الأربعاء 02 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المهنة مخرج صحفى.. فى وداع المبدع الذى لم تعرفه فاتن حمامة

سمير صبحي
سمير صبحي

- علاقتى المباشرة بموضوع مؤلفك الجديد تستدعى حرجًا قبل كلمة «نعم»!

لعبت فاتن حمامة نجمة الخمسينيات الأولى دور الصحفية «نوال» فى فيلم موعد غرام، وهو الفيلم الذى شارك فى تدشين نجم جديد صاعد لتوه مع بداية ثورة يوليو الوليدة، صار بعد ذلك هو صوتها الغنائى الأول واسمه عبدالحليم حافظ.

وفى مشهد خاطف فى بداية الفيلم كانت الصحفية نوال قد عثرت على مقالها الضائع بالخطأ فى حقيبة «سمير»، الشاب المستهتر الذى قابلته صدفة فى القطار وقام بدوره عبدالحليم، أخذت نوال المقال سريعًا دون أن تشكره، لترفع سماعة التليفون وتزف على أذن رئيس التحرير بشرى رجوع المقال المفقود وتقول جملتها:

«أستاذ عدلى المقالة لقيناها هبعتها المطبعة حالًا».

كانت جملة فاتن حمامة الخالدة هى أساس تصور طفولى سائد داخل جيلى وأجيال سابقة مفاده أن الصحفى كان يكتب مقاله فينزل المطبعة، لنرى الجريدة فى المشهد التالى ملفوفة فى أسطوانات المطبعة الضخمة بشكلها النهائى الذى سيراه الناس بعد قليل.. هكذا بمنتهى البساطة زرعت فاتن حمامة بمشهدها الجميل وغيرها من المشاهد التى على شاكلتها صورة خاطئة مبتسرة لعملية طبخ معقدة جدًا ومليئة بالتفاصيل المحفوفة بالفن والشغف، يكون بطلها شخصًا آخر لا يظهر فى الكاميرات ولا يحب الأضواء اسمه المخرج الصحفى أو سكرتير التحرير الفنى كما كان متعارفًا عليه داخل أروقة المؤسسات الصحفية القومية الكبرى وعلى رأسها «الأهرام».

وعلى ذكر «الأهرام» فقد شهدت بعد قليل من عرض فيلم «موعد غرام» موعدًا آخر لكنه ليس غراميًا بين صانع المجد الأهرامى الجديد ومنقذها من براثن الخسارة محمد حسنين هيكل وبين شاب جديد خريج كلية الآداب قسم الصحافة واسمه «سمير صبحى»، يجد هيكل بعينه الخبيرة المتمكنة فى سمير حجرًا مهتمًا فى بنائه الأهرامى الجديد، تحديدًا داخل المطبخ الصحفى الذى يدخل فيه مقال نوال «فاتن حمامة» مكتوبًا بخط ردىء.. لكى يتحول بعد كثير من الجهد والفن إلى قالب جميل مقروء، عبر عملية سحرية غير مطروقة فى المهنة اسمها «الإخراج الصحفى».

إذن وجد سمير صبحى نفسه فى الإخراج الصحفى، وصنعت السنوات المتتالية نجاحات تفوق الوصف لأهرام هيكل عبر ١٧ عامًا تالية، كان سمير صبحى خلالها ترسًا لا يهدأ وضعه الأستاذ هيكل فى مكانه تمامًا، فصار الرجل عبر الزمن واحدًا من أساطير الإخراج الصحفى فى تاريخ تلك المهنة العتيدة، والتى لم يكتفِ فيها سمير بدوره المهنى الصرف عبر عمله مخرجًا صحفيًا لكنه تحول لمنظر عظيم للمهنة، وأنتج للمكتبة الصحفية كُتبًا غاية فى الأهمية تزيح الستار على خفايا وأسرار مهنة الصحافة. ومن عناوين تلك الكتب تدرك مدى أهميتها «صحيفة تحت الطبع»، «الصحف أسرار»، «دهاليز الصحافة»، «الحياة على ورق»، «كشكول الصحافة»، «العالم يتوحد»، و«كتاب الجورنال»، و«رؤية صحفية على حروف عربية»، و«الخبر اليقين من دق الطبول إلى الأقمار الصناعية».

