ملائكة وشياطين.. محاكمة موسم درامى عاصف

- كان الرئيس ولا يزال يرى أن الدراما يجب أن تسهم بالتصدى لما يواجهه الوطن من مخاطر الإرهاب والتغييب
- منذ شهور وهناك من يعملون على إنتاج أعمال درامية تشكل موسمًا مختلفًا وهو ما تحقق على الأرض
لا يعيش الإعلام- أى إعلام- بدون حرية.
هذا قانون مقدس من قوانين المهنة التى لا تستطيع أن تبدع أو تتقدم أو تتطور دون مجال عام مفتوح وحر ومنطلق.
ولأن الدراما فى النهاية هى جزء من العملية الإعلامية الكبرى، فهى أيضًا لا يمكنها أن تعيش بدون حرية وانطلاق.
أقول ذلك حتى أرسم معكم الخريطة التى سنتحرك عليها معًا ونحن نناقش قضية المفروض أنها عادية، لكن بفعل ما أحاط بها من جدل ونقاش وأخذ ورد على هامش حديث الرئيس عن الموسم الدرامى الرمضانى هذا العام فى إفطار القوات المسلحة أصبحت قضية عاصفة، بل هى على وجه الدقة أصبحت زلزالًا عنيفًا، وحتمًا ستكون له توابعه التى لا يستطيع أحد أن يقدر آثارها أو ما ستحدثه فيما قادم.
لم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتحدث فيها الرئيس بشكل علنى عن الدراما، وعن رؤيته فيما يجب أن تقوم به من أدوار مركبة ومتشابكة فى مجتمع يحاول العبور إلى شاطئ الاستقرار عبر تحديات سياسية وأمنية واقتصادية وثقافية عاتية.
لقد كنت شاهدًا على حديث الرئيس مع بعض الفنانين الكبار.
جرى هذا فى العام ٢٠١٥، كان الرئيس يحضر احتفالية وزارة الداخلية بعيد الشرطة، وأثناء حديثه وجّه رسالة للفنانة يسرا والفنان أحمد السقا، وكانا من المشاركين فى الاحتفالية.
قال لهما الرئيس نصًا: والله ستحاسبون على ما تقدمونه من فن.
لم يتوقف الرئيس عند هذه القناعة، ولكنه تساءل: أين المواطن المصرى الذى نعده كى يعمل بجدية فى أعمالنا الدرامية، وأين الأمل والتفاؤل فى الغد، لا بد أن يكون كل هذا موجودًا ضمن أعمالنا الدرامية.

طلب الرئيس من الفنانين موجهًا الكلام ليسرا والسقا وقتها أن يقدما خلال مسلسلات شهر رمضان رسالة مليئة بالحب للوطن والأمل فى مستقبله وزيادة الوعى بالمخاطر التى تهدده، وتحسين أخلاق المجتمع وإبراز الصور الإيجابية، وأشار إلى القيم الأساسية التى يقوم عليها المجتمع المصرى، فهو يقوم على المساواة، ويحترم كل الأديان، ويرفض كل أنواع التمييز، وطالب الرئيس صنّاع الدراما بالحفاظ على القيم المصرية الأصيلة.
كان الرئيس ولا يزال يرى أن الدراما يجب أن تسهم بالتصدى لما يواجهه الوطن من مخاطر الإرهاب والتغييب، ولذلك كثيرًا ما يتحدث عن الوعى، الذى هو السلاح الأكبر والأهم فى أى معركة تواجهنا كبيرة كانت أو صغيرة.
كان الرئيس- ولا يزال- يقول ذلك دون توجيه ودون فرض قضايا بعينها أو معالجات محددة لما تقدمه المسلسلات الدرامية، فهو يدرك قيمة الدراما كسلاح قادر على التأثير فى وجدان الناس، كما يعلم أن لها صنّاعها والعارفين بها والمدركين لقوة أثرها.
لذلك كله أعتقد أن الذين سارعوا وأعلنوا عن أنهم سيعقدون مؤتمرًا أو يشكلون لجنة لدراسة مستقبل الدراما وعلى أى وجه يجب أن تكون، أخطأوا فى فهم ما كان الرئيس يرمى إليه، ترجموا رسالته على نحو ليس مطلوبًا، فما يقوله الرئيس يجب أن يثير النقاش العام، وللنقاش العام منصات إعلامية معروفة، يجب أن يجرى من خلالها النقاش، لكن الإسراع إلى تشكيل لجان والاستعانة بأمانات أحزاب، فإن ذلك يضر أكثر مما يفيد، بل يمكن أن يعطى انطباعًا بأن هناك توجهًا نحو التقييد والعرقلة والتعطيل لما تقوم به الدراما.

