«الغوث الغوث من شهر الصيام».. هل يكره الشعراء والأدباء رمضان؟!

- البحترى يطلب التمتع بشعبان قدر الإمكان.. «وراؤه شهر يمنعك الرحيق السلسلًا»
- ابن الرومى «يتنازل عن الأجر الذى أعدّه الله له جزاء الصوم»
- ابن الأعرابى يستعين بشهر الصوم وأيامه ولياليه فى التغزل بامرأة يحبها
- ابن الراوندى لم يصم امتثالًا للأمر الربانى بل استجابة لطلب إحدى صاحباته
ما أجمل رمضان! شهرٌ لا يمكن بأى حال أن تكرهه، فمن منطقة الدين بكل ما فيه من عبادة وتقرب إلى الله ورحمة ومغفرة وعتق من النيران، إلى منطقة الطقوس بكل ما فيها من استمتاع وروحانية وصفاء نفسى، وأيضًا ماضٍ لا نشبع من الحنين إليه، يظل الشهر التاسع الهجرى هو «يوسف الشهور»، بين أحد عشر أخًا طوال السنة، كوصف بعض العلماء.
وفى ظل هذه المكانة الكبيرة، انبرى الأدب العربى للتعبير عن «نفحات» رمضان، عباداته، طقوسه، أيامه، لياليه، ذكرياته.. كل ما فيه، لكن ما قد لا يعرفه كثيرون أن فى محيط الأدب العربى، ضفة أخرى لم يزرها كثيرون، ثار فيها شعراء وأدباء وكُتاب على الشهر الفضيل، مُبدين تذمرهم وضيقهم من طول أيامه وصعوبة الصوم فيها، حتى قال أحد أشهر الشعراء فى تاريخ العرب عن رمضان: «لو أمكن أن يُقتَل شهرٌ لقتلناكا»!
فى السطور التالية، نزور هذه المنطقة، لعلنا ننقلكم إليها، فى رحلة لن تخلو من المتعة، اللازمة لشهر «استغاث» منه البعض، كما سنرى بعد قليل.

صوم الليل أيسر من النهار
بالبحث فى التراث، يصادفك الكثير من الأبيات الشعرية والنصوص والحكايات النثرية، التى يُعبر من خلالها أصحابها عن ضيقهم ذرعًا بشهر رمضان، لطول أيامه وصعوبة حَرها وصومها، وانقطاعهم فيها عن كل ما لذ وطاب.
ها هو أعرابى يزور أقارب له فى إحدى الحواضر، سألهم عن الطعام، فأبدوا استغرابهم: أى طعام؟!.. نحن فى رمضان. سأل باستغراب أكبر مِن استغرابهم: رمضان؟! ماذا تعنى هذه الكلمة؟! قالوا له: إمساك عن طعام وشراب بأمر إلهى.
سأل: رمضان بالليل أم بالنهار؟ أخبروه بأن النهار هو الإجابة الصحيحة. حاول البحث عن أى مهرب: ألا يوجد بديل عن الصوم؟ أجابوه ب«لا»، فسأل: إن لم أصم.. ماذا ستفعلون؟ قالوا: تُضرب.. وتُحبَس!
لم يجد مفرًا من الصوم، وصام أيامًا بالفعل، لكنه لم يصبر، ليفاجئوا به دون أى مقدمات يلملم أغراضه ويهم بالرحيل عنهم مُرددًا:
يقول بنو عمى وقد زرت مصرهم
تهيأ «أبا عمرو» لشهر صيام
فقلت لهم: هاتوا جرابى ومزودى
سلام عليكم فاذهبوا بسلام
وبادرت أرضًا ليس فيها مُسيطرٍ
علىّ ولا منّاع أكل طعامِ
وها هو أيضًا عيينة بن حصن الفزارى، المعروف لدى قومه بالحمق، يدخل على الخليفة الثالث عثمان بن عفان ليلًا، فيطلب له العشاء، فيقول «عيينة»: إنى صائم. يعجب خليفة رسول الله بفعله ويسأل: أمواصل أنت «يا عيينة»؟ فيسأله: وما الوصال يا أمير المؤمنين؟ يقول: أن تصوم يومك وليلتك ويومك الثانى حتى المساء، فقال «عيينة»: لا والله يا أمير المؤمنين، ولكنى وجدت صوم الليل أيسر علىّ من صوم النهار!