ولم يكتفِ سمير صبحى بما كتبه عن أسرار المهنة بل صاغ كتابًا مختلفًا عن أستاذه الأول محمد حسنين هيكل باسم «الجورنالجى» حمل نكهة مختلفة فى الكتابة عن الأستاذ على كثرة ما كتب عنه، لما حمله بين سطوره من رائحة إنسانية أفرزتها علاقة رائعة بين الاثنين بدأت منذ اللحظة الأولى لدخول صبحى «الأهرام» فى الخمسينيات حتى صدور الكتاب، الذى ننشر منه الآن مقدمته التى رفض هيكل كتابتها ومع ذلك كتبها، فى صورة خطاب لسمير صبحى يحمل اعتذارًا مسببًا عن عدم كتابة المقدمة نشره الرجل كمقدمة بعنوان «هيكل لا يكتب المقدمة» فى مفارقة غريبة وطريفة وها نحن ننشره الآن فى وداع الأستاذ سمير صبحى بعد أن لملم أوراقه منذ أيام والتحق بركب أستاذه هيكل بعد ٩ سنوات كاملة من رحيله.. رحم الله الاثنين.. هيكل وسمير.

هيكل لا يكتب المقدمة لـ«سمير صبحى»!

«هل يستطيع أحد أن يقدم لعمل هو نفسه موضوعه»

عزيزى سمير

إننى شديد العرفان لتفضلك بإعفائى من كتابة مقدمة لمؤلفك الجديد.

وتعرف أننى بصدق وعمق المودة بيننا لا أستطيع أن أرد لك طلبًا. وقد رأيت بحسك المرهف أن طلبك هذه المرة وضعنى بين شقى رحى وعطّل عندى الحق الابتدائى والطبيعى لأى إنسان، وهو حقه فى الاختيار والقول بـ«لا» أو «نعم».

والسبب الواضح لك ولى: أن علاقتى الخاصة بك تستبعد من حوارنا كلمة «لا».

وفى نفس الوقت فإن علاقتى المباشرة بموضوع مؤلفك الجديد تستدعى حرجًا قبل كلمة «نعم»!

إنك رأيت أن أكون شخصيًا موضوع مؤلفك الجديد واخترت له بالفعل عنوان «الجورنالجى»، وهو الوصف الأثير عندى للمهن التى نعمل بها: أنت وأنا كثيرون من معارفنا وأصدقائنا.

وأنت تتذكر أسبابى لاختيار هذا الوصف أو بالأحرى استعادته من عصور سابقة، وكانت هذه الاستعادة فى رأيى تذكرة ضرورية بالمهمة- المهنة- التى أعطينا أنفسنا لها، ثم أعطتنا بدورها كل ما يمكن أن يدعيه لنفسه أحدنا.

لحقب متعددة نسينا، أو نسى بعضنا، المهمة الحقيقية للصحفى وصميم مهنته، وهى التعامل مع الأخبار، أى مع الأحداث.. مع الوقائع.

ولفترة انهمكنا جميعًا فى كتابة مقالات الرأى وفى التحليل والتوجيه حتى لكدنا أن نضع أنفسنا فى مقام الكهنة الجدد نتحدث بالمواعظ والحكم، وأحيانًا بالرموز والإشارات.

وكان ذلك فى ظنى خروجًا عن ضرورات المهمة وعن طبائع المهنة.

..

إنك وكل زملائنا وأصدقائنا سمعوا منى كثيرًا قولى وإلى درجة الإلحاح والإصرار بأن مهمة الصحافة الأولى هى وضع كل المعلومات فى شأن كل ما هو جارٍ أمام القارئ.

وبدون معلومات صحيحة ومؤكدة أمام القارئ صاحب الحق فيها، فليست هناك قاعدة لأى رأى أو تحليل أو توجيه، ولا حتى مواعظ وحكم أو رموز وإشارات.

إن اللغات التى نقلنا عن حضاراتها بذرة الصحافة تسمى الصحيفة «newspaper» أو بترجمة مباشرة «ورقة أخبار»، كما أنها تسمى الصحفى «newspaper -man» أو بترجمة مباشرة مرة أخرى «صاحب ورقة الأخبار».

ولقد استقر قرارنا فى النهاية على وصف جامع لعملنا وهو «الإعلام».

أى أن صميم العمل الصحفى هو الأخبار أو الإعلام بها أو بما يمت لها بصلة أو علاقة فى كافة مناحى النشاط الإنسانى.

وبالترتيب على ذلك فإنه إذا كان صميم العمل الصحفى هو المعلومات، فإن جوهر حرية الصحافة هو حرية تدفق هذه المعلومات، أخبار أفعال أو أخبار أفكار، فهناك بالفعل ما يمكن أن نسميه باطمئنان أخبار الأفكار.

