيارات. وعلى الأرض طاولات فُرش عليها حبال بلاستيكية ومستلزمات منزلية، وصوت يأتى من بعيد: «بجنيه ونص.. كله بجنيه ونص!».

محال لبيع كل شىء تقريبًا تستعرضها عدسة المراسل الدنماركى فى تتابع، وفى الخلفية صوت أحمد عدوية وهو يغنى: «تيجى.. تيجى تيجى .. تيجى تيجى يا هوى».

كثير من هذه المحال تبيع «البالة»، والستائر والأغطية وغيرها من المفروشات، فى مشهد ما زال حيًا حتى الآن. البعض الآخر يبيع أقفاصًا من جريد النخيل وحبالًا من «ليفها»، ومقاطف من الخوص والجلد، وجرادل من الألومنيوم، وغيرها من المنتجات التى يمكن أن نصفها بـ«المنقرضة» الآن.

«مستنضفك أهو وبيصورك».. يداعب تاجر زميله. يطلب أحد الأطفال من «سيبل» تصويره: «مستر صورنى». بينما يسأله آخر من أمام محل «سمكرة سيارات»: «كاميرا بتصور دى؟».

يختتم المراسل الدنماركى الشريط الخامس بلقطة عبقرية، تظهر فيها ناطحتا سحاب- إن صح التعبير فى هذا الزمن- تبدوان كخلفية للحى الشعبى.

الخطة الخمسية

الشريط السادس كاملًا عبارة عن مقابلة مع محمود صلاح الدين حامد، الذى تولى وزارة المالية خلال فترتين، من ٩ نوفمبر ١٩٧٦ حتى ١٠ مايو ١٩٧٨، و من ٣ يناير ١٩٨٢ حتى ١١ نوفمبر ١٩٨٦.

أهمية هذه المقابلة تكمن فى أن المشكلات والحلول التى يتحدث عنها «حامد» قبل ٤١ عامًا، هى نفسها مشكلات وحلول ٢٠٢٥!

فى المقابلة، أكد «حامد» سعى الحكومة لزيادة الصادرات وتقليل الواردات، من خلال زيادة الإنتاج المحلى، سواء من الزراعة أو الصناعة، وتقليل استيراد «السلع الفاخرة».

 ما سبب شعور الحكومة بالرعب بعد هجرة المصريين إلى الخليج؟ 

وقال وزير المالية: «الآن لدينا خطة خمسية، تتضمن التركيز على بعض الأسس التى يمكنها تطوير الاقتصاد بسرعة كبيرة، على رأسها استغلال الموارد فى القطاعات التى تدر أكبر عوائد ممكنة، وعلى رأسها الزراعة والصناعة، إلى جانب جذب النقد الأجنبى، إما من خلال تحويلات المصريين العاملين فى الخارج، أو عن طريق الصادرات».

وأضاف الوزير: «العام الأول من تنفيذ الخطة أظهر نتائج مميزة، بينها زيادة معدل نمو الناتج المحلى الإجمالى الحقيقى إلى ٧.٥٪».

ونبه إلى أن هجرة المصريين للعمل فى الخليج قد تكون عادت على الاقتصاد بالكثير من الفوائد. لكنها فى الوقت نفسه أفقدتنا الكثير من مواردنا البشرية التى يحتاجها البلد، ما تطلب من الحكومة تدريب المزيد من السكان وفقًا لهذه الاحتياجات.

صندوق النقد

تطرق وزير المالية كذلك إلى مطالبات صندوق النقد الدولى للحكومة بإلغاء أو خفض الدعم، خاصة دعم المواد الغذائية، مشيرًا إلى أن الصندوق يعمل وفقًا لنهج كلاسيكى قائم على التعامل مع الجانب الاقتصادى دون الجانب الاجتماعى للمشكلة.