صاحبنا الثالث شاعر مجوسى، كان حديث العهد بالإسلام، ولما أدركه أول رمضان بعد إسلامه صامه، لكن الجوع والعطش ألحّا عليه، فلم يجد بُدًا من القول:
وجدنا دينكم سهلًا علينا
شرائعه سوى شهر الصيام
أما الرابع فوصل به الضيق من الصوم إلى «الاستغاثة» من الشهر المُعظم:
الغوث من شهر الصيام
إذ صار لى مثل اللجام
حتى أُمتّع بالنساء
وبالشراب وبالطعام
الخامس هو الشاعر «أبوالهندى»، الذى عُرف بولعه بالخمر وتعلقه بها، ويُقال أن أبا نواس «أخذ» كثيرًا من أشعاره عن الخمر، أو استمدها منه... أما علاقته برمضان فحكاية.
«أبوالهندى» هذا كان يسكن بغداد، فإذا أقبل رمضان رحل منها إلى فارس أو بلاد الشام، حيث لا تفارقه الكأس، حتى إذا انقضى شهر الصيام عاد إلى أرض الوطن. لذا ليس من الغريب أن يقول الأبيات التالية، التى يشيد فيها بمن رحل إليهم هربًا من رمضان وصومه
شهر الصيام دنت منا طلائعه
فأرحل لفارس أو فأرحل إلى الشام
وكيف يعرفنى من لست أعرفه
لا الدار دارى ولا الأقوام أقوامى
حيوا بأزهارهم حتى إذا قربت منها
الأباريق حيا جامهم جامى!
أما تلميذه «أبى نواس» فحدث ولا حرج، فأشعاره تعاملت مع رمضان كأنه خصم فى ساحة معركة. انظر إليه مثلًا وهو يقول:
منع الصوم العقارا وزوى اللهو فغارا
وبقينا فى سجون الصوم للهم أسارى
غير أنا سنُدارى فيه من ليس يُداری
نشرب الليل إلى الصبح صغارًا وكبارا
ونتغنى ما اشتهينا من الشعر جهارا
فاسقنى حتى ترانى أحسب الديك حمارًا!
ومن الطرائف التى تُنسب إليه أيضًا، وصفه لـ«عرقوب» فتاة أراد أن يخطبها لنفسه:
نُبئِت أن فتاة كنتُ أخطبها
عرقوبها مثل شهر الصوم فى الطول
وبينما الشهر يغطى الدنيا بنفحاته، تجده يسأل فى تبرم عن موعد حلول شوال:
ألا يا شهر كم تبقى؟
مرضنا ومللناكا
إذا ما ذُكر الحمد
لشوال ذممناكا
فياليتك قد بنت
وما نطمع فى ذاكا
لو أمكن أن يُقتَل
شهرٌ لقتلناكا
الشاعر العباسى «ابن الرومى» هو الآخر كان من «أعداء رمضان». حل عليه الشهر فى أغسطس مرة، فقال عن ذلك مُستاءً:
شهر الصيام مبارك
ما لم يكن فى شهر «آب»
الليل فيه ساعة
ونهاره يوم الحساب
خفتُ العذاب فصمته
فوقعت فى نفس العذاب
نفس المعنى يعبر عنه شاعر ثانى فيقول عن رمضان:
واليوم فيه كأنه من طوله يوم الحساب
والليل فيه كأنه ليل التواصل والعتاب

يمشى الهوينى كأنه بطة
ما زلنا ضيوفًا لدى المتذمرين من رمضان، ومن بينهم «ابن الرومى»، الذى أبدى ضيقه، قبل قليل، من الصوم فى أغسطس، فللرجل أبيات أخرى مشهورة فى المنطقة ذاتها.. يقول:
شهر الصيام وإن عظمت حرمته
شهر طويل ثقيل الظل والحركة
يمشى الهوَينَى فإما حين يطلبنا
فلا «السليك» يدانيه ولا «السلكة»
أذمه غير وقت فيه أحمده
منذ العشاء إلى أن تصيح الديكة
وكيف أحمد أوقاتًا مذممة
بين الدءوب وبين الجوع مشتركة
يا صدق من قال: أيام مباركة
إن كان يعنى عن اسم الطول بالبركة
شهر كأن وقوعى فيه من قلقى
وقوع الحوت فى الشبكة!
لو كان مولى وكنا كالعبيد له
لكان مولى بخيلًا سيئ الملَكة
قد كاد لولا دفاع الله يسلمنا
إلى الردى ويؤدينا إلى الهلكة!