لن تحيا الدراما بالمؤتمرات.. ولن تعيش فى جو اللجان الخانق.
ليس معنى هذا أننى أقلل من أهمية المؤتمرات وما فيها من نقاشات ودراسات، أو أعيب على اللجان وما يمكن أن تفعله، لكننى ألفت الانتباه فقط إلى أننا فى مصر خبراء فى صناعة الدراما، وليس معقولًا أن يعقد أحد مؤتمرًا أو يشكّل لجنة ليخترع لنا عجلة الدراما من جديد.
تاريخنا مع الدراما معروف، بدأ تحديدًا فى ٢٣ يوليو ١٩٦٢، أى أن عمر الدراما المصرية وهو أيضًا عمر الدراما العربية ٦٣ سنة.
كان البث التليفزيونى فى مصر قد بدأ فى العام ١٩٦٠، وكان من أولويات التفكير لدى المسئولين عنه هو إنتاج أعمال درامية.
أول مؤلف درامى مصرى كان الكاتب الكبير الراحل فيصل ندا، الذى وجد فى رواية «هارب من الأيام» لثروت أباظة ضالته، فقام بتحويلها إلى مسلسل درامى، وعرض بمناسبة مرور عشر سنوات على إنهاء النظام الملكى فى مصر، ولعب بطولته عبدالله غيث وتوفيق الدقن وحسين رياض.
قصة المسلسل كانت تدور حول طبال فقير يعيش فى إحدى القرى، يعانى من معاملة أهلها السيئة، تشهد القرية حوادث سرقة متكررة، ما يشيع الخوف عند الأهالى، الذين تضطرب حياتهم لعدم قدرتهم على اكتشاف الفاعل، لكن مع توالى الأحداث يكتشف الأهالى أن الطبال الفقير هو من يقف وراء كل هذه الجرائم.
أحدث المسلسل ضجة كبيرة، كان شكلًا جديدًا من أشكال الإبداع، ولم يمر الأمر مرورًا هادئًا، ويمكننا أن نعود إلى مذكرات فيصل ندا «رحلتى مع الدراما ونجوم الفن» التى حكى فيها ما حدث حتى ظهر المسلسل الدرامى الأول إلى النور.
يقول ندا: عندما تقدمت بالمعالجة الدرامية لرواية «هارب من الأيام» إلى الرقابة، اتهمنى المسئولون فيها بالجنون، ورفضوا السيناريو، معللين ذلك بأنه لا يوجد شىء اسمه مسلسل تليفزيونى من الأساس.
دخل فيصل ندا فى موجة من الاكتئاب واليأس.
يقول: عندما تولى نور الدمرداش الرقابة، وكانت تربطنى به علاقة صداقة أثناء دراستنا الجامعية، وافق على فكرة المسلسل، وبدأنا نبحث عن بطل للمسلسل، ووقع الاختيار على الفنان فريد شوقى، ووافق فى أول الأمر، لكن سرعان ما عدل عن رأيه بعدما تم تخويفه، لأن عدم وجود سابقة لعمل تليفزيونى جعلت الناس يسخرون مما نقوم به، اختار نور عبدالله غيث ليقوم بالبطولة، وكان فى بداية مشواره الفنى.
لم تتوقف أزمات مسلسل «هارب من الأيام» عند هذا الحد، فقد كان هناك ما هو أعنف.

يقول ندا: بعد عرض الحلقة السابعة من المسلسل فوجئت بقوات الأمن تقتحم منزلى، وألقت القبض علىّ واقتادتنى لأمن الدولة، وتم احتجازى لمدة ٤٨ ساعة، ودخل لى ضابط وقال لى: إنت بتقول إن جمال الطبال هو جمال عبدالناصر؟ فقلت له: أنا لا أقصد جمال عبدالناصر، ده أنا بعشقه، ولما شفته فى عابدين جريت ورا العربية عشان أسلم عليه.
