حتى لا تنتهى هذه الضجة إلى لا شىء .. تجديد الخطاب الدرامى

- يجب أن نمنح الفرصة للقادرين على الإبداع فى الكتابة والإخراج والتمثيل
- لا منع ولا إبعاد ولا تقييد ولا رغبة فى فرض حصار على المبدعين
كثرت اللجان.. وتعددت الاجتماعات.
هكذا هو الحال منذ أعلن الرئيس عبدالفتاح السيسى عن دعوته لإعادة النظر فى المحتوى الذى تقدمه الدراما المصرية.
صاغ الرئيس دعوته التى ألقى بها أمام صناع الدراما بقوله: «إياكم أن ترعوا الغث فقط، والهزل فقط، والكلام الذى لا يبنى أمة فقط».
وطالب الرئيس بتقديم أعمال إيجابية وجدية تساعد فى تنشئة الأجيال على القيم والأخلاق المصرية الأصيلة.
كان يمكن التعامل مع ما قاله الرئيس على أنه توصية عامة لمن يقومون على صناعة الدراما، نصيحة يضع من خلالها إطارًا، وليس غضبًا يصبه على رءوس المشاركين فى الأعمال الدرامية، ملاحظة يجب أن يضعها الجميع فى اعتبارهم.
لكن من تلقوا كلام الرئيس تعاملوا معه على أنه يعبر عن أزمة.
وما دامت هناك أزمة، فلا بد من البحث لها عن حل.
بعد ساعات من بث كلام الرئيس، أعلن أحمد المسلمانى، رئيس الهيئة الوطنية للصحافة، عن عقد مؤتمر بعنوان «مستقبل الدراما فى مصر» فى أبريل ٢٠٢٥، مؤكدًا أن المؤتمر يأتى استجابة لرؤية الرئيس التى تقضى بضرورة تعزيز القيم فى صناعة الدراما والسينما، وضرورة مواجهة موجات العنف والجريمة وتعاطى المخدرات، وإشعال الصراع الطبقى وترويج الابتذال اللفظى، والانحراف السلوكى وتدمير قيم العائلة.
لا تتوقف كثيرًا أمام هذه القائمة من الجرائم المنسوبة إلى الدراما، فحتمًا لم ترتكبها، وإلا كنا جميعًا فى الجحيم، وتابع ما أراد رئيس الهيئة الوطنية للإعلام أن يقوم به.
المسلمانى أكد أن المؤتمر سيتضمن دعوة الكتاب والمخرجين والمنتجين وعلماء النفس والاجتماع والسياسة والاقتصاد، وسيتم رفع توصياته للمؤسسات المعنية، وسوف يسترشد التليفزيون المصرى بالرؤية الرئاسية فى تقديم المحتوى اللائق فكريًا وقيميًا ووطنيًا.
وعلى طريقة الذى ينعى ولده ويصلح ساعات، كشف المسلمانى عن أن هذا سيحدث بعد عودة الهيئة للإنتاج الدرامى هذا العام فى إطار استراتيجية عودة ماسبيرو.
على الخط نفسه دخل حزب الجبهة الوطنية وبقوة، حيث كلف رئيسه عاصم الجزار أمانة الثقافة والتراث والفنون بالحزب التى يرأسها مدحت العدل، ومعه أشرف زكى وسامح الصريطى بإعداد دراسة حول أوضاع الدراما فى مصر وما آلت إليه.
الجزار الذى كان وزيرًا للإسكان فى حكومة الدكتور مصطفى مدبولى حتى أشهر مضت، يرى أن الدراما حتى الآن لم تعكس التطورات التى جرت فى الدولة المصرية من القضاء على العشوائيات والمناطق الخطرة، وهو ما انعكس بالطبع على سلوكيات سكانها، خاصة أن الانتقال إلى المجتمعات الجديدة صاحبته تنمية صحية واجتماعية وتعليمية، لكنه لم ينعكس على الدراما حتى الآن.
الجزار استنكر أن تختصر الدراما الجديدة المواطن المصرى فى الجريمة أو البلطجة، وتغفل المعانى الجميلة المتوارثة بين المصريين التى تعكس معدنهم الأصيل وتحدياتهم وثباتهم وبطولاتهم، بالتالى يجب دراسة الأمر وعدم تركه فى أيدى الهواة، وتقديم رؤية فنية واقتصادية واجتماعية بطريقة علمية لتصحيح هذه الأوضاع، أو على الأقل تقديم رؤى متوازنة تبرز «مصر الحلوة»، جنبًا إلى جنب مع المشاهد السلبية الموجودة فى المجتمع، ولكن ليس بالكثافة نفسها ولا بالفجاجة التى تحملها الدراما بصورة مبالغ فيها.