و«سليك» و«سلكة» من عدّائى العرب المُتهورين، فرمضان لدى «ابن الرومى» بطىء جدًا، إذا ما حل، لكنه يأتى بسرعة كعدّاء يسبق الخيل!
هناك أبيات قريبة جدًا إلى هذا المعنى، تُشبِه رمضان «إذا ما كان يطلبنا» بطالب ثأر يركب على فرس ويطارد «المطلوب للثأر». أما فى أيامه الأخيرة فيمر بطيئًا جدًا، وكأنه «بطة» علقت فى شبكة:
شهر الصيام وإن عظمت حرمته
شهر طويل بطىء السير والحركة
يمشى الهوَينَى إذا ما رام فرقتنا
كأنه بطة تنجر فى شبكة
لا يستقر فأما حين يطلبنا
فلا «سليك» يدانيه ولا «سلكة»
كأنه طالب ثأرًا على فرس
أجد فى إثر مطلوب على «رمكة»
يا صدق من قال أيام مباركة
إن كان يكنى عن اسم الطول بالبركة
«ابن الرومى» صاحب صولات وجولات من التذمر تجاه رمضان، ففى الأبيات التالية يعرب عن ضيقه من طول أيام الشهر المعظم، ويتمنى لو كان يومًا واحدًا يمر مر السحاب:
إذا بركت فى صوم لقوم
دعوت لهم بتطويل العذاب
وما التبريك فى شهر طويل
يطاول يومه يوم الحساب
فليت الشهر فيه كان يومًا
ومر نهاره مر السحاب
فلا أهلًا يمانع كل خير
وأهلًا بالطعام وبالشراب
وبلهجة أكثر حدة، يهاجم «ابن الرومى» رمضان فى أبيات أخرى، إلى حد أنه «يتنازل عن الأجر الذى أعدّه الله له جزاء صومه»، ويكتفى بأن يكون هذا الأجر هو «انتهاء الشهر»:
شهر الصيام مبارك لكما
جُعلت لنا بركاته فى طوله
من كان يألفه فليت خروجه
منى- بجدع الأنف- قبل دخوله
إنى ليعجبنى تمام هلاله
وأُسَرُ بعد تمامه بنحوله
لا أستثيب على قبول صيامه
حسبى تصرمه ثواب قبوله
ويقول شاعر آخر أتعبه رمضان:
ثقل الصوم علينا أثقل الله عليه
زارنى بالأمس بدر كنت مشتاقًا إليه
فمضى لم أقضِ منه حاجة كانت لديه!
أما مُحب الطعام والشراب هذا فيقول:
قل لشهر الصيام: أنحَلتَ جسمى.. إن ميقاتنا طلوع الهلال
اجهد الآن كل جهدك فينا
سنرى ما يكن فى شوال
بينما يطلب «البحترى» التمتع بشعبان قدر الإمكان:
فتروا من شعبان إن وراءه.. شهرًا سيمنعك الرحيق السلسلًا
وفى أبيات أخرى، ورغم انقضاء ٢٧ يومًا من رمضان، يطلب «البحترى» من الله عز وجل أن يجعل الشهر كله ليلًا:
قد مضت سبعة وعشر وعشر
ما نذوق اللذات إلا لمامًا
ما على الليل لو أقام علينا
أو يرانا من الصيام صيامًا
أما بديع الزمان الهمذانى فيقول عن رمضان: خصك الله بتقصير أيامه، فهو وإن عظمت بركته، ثقيلة حركته، جعل الله قدومه سبب ترحاله، وبدره فداء هلاله، وأمد فلكه تحريكًا، وأظهر هلاله نحيفًا، لنزف إلى اللذات زفيفًا.

صمنا «الثلاثين» فى يوم
لم يكن نصيب رمضان من الأدب العربى التذمر والضيق منه فحسب، فقد استخدمه الشعراء والظرفاء والكُتّاب باختلاف كتابتهم فى الكثير من الأغراض، خاصة فى ذم البخل.