صدق الضابط ما قاله فيصل ندا، وأخرج له شكوى كانت قدمتها إحدى مؤلفات المسلسلات الدينية الإذاعية، فعرف ندا- كما يقول- أن المنافسين له بدأوا فى الهجوم عليه بعد ما أحسوا بخطره عليهم بعد نجاح مسلسله.
خرجت الدراما المصرية من قلب المعاناة إذن، صاحبت بداياتها المشاكل والأزمات، ويبدو أن هذا هو قدرها الذى يصاحبها حتى الآن، فلا يكاد يمر موسم درامى إلا وتلاحقه المشاكل والأزمات، وتحاول جهات عديدة أن تحاصره وتخنقه وتفرض عليه القيود.
بعد ٦٣ عامًا استطاعت مصر أن تخلق من الدراما التى تقدمها أسطورة متكاملة الأركان، بل استطاعت من خلالها أن تفرض ذوقها ولهجتها على الشعوب العربية، ولا تزال الدراما المصرية هى سيدة الموقف على الشاشات العربية رغم ما مرت به من عثرات خلال السنوات الأخيرة.
هذا العام قدمت مصر أفضل موسم درامى منذ سنوات، وإذا أردتم أن تتأكدوا من ذلك فليس عليكم إلا أن تقرأوا خريطة هذا الموسم بهدوء وتأمل، وبعيدًا عن تشنجات وخلط البعض للأوراق.
قدمت الشاشات المصرية خلال هذا الموسم ٢١ مسلسلًا، تقف على قمتها ثلاثة مسلسلات هى الأكثر جماهيرية ومتابعة وهى:
«فهد البطل» بطولة أحمد العوضى، وهو مسلسل شعبى استطاع أن يتخلص من أمراض المسلسلات الشعبية التى تعلى من شأن البلطجة وتنشر الشتائم والألفاظ المعيبة، وتعتمد المجرمين وتجار المخدرات على أنهم أبطال، فهم فى المسلسل مجرد مجرمين لا بد أن ينالوا عقابهم.
«وتقابل حبيب» بطولة ياسمين عبدالعزيز، وهو مسلسل اجتماعى رومانسى، جمع الأسر المصرية حوله، ويحظى بالفعل بمشاهدة عالية داخل البيوت المصرية.
و«حكيم باشا» بطولة مصطفى شعبان... وهو دراما صعيدية، أجمع مشاهدوه من الصعايدة تحديدًا، على أنه مسلسل جاد اقترب من روح الصعيد، بصرف النظر عن التعليقات الكلاسيكية التى تلاحق كل وأى مسلسل صعيدى.
فى إطار المسلسلات الاجتماعية التى اخترقت القضايا الاجتماعية بقوة سنجد معنا «ولاد الشمس» و«لام شمسية» و«كامل العدد» و«إخواتى» و«ظلم المصطبة» و«الأميرة.. ضل حيطة»، و«قلبى ومفتاحه»، وتميزت هذه المسلسلات تحديدًا بجرأة شديدة فى مناقشة قضايا اجتماعية أعتقد أن الدراما المصرية لم تقترب منها خلال السنوات الماضية.
المسلسلات الكوميدية كان لها نصيب من أعمال الموسم الرمضانى، فشاهدنا «شهادة معاملة أطفال» و«عقبال عندكوا» و«الكابتن»، ورغم أن الكوميديا لم تكن فى أحسن حالاتها هذا العام، مع أن من تصدروا لها نجوم كبار ولهم تاريخ، إلا أنها كانت باهتة نوعًا ما، ورغم ذلك فقد وجدت جمهورها وأسعدته.

أعاد الموسم الدرامى هذا العام البريق للمزاج التاريخى، شاهدنا مسلسل «النص» عن مذكرات تاريخية صدرت فى العام ١٩٢٧ بعنوان «مذكرات نشال»، كما شاهدنا الجزء الثانى من مسلسل «جودر»، الذى لم يكن فى نجاح الجزء الأول، ربما لأنه كان استكمالًا للقصة التى عرضت العام الماضى، ولم يجتهد المؤلف بحثًا عن جديد يقدمه هذا العام، فبدا المسلسل وكأنه مثل الطعام البارد وسط وجبة درامية ساخنة.
وبجرأة شديدة أعادت الدراما هذا العام تقديم مسلسل «شباب امرأة» من بطولة غادة عبدالرازق، ورغم الملاحظات التى نرصدها عن المعالجة والأداء، إلا أنه يحسب لغادة قبولها التحدى فى تقديم دور قامت به العظيمة تحية كاريوكا.