تعامل الجزار مع الدراما على أنها فى أزمة طاحنة وشاملة، لذلك طالب بدعوة المختصين وأساتذة الاجتماع وعلماء النفس والكتاب لتشخيص الوضع بشكل دقيق، وتقديم الحلول للمسئولين حتى لا تتكرر مثل هذه المشاهد على الشاشة مرة أخرى، خاصة فى الموسم الرمضانى الذى يتابعه جميع المصريين، بل المنطقة العربية بأكملها.
فى هذا السياق، أعلنت الشركة المتحدة للخدمات الإعلامية عن تشكيل لجنة متخصصة للمحتوى تتولى وضع خطط وبرامج للإنتاج الدرامى والإعلامى، إلى جانب متابعة ورصد الأعمال المنتجة من الشركة؛ بهدف تحقيق رؤية واضحة للإنتاج قائمة على تحليل دقيق للواقع.
ولأن الشركة المتحدة هى الجهة التى تنتج العدد الأكبر من الدراما التليفزيونية، فقد أعلنت من باب النقد الذاتى- دون أن يطلب أحد منها ذلك- عن أن لجنتها ستجرى مراجعة شاملة للأعمال المقدمة، لتقييم نقاط القوة والضعف، لوضع توصيات مدروسة تضمن توافق المحتوى مع الأهداف الوطنية والتوعوية، ما يسهم فى التطوير المستدام للمشهد الإعلامى المصرى.
الشركة التى أعلنت عن التزامها الراسخ بتطوير المشهد الإعلامى المصرى ومواصلة دعم كل المبادرات الهادفة إلى تحسين جودة المحتوى، أشارت إلى أن لجنتها تأتى فى إطار استراتيجية لتطوير المحتوى الإعلامى، بما يحقق التوازن بين الإبداع والمسئولية الاجتماعية، وتطلعات الجمهور المصرى، من خلال تقديم أعمال تعكس القيم المجتمعية الإيجابية، وتسهم فى بناء وعى متوافق مع متطلبات المرحلة الراهنة.
الصورة فى المجلس الأعلى للإعلام كانت مختلفة إلى حد ما.
فقد اجتمع المهندس خالد عبدالعزيز، رئيس المجلس الأعلى للإعلام، مع وزير الثقافة، الدكتور أحمد هنو، وطارق نور، رئيس مجلس إدارة الشركة المتحدة، والهدف المعلن كان مناقشة سبل تعزيز التعاون بين المؤسسات الثقافية والإعلامية، ودور الإعلام فى نشر الوعى الثقافى والفكرى وتعزيز الانتماء الوطنى.
كان الاجتماع حاشدًا واحتشدت فيه مجموعة كبيرة من ذوى الشأن، على رأسهم الدكتورة درية شرف الدين، وزير الإعلام الأسبق ورئيسة لجنة الإعلام بمجلس النواب، ودار النقاش بين المجتمعين حول آليات وضع وتنفيذ استراتيجية للحفاظ على الهوية الوطنية وترسيخها وفق خطط ثقافية عادلة، إلى جانب ترسيخ القيم الإنسانية كنمط حياة يحقق المواطنة الفعالة، ويعزز نبذ العنف وخطابات الكراهية والتوعية المستمرة بأخطارهما، كما ناقشوا دور قصور الثقافة فى تقديم الأنشطة الثقافية، وإطلاق مبادرات قومية لرعاية وتدريب المواهب، وتنفيذ عروض فنية بالمحافظات المختلفة.
لم يترك الدكتور أيمن عاشور، وزير التعليم العالى والبحث العلمى، هذه الضجة دون أن يكون له حضور لافت فيها، فدعا إلى تشكيل لجنة من أساتذة الجامعة فى التخصصات المعنية، يكون هدفها تقديم خبراتها للهيئات والمؤسسات المعنية بتطوير الدراما والإعلام، وذلك فى إطار تنفيذ توجيهات الرئيس بالاستفادة من أساتذة الجامعات فى تطوير المحتوى الإعلامى والدرامى.
بعد كل هذه اللجان والمؤتمرات والمناقشات، رأيت الدراما المصرية مثل جثة يحاول الجميع أن يغوص فى دمها بحثًا عن سبب موتها، رغم أن الواقع يقول إن الدراما المصرية لم تمت، وحتى لو كانت هناك ملاحظات عليها، فإنها لا تزال قوية وعفية وقادرة على التأثير.
لم ينتبه كل من سارعوا لإصلاح شأن الدراما لما عاد الرئيس وقاله بعد ذلك، وكان فيه توضيحًا كاملًا لما قاله فى حفل إفطار القوات المسلحة.
بعد أيام من هذا الإفطار، كان الرئيس يلتقى مجموعة من السيدات خلال لقاء «المرأة المصرية والأم المثالية» تحدث الرئيس مرة أخرى عن الدراما.