من بين هؤلاء الشاعر ابن سكرة الهاشمى، الذى أوقعه حظه ضيفًا عند بخلاء، فقال واصفًا مُضيفيه الذين «لم ير لهم نارًا»، وأرغموه على «الصوم» فى غير رمضان، وهو «شىء لا يعدمه»:
أما الصيام فشىء لست أعدمه مدى الزمان وإن بيتُ إفطارًا
أغشى أناسًا فأغشى فى منازلهم جوعًا على ولا أغشى لهم نارًا
ودخل شاعر على رجل بخيل، فاضطرب البخيل كأنه يوم الزلزلة، وعرق كأن الشمس قد دنت منه دُنُو يوم القيامة، فما دام آتاه هذا الضيف فلا بد له من طعام، ويا قسوة هذه الكلمة على مسامعه. إما الطعام أو سيهجوه هجاءً يسمع به البعيد قبل القريب. لكن الشاعر رق لحاله، ولم يرضَ الاقتراب من طعامه، واكتفى بوصفه فى هذه الأبيات:
تغير إذ دخلت عليه حتى
فطنت فقلت فى عرض المقال
على اليوم نذرٌ من صيام
فأشرق وجهه مثل الهلال!
عندنا أيضًا قول أبو الحسن الحرانى فى رجل اشتهر ببخله فى تقديم الطعام للضيوف:
على عدد القوم رغفانه
فلست ترى لقمة زائدة
أرى الصوم فى داره للفتى
إذا حللها أعظم الفائدة
ومثله يقول شاعر آخر، واصفًا البخيل الذى يرغب لضيوفه أجر الصوم:
يحذر أن يتخم إخوانه
إن أذى التخمة محذور
ويشتهى أن يؤجروا عنده
بالصوم ولا صائم مأجور
ويروى عن «أشعب» أنه دخل على أحد الولاة، فى أول يوم من أيام رمضان، طالبًا الإفطار عنده، فجاءت المائدة وعليها «جَدى»، فلم يُرجعه «أشعب» إلا عظامًا خالية من أى لحم، وكأنه لم يُخلق بعد، فاشتعل غضب الوالى، وقرر الانتقام من صاحبنا. قال الوالى مُخاطبًا إياه: اسمع يا «أشعب»، أن أهل السجن سألونى أن أرسل إليهم من يصلى بهم فى شهر رمضان، فامض إليهم وصلِ بهم واغنم ثوابهم، فرد «أشعب» وقد فهم قصد الوالى: أرجو أن تعفينى من هذه المهمة، مقابل أن أحلف لك بالطلاق والعتاق أنى لن أكل لحم «جدى» ما عشت أبدًا!.. فضحك الوالى وعفا عنه.
أما أسامة بن منقذ، فيستخدم شهر الصوم فى وصف فترة حكم السلطان محمود نور الدين زنكى، وأيامه الملأى بالجوع والعطش، فيقول:
سلطاننا زاهد والناس قد زهدوا
له فكلٌ إلى الخيرات منكمش
أيامه مثل شهر الصوم خالية
من المعاصى وفيها الجوع والعطش
ويُحكى عن مزيد المدنى، المعروف بظُرفه بين العرب، أنه سمع حديث: «صوم يوم عرفة يعدل صوم سنة بكاملها»، فصام إلى الظهر، ثم أفطر، ولما سُئل عن سبب ذلك، أجاب: يكفينى ٦ أشهر!
ظرفاء عرب آخرون سُئِلوا: كيف صنعتم يا قوم فى رمضان؟ فقالوا: كنا إذا أتى شهر رمضان اجتمعنا ٣٠ رجلًا فصُمناه فى يوم واحد واسترحنا منه... فكرة!
وينقل الدكتور محمود أحمد الحفنى، المؤرخ الموسيقى، فى العدد الحادى عشر من مجلة «الفنون العشبية»، أغنيتين مصريتين ظريفتين عن رمضان، الأولى عن الاستعدادات للشهر الكريم:
أظن الولية زعلانة
وما كنت أقصد إزعالها
أتى رمضان فقالت هاتوا لى
زكيبة نقل فجبنالها
ومن قمر الدين جبنا ثلاث
لفائف تتعب شيالها
وجبت صفيحة جبن
لوازم ما غيرها شافها
فقل لى على إيه بنت الذين
بتشكى إلى أهلها ما لها؟!