كان للدراما هذا العام فضل خوض تجارب درامية ذات طابع خاص، وهو ما نجده فى مسلسلات «الغاوى» بطولة أحمد مكى، و«قهوة المحطة» الذى كتبه عبدالرحيم كمال بمزاج رائق تمامًا، ويبشر أبطاله بعمل درامى مختلف، و«حسبة عمرى» الذى تبدو فيه روجينا مختلفة عن المسلسلات التى قدمتها خلال الأعوام الماضية، و«الشرنقة» الذى يؤكد فيه أحمد داود جدارته بالبطولة، و«أثينا» الذى ردت به ريهام حجاج كرامتها الدرامية وأثبتت أنها ممثلة من طراز خاص.
ضمن دراما رمضان هذا العام لا بد أن نتوقف عند مسلسل «عايشة الدور» الذى تقدمه دنيا سمير غانم، وتقتحم به عالم الأجيال الجديدة، وتحديدًا جيل «z»، وهو ما لم يقدم عليه أحد من قبل، تفعل ذلك برشاقتها وخفة دمها المعتادة.
من مصادر تعرف ما تقول جيدًا، فهم يعملون فى الخطوط الخلفية للدراما، تأكد لى أن الدراما المصرية هذا العام حققت أهدافها جميعها، فهى الأعلى مشاهدة طبقًا لكل محركات البحث، وبأرقام المشاهدات على المنصات والقنوات المختلفة، وقد حققت فى الوقت نفسه عائدًا إعلانيًا هائلًا، يؤكد أنها نجحت بما لم يكن يتصور أحد، كما أنها متنوعة بشكل يتجاوب مع أمزجة الجمهور بشكل كبير.
منذ شهور، وهناك من يعملون على إنتاج أعمال درامية تشكل موسمًا مختلفًا، وهو ما تحقق على الأرض، وأعتقد أن من قاموا على تشكيل هذه الباقة الدرامية يستحقون منّا كل الشكر والثناء على جهدهم الذى أشهد أنه كان يتواصل ليلًا ونهارًا.
إذا كان هذا ما حدث، وإذا كان هذا هو رأيى فى هذا الموسم الدرامى، فما الذى حدث بالضبط؟ وما هو سر هذا الهجوم العنيف على الأعمال الدرامية؟ ولماذا انتفضت عدة جهات فى وقت واحد تنال من الدراما وتصور الأمر على أن هناك جريمة كبرى ارتكبت فى حق الفن المصرى وفى حق القوة الناعمة المصرية؟.
لا يمكن أن نتجاهل هذه الحالة أبدًا، ولا يمكن أن نقلل من شأنها، لكن المنطق يقول إننا لا بد أن نبحث عن حالة اللبس التى وقعت، ولماذا وقع البعض فى حالة من الخلط الواضح فى الحكم على المسلسلات؟.
وهنا أعود إلى القاعدة التى أرى أنها صحيحة ومنطقية فى تفسير هذا اللبس وتعليل هذا الخلط الذى أعتقد أنه تم دون وعى.
على الساحة المصرية ومنذ سنوات لدينا نوعان من الدراما، يتم الخلط بينهما طوال الوقت.
النوع الأول هو الدراما المصرية الأصلية التى تنتجها الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية، والشركات التى تعمل فى الإنتاج الدرامى منذ سنوات.
والنوع الثانى دراما مصرية أيضًا، وقد أطلقت عليها «الدراما الموازية».
أما أنها مصرية فلأن من يكتبونها ويخرجونها ويمثلون فيها من المصريين جميعًا، لا تكاد تلمح فنانًا أو فنيًا من دولة عربية أخرى، كما أنها تعالج موضوعات وقضايا مصرية، وتدور على أرض مصرية، كما أن الجمهور الذى تتوجه إليه والذى تستهدفه هو الجمهور المصرى بالأساس.
وهى موازية أيضًا لأنها منتجها غير مصرى، وتعرض على شاشات غير مصرية، ولأن العمل الفنى ينسب فى الغالب لجهة تمويله، فهى بذلك ليست أعمالًا مصرية خالصة، بل يمكن اعتبارها أعمالًا مختلطة.