هذه المرة قال الرئيس إن دور الفن والإعلام مهم جدًا فى تشكيل الشخصية المصرية والذوق العام، وأضاف أنه تحدث فى هذا الأمر وطلب مراجعة، وليس منعًا.
الرئيس أشار إلى أن الدولة المصرية كانت تسهم فى الدراما، وكان هناك إنتاج تليفزيونى للدولة، وكانت هناك أهداف وضعها متخصصون من أساتذة الجامعات فى الإعلام وعلم النفس والاجتماع، يدركون ماهية وتعريف كلمة مجتمع وصياغته، لكن حدثت تطورات خلال الأربعين عامًا الأخيرة، وزادت الأعباء على تليفزيون الدولة، فبات غير قادر على القيام بهذا الدور.
التوضيح الأعم والأشمل قدمه الرئيس لما سبق، وقال عندما أكد: «لم أقصد عندما قلت نتوقف عند هذا الموضوع أن ذلك يعنى المنع، لكن قصدت صياغة وتنظيمًا، فأنا تصلنى قياسات رأى ودراسات فى الموضوع، وكلها تشير إلى أن هناك اتجاهًا تصاعديًا، ولذلك لا بد من مراجعة الموقف».
أعتقد أن توضيح الرئيس هو الذى يجب أن يكون محلًا للاهتمام والاعتبار والتأمل والتفكير، وعليه فيجب أن تراجع اللجان نفسها، وأن يتوقف قليلًا من دعوا إلى عقد مؤتمرات حتى يستوعبوا جيدًا مقاصد كلام الرئيس.
لقد جاء هذا الكلام الذى أثار حوارًا صاخبًا- أعتقد أن درجة حرارته انخفضت الآن- ونحن نشهد أفضل موسم درامى منذ سنوات، وذلك بشهادة كل النقاد، وليس معنى ذلك أن هناك ملاحظات على بعض المسلسلات أن نهيل التراب على كل ما تم تقديمه، لأننا بذلك نفقد عنصرًا مهمًا من عناصر قواتنا الناعمة.
لقد دخلت الدراما المصرية منذ سنوات فى تحدٍ رهيب، حدث خلل فى المنظومة الاقتصادية، وهو ما أثر على اقتصاديات الدراما، وعانت كذلك من الخلل السياسى والأمنى الذى شهدته البلاد منذ أحداث ٢٥ يناير ٢٠١١، وهو ما كان له أبلغ الأثر عليها.
لكننا منذ سنوات، وبفضل ما قدمته الشركة المتحدة والقائمون عليها، استطاعت الدراما أن تطور خطابها، وأن تكون فى قلب معركة الوعى التى هى المعركة الأهم التى نخوضها وسط تحديات سياسية متشابكة ومعقدة، وفى هذا الإطار قدمت الدراما مسلسل «الاختيار» بأجزائه الثلاثة، ومسلسلات «هجمة مرتدة، والعائدون، والقاهرة- كابول، وحرب، والحشاشين، ومليحة»، هذا غير عشرات المسلسلات التى عالجت قضايا اجتماعية مهمة وملحة.
ورغم ذلك، فإن الخطاب الدرامى لا يزال فى حاجة إلى تطوير.
قد يتعجب البعض من استخدامى هذا المصطلح «الخطاب الدرامى»، رغم أنه مصطلح صحيح تمامًا ودقيق إلى أقصى درجات الدقة.
فالدراما فى النهاية شكل من أشكال الإعلام، تقدم مجموعة من القيم المجتمعية التى تشكل فى النهاية خطابًا مهمًا، وتأتى أهميته من أنه أكثر الأشكال الإعلامية تأثيرًا على الجمهور، وقد يكون هذا تحديدًا هو سبب اهتمام الرئيس بها، فلم تكن هذه هى المرة الأولى التى يتحدث فيها عن الدراما، ولن تكون الأخيرة أيضًا.
لقد رأيت رد الفعل على كلام الرئيس متعجلًا، وبطبيعة الحال، ولأن رد الفعل جاء على هذه الصورة الانفعالية، فإننى أعتقد أنه سينتهى إلى لا شىء، لأن الدراما لا يمكن أن تعمل بالريموت كنترول، يمكن أن تصلح هذه المؤتمرات واللجان والمناقشات فى إصلاح حال الإعلام الذى له معاناته الخاصة التى نعرفها جميعًا، لكن الدراما فيما أعتقد شأن آخر تمامًا.
لا يمكن أن تعمل الدراما وتؤتى أكلها ونحصد ثمارها؛ إلا إذا قدمت ما تقدمه فى جو من الحرية الكاملة، أما أن تجلس اللجان وتعقد المؤتمرات لتضع قيودًا ومحاذير، فإن ذلك كله سيلقى بظلاله على عقول وخيال صناع الدراما، فتخرج أعمالهم باهتة، وساعتها لن نستفيد منها شيئًا.