أما الأغنية الثانية فتتهكم ممن يصابون فى رمضان بالتخمة من كثرة ما يملأون به بطونهم:
نصف شعبان قد مضى ووراء النصف باقى الأيام من شعبان
فترى كل ما تحب وتهوى من شهى الطعام فى رمضان
من كباب وكفتة وفطير وكناف متقونة فى الصوانى
وفراخ محمرات بسمن خير ما يشترى من الفراخانى
وأبدأ الأكل عندما يضرب المدفع وألهط وأشفط وأقربع كمانى
غير أنى أخاف أن يتخم الأبعد أو أن يصاب بالزوران
ليس معنى الصيام لو كنت تدرى جوعة ثم أكلة عمیانى

أفطر على قُبلٍ منك
الغزل من الأغراض الأخرى التى أخذت نصيبها من رمضان، فها هو «ابن الأعرابى» يستعين بشهر الصوم وأيامه ولياليه فى التغزل بامرأة يحبها، فيقول واصفًا إياها بليلة القدر:
فلو كنتِ يومًا كنتِ يوم تواصل
ولو كنتِ ليلًا كنتِ لى ليلة القدر
ولو كنت عيشًا كنت نعمة جنة
ولو كنتِ نومًا كنتِ إغفاءة الفجر
ويقول شاعر آخر، داعيًا الله بمجىء رمضان، لا لعبادة وإنما طلبًا لليلة القدر، يدعو فيها الله أن يُنجى العاشقين من الهجر:
هجر وسقم واشتياق وغربة
وعين بلا نوم وقلب بلا صبر
تمنيت شهر الصوم لا لعبادة
ولكن رجاء أن أرى ليلة القدر
فأدعو إله العالمين بدعوة
فيا رب نجِّ العاشقين من الهجر
أما «الوأواء الدمشقى»- نعم هذا اسمه- فصام فى «يوم شك» آخر رمضان، بينما أفطر الناس، فسأل حبيبته، وبالمرة تغزل فيها، وكأنها «حجة بقديسة»:
سألت من شفنى هواه
ومن هاجرنى منذ عشقته النوم
أأفطر الناس؟ قال مبتسمًا:
زيد عليهم فى صومهم يوم
فقلت: يا من خسرت آخرتى فيه
ولم يغن عنى اللوم
إن لم أكن مفطرًا على قُبلٍ منك
فدهرى جميعه صوم!
سيدى يا سيدى!
وتروى كتب الأدب عن «ابن الراوندى» أنه لم يصم امتثالًا للأمر الربانى، بل استجابة لطلب إحدى صاحباته، التى قالت له– وقد كان سمينًا-: فلتصم رمضان حتى تتخلص مما زاد من وزنك، وهو ما عبر عنه بقوله:
وقائلة وقد جلست جوارى
سمنت وكنت قبلئذ نحيفًا
وراءك فى غد شهر ثقيل
فصُمه لكى تكون فتى نحيفًا
لوجهكِ لا لوجه الله صَوْمى
ولو أنى لقيت به الحتوفا!
وقال أديب ظريف طالبًا الفتوى من فقهاء، على سبيل الدعابة:
هذا رمضان كلنا نخشاه... من أجل الصيام
ما قولك يا فقيه فى فتواه؟... عجل بكلام
من بات معانقا لمن يهواه... فى جنح ظلام
هل يفطر عندما يقبل فاه... أم صام تمام؟
فأجابه ظريف آخر وكأنه الفقيه الذى تُرجى إجابته:
يا من سأل الفقيه فى فتواه... الشرع فسيح
استمع لكلامنا وخذ معناه... إن كنت فصيح
من بات معانقًا لمن يهواه... إن كان مليح
لا يفطر عندما يقبل فاه... بل صام صحيح
اشربوا عجلى فقد جاء الصباح
ولم يكن «التسحير» مقصورًا على الرجال، بل شاركت فيه النساء، ولما جاءت إحداهن إلى الشيخ زين الدين بن الوردى، قال واصفًا إياها:
عجبتُ فى رمضان من مُسحِرةٍ
بديعة الحسن إلا أنها ابتدعت
قامت تسحرنا ليلا فقلت لها
كيف السحور وهذى الشمس قد طلعت؟!