بعد ذلك، وليس قبله، يصبح للرأى مكان، ويصبح للتحليل مجال، وحتى للوعظ منطق، لأن الكل يكون على نفس القاعدة من المعرفة الكافية بالوقائع تعطى لاختلاف وجهات النظر وتباين أدوات الاجتهاد معيارًا ومقياسًا يسمح بتواصل أى حوار وتوجيه حصيلته لتكون ذخيرة لرأى عام واعٍ ومتنبه ومشارك.

كذلك جاء وصفى الأثير للمهنة وهو «الجورنالجى»، أما تلك الأوصاف التى أعطيناها لأنفسنا أو خلعناها على بعضنا البعض من نوع ووزن «الأستاذ الكبير» و«الصحفى الكبير» فكلها فقاعات ملونة منفوخة بالهواء لا تصنع قيمة ولا تؤكد مكانة.

إن كل صحفى يجب أن يكون بالدرجة الأولى «جورنالجى» يتعامل مع الأخبار باعتبارها المادة الرئيسية الأولى لصناعته. وهو يستطيع أن يحسن العرض ويجيد اللغة، ويزيد فى التفصيل ويهذب ويصقل، لكنه وهو يفعل ذلك لا ينبغى له أن ينسى مادته الرئيسية الأولى.

وأنا سعيد أنك اخترت وصف «الجورنالجى» لمؤلفك، وسعيد أكثر أنك وجدت لى مكانًا فى حيزه.

لكن السؤال بعد ذلك: هل يستطيع أحد أن يقّدم لعمل هو نفسه موضوعه؟

بدا لى أن ذلك ليس معهودًا، بل وبدا لى أنه ليس محمودًا.

أما أنه ليس «معهودًا» فذلك أمر واضح لا يحتاج منى ومنك إلى استفاضة.

وأما أنه ليس «محمودًا» فمسألة أظنها تستوجب توضيحًا بالإضافة.

ظنى أنه غير محمود لعدة أسباب:

أولها أن كتابتى لمقدمة مؤلفك الجديد، وهو عنى شخصيًا، تعنى بالضرورة أن أقرأ مقدمًا نصه قبل أن أقدم له، على الأقل لكى أعرف ماذا أقول، وكيف أقوله.

وثانيها وهو تداعٍ مباشر من أولها أن قراءتى مقدمًا لنص ما كتبت أنت من شأنه بالطبيعة أن يضع عليك نوعًا من القيد، ويستوى أن يكون القيد من حديد أو يكون القيد من حرير!

وسبب ثالث باقٍ وهو أن كتاباتى لمقدمة كتاب لك عنى تعنى ولو ضمنيًا اعتمادى له رواية لقصة حياتى، ومعنى ذلك- ولك أن تتهمنى بالأنانية- أنك تأخذ منى موضوع كتاب آمل أن أعكف عليه يومًا من الأيام، وإن كنت لا أعرف متى؟ وكيف؟ لكنها كما تعلم غواية الورق والقلم، كلاهما يهيئ للكاتب أن هناك فى مكان ما من أعماقه شيئًا يستحق البحث عنه وإظهاره وإبرازه وتقديمه للناس، لكن الغواية فى معظم الأحيان لا تأخذ فى اعتبارها ضرورات أخرى مطلوبة للكتابة إلى جانب القلم والورق، وأولى هذه الضرورات عنصر الوقت والفسحة الكافية منه وسط زحام الحوادث والناس، يضاف إليها الزمن حين يسرق السنين من أعمار الناس وهم فى غفلة عنه بشواغلهم!

ومع ذلك فإنى أحلم مستسلمًا لغواية أن أكتب ذات يوم قصة حياتى بوقائعها ووثائقها، وحتى إذا لم يتحقق لى حلمى فلن أكون خيرًا من ذلك الشاعر الذى أنشد يومًا:

مُنى إن تكن حقًا تكن أسعد المُنى

وإلا فقد عشنا بها زمنًا رغدًا

ولقد قلت لك ما قلت بضمير مستريح عارفًا أننى لا أتركك معلقًا فى الهواء، واثقًا أنك واجد بين الرجال المحترمين الباقين فى المهنة واحدًا يستطيع أن يكون أكثر تجردًا وأقل حساسية منى فى التقديم لمؤلفك الجديد.

سلمت، ولك كل التحية والتقدير.