لا يمكن أن يتصور أحد الدراما دون شر وأشرار، أو جريمة ومجرمين، فالأشرار هم من يصنعون الدراما الحقيقية، الطيبون لا يستطيعون وحدهم أن يصنعوا أعمالًا درامية تحصد المشاهدة وتجذب الجمهور، وعليه فيجب أن نترك الدراما لصناعها فهم أدرى بها.
ليس معنى ذلك ألا يتدخل أحد، فمن حق المجتمع أن يتكلم، أن يبدى رأيه، لكن ليس من حقه أن يفرض قيودًا ويضع قوانين ولوائح ويراقب الدراما، وكأن من ينتجونها متورطون فى جريمة ولا بد أن يعاقبوا على رءوس الأشهاد.
إننى أخشى بعد أن ينفض هذا الحوار ألا يلتفت أحد إلى أصل المشكلة، وعندما يأتى العام المقبل نجد أنفسنا نقف فى نفس المكان ونقول نفس الكلام ونردد نفس الاتهامات، وكأننا فعلنا ذلك فقط من باب الواجب، ولأن الرئيس هو الذى قال.
على رفوف مكتبات كليات الإعلام والآداب وأكاديمية الفنون مئات، بل آلاف الرسائل العلمية، يمكننا أن نستفيد بها، وخلال عشرات السنين هناك تراث هائل تزخر بها الصحف المصرية، لو فكرنا واطلعنا عليه نجد أننا ندور فى دوائر مفرغة، لا نتقدم أبدًا إلى الأمام.
فالمشكلات هى نفسها لم تتغير، والحلول المطروحة هى نفسها لم تتغير أيضًا، والمعنى أننا نحتاج فقط إلى أن نقرأ، أن نلتفت إلى المشكلات الحقيقية ونعمل عليها، لا أن نخترع مشكلات لا أساس لها، ثم ندور فى فلكها نبحث لها عن حلول مستحيلة، لأن المشكلات نفسها ليست موجودة.
يمكننا أن نضع أيدينا على أصل الداء، ونقول إن الخطاب الدرامى الآن ليس على المستوى المطلوب منه، هو فى حد ذاته الآن لا يسبب أزمة، ولا يجلب علينا مشكلة، لكن يمكن أن نطوره ونجدده فنحصل منه على نتائج أفضل.
قد يكون هذا هو الاتجاه الصحيح فى الحديث، وأعتقد أن الرئيس وجه إليه عندما قال إن من يصنعون الدراما الآن هم أنفسهم من سوف يصنعون الدراما بالمستوى الذى نريده، والمعنى الواضح أنه لا منع ولا إبعاد ولا تقييد ولا رغبة فى فرض حصار على المبدعين، نحن فقط نتطلع إلى ما هو أفضل.
وحتى نصل إلى المستوى الذى نريده، فعلينا أن نعمل، نمنح الفرصة للقادرين على الإبداع فى الكتابة والإخراج والتمثيل والتصوير والإضاءة والديكور؛ ليخرجوا أفضل ما عندهم.
إننى أعرف كثيرين ممن صنعوا مجد الدراما المصرية خلال السنوات الماضية، وأعرف أنهم الآن يعيشون حالة من القلق، فالنقاش المجتمعى الذى دار ينال منهم، وهم على يقين الآن أنهم مستهدفون، وأن هناك من يسعى إلى تصفيتهم، لقد خلقنا بأيدينا هذا الجو، وأعتقد أننا لا بد أن نبدده، فلن يستطيع مبدع مهم أن يعمل وهو يشعر بأن على رقبته سيف الرقيب، وأن هناك من يهدده بالويل والثبور وعظائم الأمور.
إننى أقدر كل من تحدث، وأحترم كل من أبدى رغبة فى أن يسهم فى تطوير الدراما المصرية، لكن من قال لكم إنها تعانى، إنها فى أفضل حالاتها، لكننا نريد منها المزيد، وحتى تقدم لنا ذلك فاتركها بعيدًا عن اللجان والمؤتمرات والمناقشات النظرية التى لن تقدم ولن تؤخر، إننا لن نخترع العجلة، نحن من صنعناها وصيغنا قواعدها وأصولها، وقادرون على تطويرها دون تدخلات حتمًا لن تكون فى مصلحتها.
لتقم كل جهة بدورها الذى تعرفه، هذا هو كل المطلوب.. وهذا كل ما نريده.
واتركوا أهل الصنعة يعملون بحرية ومسئولية، فلو تدخلنا فى عملهم بطريقة خاطئة، فلن نجدهم.. سنفقدهم.. ولن يعوضنا أحد أو شىء عن غيابهم.