رمضان ولى هاتها يا ساقى
الفرحة بانقضاء شهر الصوم وقدوم شوال احتلت حيزًا كبيرًا فى «أدب رمضان». «ابن المعتز» مثلًا، الذى يرد سقاة الخمر فى رمضان:
ونهانى الصيام عن سفه الكأس
فرددت على السقاة المُداما
يتحمس فى موضع آخر مُرحبًا بحبيبته الخمر، بعد انقضاء الشهر الكريم:
أهلا بفطر قد أنار هلاله الآن فاغد على المُدام وبكرِ
وانظر إليه كزورق من فضة... قد أثقلته حمولة من عنبرِ
يتفق معه «القاضى الفاضل»، فيقول فرحًا بقدوم شوال:
قضى نحبه الشهر بعد المطال
وأطلق من قيد فتر الهلال
وروض كاتب جنبى اليمين
وأتعب كاتب جنبى الشمال
فدع ضيقه مثل شد الإسار
إلى فرجة مثل حل العقال
وقم هاتها مثل ذوب النضار
وموج البحار وطعم الزلال
ولم يختلف عنهما الشاعر الذى قال:
أقول لصاحبى وقد بدا لى... هلال الفطر من تحت الغمام
سنسكر سكرة شنعاء جهرًا... وننعر فى قفا شهر الصيام
ولا «أحمد بن يزيد» عندما طلب الخمر بعد رمضان، معتبرًا أيام الصوم مقطوعة من عمره:
إلا فاسقيانى من معتقة الخمر
فلا عذر لى فى الصبر أكثر من شهر
وإن كنتما لم تعلما فتعلما
بأن زمان الصوم ليس من العمر
كما فعل الأمر ذاته «الفرزدق» فقال:
إذا ما مضى عشرون يومًا تحركت
أراجيف بالشهر الذى أنا صائمه
وطارت رقاع بالمواعيد بيننا
لكى يلتقى مظلوم قوم وظالمه
فأن شال شوال نشل فى أكفنا
كئوستعادى العقل حين تسالمه
وكذلك أنشد أبوالحسين الجزار وفخر الكتاب الطغرائى:
هلال الفطر لما بدا مستحسنًا فى أعين الناس
وددت أن ألثمه عندما راح يحاكى شفة الكاس
وقال:
قوموا إلى لذاتكم يا نيام
ونهبوا العود وصفوا المُدام
هذا هلال الفطر قد جاءنا
بمنجل يحصد شهر الصيام
ولعل كل هذه الأبيات هى ما استمد منه أمير الشعراء أحمد شوقى أبياته الشهيرة التالية:
رمضان وَلّى هاتِها يا ساقى
مُشتاقة تسعى إلى مشتاق
ما كانَ أكثره على أُلّافِها
وأقلَّهُ فى طاعة الخَلاق
الله غفار الذنوب جميعها
إن كان ثم من الذنوب بواقى
بالأمس قد كُنا سجينى طاعة
واليوم من العيد بالإطلاق
ضحكت إلىّ من السرور ولم تزل
بنت الكروم كريمة الأعراق
أما «ابن بسام» فذهب إلى توجيه الشكر لرمضان، ليس لما فيه من عبادة، بل لأن انشغال الناس فيه بالعبادة أتاح له الفوز بكل لذة!
سقيا لشهر الصوم من شهر
عندى له ما شاء من شكر
كم من عزيز فيه فزنا به
أنهضه الليل من الوكر
ومن إمام كان لى وصله
على كحيل العين بالسحر
لو كان يدرى بالذى خلفه
أعجله ذاك عن الوثر
وخلة زارتك مشتاقة فى
ليلة القدر على قدر
فانصرف الناس بما أملوا
وبؤت بالآثام والوزر!
وعن أواخر رمضان أيضًا، روى الدكتور محمود أحمد الحفنى، المؤرخ الموسيقى، فى مجلة «فنون شعبية»، أن الأطفال، فى غروب شمس آخر أيام رمضان، كانوا يصعدون فوق سطوح المنازل، ويدقون دقًا عنيفًا على الصفائح، صائحين بصوت عالٍ: «رمضان مات مات»، مُرجعًا ذلك إلى اعتقادهم بأن فى هذا الضجيج والصراخ ما يسهل خروج «روح» رمضان، بعدما مات وانقضت أيامه!