معنى ذلك أنه لا يجب أن يحتج أحد على الدراما المصرية فقط، فهناك ما تقدمه أيضا الدراما الموازية، والتى تأخذ منهجًا منذ سنوات يقوم على الأعمال التى تدور فى الحارة الشعبية، وهى حارة يتم تقديمها بشكل تقليدى طبقًا للتصورات الذهنية العامة المرسومة عن الحارات الشعبية ومن يعيشون فيها.
اللبس نبت من هنا، وخلط الأوراق نلحظه فى هذه المساحة تحديدًا، وعليه فيجب أن ننتبه ونحن نحكم على الأعمال الدرامية المصرية، فلا يجب أن نحملها وحدها كل الأوزار.
وحتى نكون منصفين، فإننا لا يمكن أن نحمل جهة واحدة مسئولية ما حدث، فليس معقولًا أن يتحمل طرف واحد النقد الذى تواجهه الدراما الآن، فاللبس حدث من أن الدراما فى المسارين قدمت بعض المشاهد والوقائع والشخصيات التى يمكن أن يفهم منها أن الدراما تشوه الواقع، وهذه يمكن مراجعتها بسهولة، وإن كنت أرى أن النقاش حولها أصبح واجبًا، ليس من أجل المنع ولكن من أجل الترشيد، وهذا أمر يتم طوال الوقت.
فالدراما منذ ظهورها وهى تثير النقاش والجدل، ولم يكن هذا النقاش أو الجدل سببًا فى حصارها بالصورة التى نراها الآن.. وعليه فلابد أن يبدأ النقاش الحر المفتوح، هذا إذا أردنا إصلاحًا حقيقيًا.

ليس معنى ما أقوله أن الدراما المصرية مبرأة من كل عيب، أو أنها جاءت على الوجه الأكمل هذا العام، أو فى أى عام مضى.
إننى أعرف أن الدراما كما جاء عنها فى أدبياتها العالمية والمصرية ليس مطلوبًا منها أن تقدم مجتمعًا ملائكيًا ولا أن تقدم مجتمعًا من الشياطين، فالدراما التى تقوم على الصراع من الطبيعى أن تقدم الملائكة والشياطين، ليس مطلوبًا منها أن تكون وعظية وإلا انصرف عنها الناس.
المطلوب من الدراما أن تحتفظ لنفسها بقواعدها دون التدخل من أحد، فهى تعالج الواقع، أو بالأدق تقدم واقعًا موازيًا يلاقى الناس أنفسهم فيه، لكن ليس معنى ذلك أن تهدر الدراما مجموعة القيم التى يعيش عليها المجتمع.
قد يكون هذا هو القيد الوحيد الذى يمكن أن أضعه على الدراما، وهو ألا تهدم قيم المجتمع أو تروج لقيم سلبية ندفع جميعًا ثمنها بعد ذلك.
لقد عانينا طويلًا من الأعمال الدرامية التى تهدم قيم العلم والتعليم، تجور على قيم العمل والكفاح، وتعلى من شأن الفهلوة والبلطجة وتمجيد تجارة السلاح والمخدرات والآثار كسبيل وحيد إلى جمع الثروة، وكأن العمل الشريف لا قيمة له.
فليقدم صناع الدراما ما شاءوا، وليعالجوا القضايا كما يعن لهم، لكن مع الحفاظ على قيم المجتمع الأساسية، فهى ما يمكن أن نختلف حوله ونتجادل ونتحاور، وهو ما يجب أن تقوم به اللجان والمؤتمرات وكل من يريد أن يدلى بدلوه فى الشأن الدرامى، لابد من وضع تصورات عامة تكون دليلًا أمام من يقومون بالدراما، لكن التدخل العنيف والخشن فيما يفعلون أعتقد أنه سيكون وبالًا على الدراما المصرية.
وسأعترف لكم بأن الدراما المصرية بما تقدمه هذا العام، وما قدمته خلال الأعوام الماضية، يجعلنى أراها حصنًا منيعًا وقلعة راسخة وثابتة على أرض القوة الناعمة المصرية، وأى محاولة لهدمها أو تشويهها أو الشوشرة عليها، لا يفيد أحدًا منا، بل سيحذف منا كثيرًا، ويضيفه لصالح آخرين.