وأضاف الوزير: «فى العالم الحقيقى، يتطلب الأمر التعامل مع المشاكل الاجتماعية والاقتصادية معًا، خاصة فى بلد تعيش نسبة كبرى من سكانه فى مستوى قريب من الكفاف»، مُقدرًا مستوى دخل المواطن المصرى بنحو ٥٠٠ دولار فى السنة.

وواصل: «إذا ما أردنا مساعدة المواطنين على مواجهة التضخم، ينبغى أن نقدم لهم بعضًا من الدعم الغذائى. إذا أردت خفض الدعم أو إلغاءه يجب أن يكون لديك هيكل أجور كاف لإبقاء المواطنين على قيد الحياة. الأمر يتطلب تحقيق التوازن بين الأجور ومعدل التضخم».

وكشف عن موافقة صندوق النقد الدولى على وجهة النظر المصرية تلك، وخفض أو إلغاء الدعم خلال فترة زمنية كبيرة، بدلًا من عامين أو ٣ أعوام، كما كان يطالب فى البداية.

راحوا الحبايب

على صوت أحمد عدوية أيضًا، وتحديدًا أغنية «راحوا الحبايب» الصادرة عن مشغل كاسيت «توشيبا»، يبدأ الشريط السابع، من داخل محل حدادة فى القاهرة، حيث يجلس صاحبه أمامه، ناظرًا إلى المسجل المغطى بقطعة قماش حمايةً له من الشمس!

ينتقل أولى سيبل بعدها إلى سوق تجارية مزدحمة، وكالعادة تتجه كل العيون إلى الكاميرا.

«بيصور إيه ده؟».. يسأل مار. تأتيه الإجابة من «زميلة شارع»: «بيصور الهرجلة اللى إحنا فيها».

ومن زحام السوق إلى النيل بلونه الفضى، وعلى ساحله تبدو مداخن مصانع قريبة، تأخذ هى الأخرى نصيبها من المشهد، قبل أن يزاحمها فيه مركب بخارى صغير. ثم ينتقل إلى فلاحين فى أرض زراعية أمام محصول محصود، ومنه إلى ٣ سيدات يغسلن الملابس فى نهر النيل.

سيدة تحمل الماء فى صفيحة فوق رأسها تختلس نظرات إلى الكاميرا، التى تعوق أداء مهمتها اليومية فى نقل الماء من النيل القريب إلى منزلها. رجلان وشاب وطفلان جلسوا بالقرب من حقل أخضر رغبة فى «تشميسة». آخر يركب حماره وأمامه «كومة برسيم»، يحاول تفادى عربة «شرطة عسكرية» بشكلها المميز، وبطة وأوزتان تجمع ما يسقط منه من غذاء طازج، وصل إليهن دون طلب.

ساقية أُقيم ما يشبه بيتًا خاصًا لها، وبالقرب منها تجلس «جاموس» تلوك غذاءها باستمتاع، إلى جوار ماعز وحمل صغير، وحيث وجد طفل صغير بجلباب رمادى الراحة النفسية المطلوبة لينام وسطها بكل أمان واستمتاع.

وفى مكان قريب وقفت «درَّاسَة قمح»، وفوقها رجل يملؤها بعيدان القمح الجافة، التى يناولها له شاب بهمة كبيرة. وعلى الطريق السريع رجل يجر بحماره جملين وراءه، لا تعرف إن كان قد اشتراهما للتو، أم أنه فى طريقه لبيعهما فى سوق قريبة.

منطقة ريفية دون أدنى شك، على ضفاف نهر النيل تحديدًا. لكن ناشر الفيديو يقول إنها القاهرة.. يمكن أن يكون إحدى ضواحيها.

لنعد إلى القاهرة التى نعرفها. 

يختتم «سيبل» الشريط السابع بمشاهد عن الازدحام المرورى فى «ابنة المعز».

سيارات تُسلم على بعضها البعض من فرط الازدحام، وسباقات مُنشطة للدورة الدموية جريًا وراء الأتوبيسات، وترابط اجتماعى مادى ومعنوى لمن أسعفه الحظ ولحق بأحدها.