تبًا لأوقات المخلل
فى المقابل، نجد هبة الله بن الرشيد يطلب الفرح بصوم رمضان، مستهينًا بترك الطعام والشراب فى سبيل ما فى الشهر من جزاء:
تهنَ بهذا الصوم يا خير صائر
إلى كل ما يهوى ويا خير صائم
ومن صام عن كل الفواحش عمره
فأهون شىء هجره للمطاعم
وفى التشهير بالمُفطرين يقول أحدهم:
جاء الكتاب بأعمال لها حكم
إن ظل يعملها الأعمى تبصره
منها الصلاة ومنها الصوم هل
سقطت عنك الصلاة لعذر أنت ذاكره؟
صام الأفاضل شهر الصوم وانسكبت
دموعهم لشهور لست تحضره
وأنت ساهِ ولاهِ غير مرتكب
إلا الذى كاتب الأوزار يحصره
أطعت بطنك ما لاحظت عاقبة
یا من تصاغر والدنيا تكبره
وما فى رمضان من مظاهر فريدة وجد طريقه هو الآخر إلى الأدب العربى، وعلى رأسها أكلات الشهر المعظم، خاصة «القطائف» و«الكنافة»، حتى إن جلال الدين السيوطى جمع ما قيل فيهما، فى كتاب سماه «منهل اللطائف فى الكنافة والقطائف».
يقول ابن هبة الله المصرى عن «القطائف»، وكيف أنها حلت محل الخمر:
وأتى الصيام فوافتنا قطائفه
كما تسنمت الكثبان من كثب
أهلًا بشهر غدا فيه لنا خلف
أكل القطائف عن شرب ابنة العنب
وفى «القطائف» أيضًا يقول أبوهلال العسكرى:
کثيفة الحشو ولكنها
رقيقة الجلد هوائية
رُشت بماء الورد أعکافها
منشورة الطى ومطوية
جاءت من السكر فضية
وهى لدى الأذهان تبرية
كما يقول عنها سيف الدين المشد:
وقطائف مثل البدور
أتت لنا من غير وعد
قد أُسقيت قطر النبات
وطُيبت بالماء ورد
فحسبتها لما بدت فى
صحنها أقراص شهد
ويصفها سعد الدين بن عربى بقوله:
وقطائف مقرونة بكنافة
من فوقهن السكر المذرور
هاتيك تطربنى بنظم رائق
ويروقنى من هذه المنثور
أما ابن نباتة المصرى فيخاطب رمضان، داعيًا الله أن يرعاه بسبب «القطائف»:
رعى الله نعماك التى من أقلها
قطائف من قطر النبات لها قطر
أمد لها كفى فاهتز فرحة كما
انتفض العصفور بلله القطر
أما «الكنافة» فيُقال إن أول من اتخذها من العرب هو معاوية بن أبى سفيان، وكان يأكلها فى السحور، بعدما وصفها إليه طبيبه الخاص، عندما شكا إليه الجوع.
ومما قيل فى «الكنافة» قول أبى الحسين الجزار:
سقى الله أكناف الكنافة بالقطر
وجاد عليها سكر دائم الدر
وتبًا لأوقات المخلل
إنها تمر بلا نفع وتُحسَب من عمرى
و«القُطر» ما تسقى به الكنافة من العسل والسكر المعقود.
ويقول أيضًا فيها شهاب الدين الهائم:
إليكِ اشتياقى يا كنافة زائد
ومالى غناء عنك كلا ولا صبر
فلا زلت أكلى كل يوم وليلة
ولا زال منهلًا بجرعائك القطر
أما ابن نباتة المصرى فعندما أُهديت إليه «الكنافة» قال:
يا سيدى جاءتك فى صدرها
كأنهار روحى فى صدرى
كنافة بالحلو موعودة
كما تقول العسل المصرى
كذلك حظى فانوس رمضان باهتمام مماثل، خاصة مع استخدامه العملى فى السحور، فيقول عنه أبو الحجاج يوسف بن على، واصفًا إياه بالنجم:
ونجم من الفانوس يشرق ضوءه
ولكنه دون الكواكب لا يسرى
ولم أرَ نجمًا قط قبل طلوعه
إذا غاب ينهى الصائمين عن الفطر
وقال كذلك عن الفانوس:
هذا لواء سحور يُستضاء به
وعسكر الشهب فى الظلماء جرار
والصائمون جميعًا يهتدون
به كأنه علم فى رأسه نار
كما كان ل«المسحراتى» وأغانيه نصيب من «الأدب الرمضانى»، ومن بينها ما كان يردده لإيقاظ النيام:
أيها النيام قوموا للفلاح
واذكروا الله الذى أجرى الرياح
إن جيش الليل قد ولى
وراح وتدنى عسكر الصبح ولاح
معشر الصوام يا بشراكمو
ربكم بالصوم قد هناكمو
وجوار البيت قد أعطاكمو
فافعلوا أفعال أرباب الصلاح