إننى لست من أنصار نظرية المؤامرة، لكن لماذا نقع فى الفخ؟ لماذا نستجيب لمن يشوهون الدراما المصرية بالمجان؟ هم يفعلون ذلك حتى نهدم بأيدينا ما بنيناه وشيدناه، وللأسف الشديد فإن منهم من نحسبهم على قادة الرأى والفكر، ويقدمون أنفسهم على أنهم يستطيعون قيادة الرأى العام، وهم أبعد ما يكونون عن ذلك تمامًا.
لقد أشاد الرئيس خلال السنوات الماضية بأعمال درامية وقام أكثر من مرة بتكريم أبطالها وأثنى عليهم، ونقده هذه المرة لحالة عامة تم تصديرها للرأى العام، والرئيس يتابع الرأى العام جيدًا، وما قاله هو إشارة لننتبه، لأن القضية خطيرة بالفعل.

ما الذى نقوم به هنا؟
ولماذا قررنا أن نصدر عددًا استثنائيًا من «حرف» نحصصه للدراما؟
بل لماذا وضعنا أمامنا هدفًا واضحًا وهو محاكمة الدراما المصرية؟
أولًا لا يعنى أننا نقوم بمحاكمة الدراما أننا بالضرورة سنقوم بإدانتها، وستدرك أنت بنفسك ذلك بعد أن تقرأ ما سنقدمه لك هنا، هل الدراما المصرية بريئة مما نسب إليها أم أنها مدانة؟ سنترك لك الحكم، فأنت تتابع المسلسلات، وتتابع ما يقال عنها، ومؤكد أن لك رأيك الخاص الذى كونته بنفسك.
لقد أسهمت فى هذه المحاكمة فئات عديدة.
الفئة الأولى هم النقاد الكبار المتخصصون فى الدراما، كتبوا لنا وقالوا ما لديهم، عبروا عن رأيهم، ونشرنا ما قدموه لنا كاملًا، ما أعجبهم وما أزعجهم.
الفئة الثانية هم عدد من كتاب مؤسستنا الدائمين، وبينهم أدباء وكتاب ومبدعون وسياسيون وأساتذة جامعة مرموقون، وهؤلاء كتبوا بخبرتهم عما شاهدوه ليس فى الدراما فقط ولكن فى الشأن العام أيضًا، والدراما جزء لا يتجزأ من هذا الشأن العام.
الفئة الثالثة هم كبار الكتاب والمثقفين والمفكرين الذين تابعوا بعض الأعمال الدرامية، وتابعوا عن قرب كذلك الجدل الدائر حول الدراما، وكان مهمًا أن نستمع منهم، ونسجل ما يقولونه عن الأعمال التى شاهدوها.
الفئة الرابعة وهى مهمة جدًا بالنسبة لى، فقد رصدنا عددًا كبيرًا من الكتابات عبر شبكات التواصل الاجتماعى، وهذه الكتابات أعتبرها فى مساحة حرة طليقة غير مقيدة بأى حسابات، جمهور منطلق يكتب ما يشاء، وقد عبروا عما رأواه، وقالوا رأيهم بحرية كاملة، وقد استعنا بهم لأنهم يمثلون محكمة الرأى العام، لم نتدخل فيما كتبوه، بل نقلناه من على صفحاتهم كما كتبوه، لم نتدخل بإضافة أو حذف.

قد يكون هذا العدد الخاص - وهذا ما قصدناه تمامًا - دليلًا كاملًا لمن يريدون أن يتحدثوا فى الدراما، من يريدون أن يدرسوها ويعقدوا من أجلها المؤتمرات أو يشكلوا لخاطر عيونها اللجان.
كلنا نحمل نفس الهم ونفس الهدف..
كلنا نريد أن نكون دائمًا كما كنا فى المقدمة، مصدر إلهام ليس لوطننا العربى فقط ولكن للعالم كله، والبداية فيما أعتقد تكون من المساحة الأهم والتى نملكها بجدارة وهى الإبداع.
لا أريد أن أتطفل عليكم أكثر من هذا.
فهذه هى وقائع المحاكمة التى عقدناها لدراما رمضان هذا العام.
لن نصادر على رأى أحد، ولن نعمل على توجيه أحد، فقط نحن نفكر معكم فى فضاء مفتوح وحر، فالحرية تظل هى الضمانة الأولى والأساسية والكبرى لأى إبداع أو تقدم.. إعلام كان أو دراما.