سيرة السفاح.. لماذا تحب الصحافة «قتالين القُتلة»؟

السفاح فى القاموس اللغوى هو الشخص الذى يُكثر من سفك الدماء، والسفاح فى الصحافة منذ نشأتها هو المنجم الذى تُستخرج منه مئات الحكاوى والزوايا الإنسانية التى تتجاوز ما اقترفه من جرائم، لتفاصيل أبعد وشخوص تزيد القصة ثراءً وتقذف بكميات لا حصر لها من التوابل الصحفية التى تنقض على غدد الدهشة عند القراء والمتابعين.
الأيام القليلة المنقضية انتعشت الغدد الصحفية بسيل من الحكايات المرتبطة بما عرف بسفاح المعمورة، تحاول السلطات الآن اقتفاء آثار أفعاله واستخراج جثث ضحايا هوايته المجنونة بإزهاق الأرواح ودفن الأجساد تحت بلاط الشقق المستأجرة.
وبينما نيران الحكاوى ما زالت مشتعلة ومتجددة فى قضية سفاح المعمورة طفرت من بين ثنايا الأخبار شخصية سفاح آخر فى الجنوب ، ربطته الذاكرة الجمعية سريعًا بشخصية «خط الصعيد» الذى ملأت حكاياته صفحات جرائد نهاية الأربعينيات، وبدأت ماكينة الحكايات الصحفية تغزل على نول الشبق الجمعى للحكى كثيرًا من التفاصيل المرتبطة بطفولة ممزقة وظلم قديم أوصل الرجل ليكون سفاحًا، وتكون نهايته بعد معركة دامية مع الشرطة هو وأعوانه.
ولعلنا لم ننس قصة سفاح الجيزة «قذافى» الذى شارك سفاح المعمورة هوايته فى دفن ضحاياه تحت البلاط، ولا سفاح التجمع السادى الذى كان يؤمن بالتخصص فجعل ضحاياه فقط من النساء سيئات السمعة بعد أن يقضى معهن ليالى حمراء.
بقليل من التأمل لما سبق قد يكون السؤال المطروح فى العنوان منطقيًا على الرغم من غرابته: «هل أحبت الصحافة السفاحين و«قتالين القتلة»؟
الإجابة بكل أريحية وبمنطق نفعى بحت هى نعم، وكيف لا تحب الصحافة السفاحين وسيرتهم التى تجلب الخير الوفير لها المتمثل قديمًا فى أرقام التوزيع وحديثًا فى الريتش طبقًا لمعطيات العصر الإنترنتى الجديد.

اقرا الحادثة.. الصيحة السحرية التى قامت على أكتافها إدارات توزيع الصحف
اقرأ الحادثة.. هل تتذكر تلك الصيحة التسويقية الشهيرة التى كان يستخدمها بائع الجرائد المتجول فى مشهد سينمائى معتاد ومكرر، فى الواقع هى ليست جملة سينمائية من خيال المؤلف، لكنها حقيقية ومعتادة وقت أن كان بائع الجرائد المتجول خطوة هامة نحو زيادة التوزيع، أدركها ملاك الصحف مبكرًا منذ بدايات الانتشار الكبير للصحف الورقية بين أيادى الشعب، ومع الوقت تطور الأمر لرصد الملاك مكافآت مجزية استمرت لوقت ليس ببعيد لكل موزعى الصحف الذين يستطيعون باستخدام حيلهم الخاصة لفت انتباه المارة لما تحتويه الصحيفة من أخبار ساخنة، تستحق أن يُخرج أحدهم من جيبه عملات تكافئ ثمن الصحيفة التى يسوقها هذا البائع الواعى.
الحكايات الإنسانية التى تحيط بعالم السفاح تصبغ عليه هالة أسطورية تثير شغف العامة بمعرفة دقائق عالمه
وهل هناك أسخن من أخبار الحوادث وأبطالها لتجتذب القارئ، خاصة لو كان البطل قد ارتكب من الجرائم ما يؤهله لنيل اللقب السحرى «السفاح»، ما يعنى ذلك بالضرورة دفقة من الأخبار والحكايات التى تختلط فيها الحقيقة مع خيال المحرر مع مبالغات شهود العيان لتتكون فى النهاية أسطورة بشرية مليئة بالألغاز تزيد ثراءً مع الوقت تحت مسمى السفاح.
إذن أهمية الحوادث أمر متجذر فى بنيان الصحافة، منذ نشأتها، ولا أرى هنا أفضل من اللجوء إلى ما رصده الكاتب المميز أيمن عثمان فى كتابه الشائق «تراث مصرى» عن تطور اهتمام مجلة اللطائف المصورة فى عشرينيات القرن العشرين بتصدير أخبار الحوادث والجرائم والسفاحين على صدر الصفحات على حساب الأحداث السياسية التى كانت تعج بها مصر حينها وسأقتبس ما كتبه فى هذا الصدد نصًا لأهميته فى شرح الفكرة، حيث يقول الكتاب:

«قبل ثورة ١٩ ومجلة اللطائف المصورة تلعب فى وجدان الشعب المسالم، وتهيئه للتغيير، وتُشكِّل مزاجه العام، وتوجهه إلى الاهتمام بالجريمة والمجرمين والإجرام.. اعتمدت فى أعدادها الأسبوعية على نشر خبرٍ شاذ عن المجتمع «سرقة- نصبًا- خرج ولم يعد»، وكان النشر غالبًا فى مساحة محددة ومحدودة داخل العدد، وتسويق العدد يعتمد كلية على الخبر.. القائمون على المجلة كانوا يعرفون من أين تؤكل الكتف، وخبر الجريمة كثيرًا ما كان يحرك فضول القراء، والفضول فى الصحافة كارت ناجح.. مع الوقت استكان الفضول، وكان ولا بد من زيادة المساحة المنشورة مع إدخال عنصر التشويق الدرامى للحفاظ على معدلات البيع، وخرج الخبر الشاذ من داخل العدد للصفحة الأولى يخطف عين المتطلع على الغلاف قبل شراء العدد، وتنوعت الأخبار لتشمل القتل والسفاحين.. واقرا الحادثة.
مكانة السفاح الصحفية ترسخت مع الوقت لتزيح أخباره الجديدة أعتى وأهم التغطيات السياسية
استثمرت المجلة عام ١٩٢٠ جرائم السفاحين «بدر الدخاخنى، وإبراهيم الفقير» لزيادة المبيعات، وتم اللعب على وتر الفضول والاندهاش والخوف من وجود القارئ بالقرب من مسرح عمليات السفاح رغم انتهاء الجرائم وإعدام السفاحين.. لفظ «السفاح» استخدمته الصحافة بكثرة فى هذه الفترة، فى إشارة منها أن القاتل مختل نفسيًّا يقتل من أجل لذة القتل، وجرائمه تجاوزت الثلاث ضحايا، وبعد أخبار السفاحين زادت مساحة النشر فى نفس العام لتستوعب أخبار عصابة قتل السيدات ريا وسكينة، وجرائم حميدو الفارس إمبراطور الإجرام فى الإسكندرية.. اقرا الحادثة.
وجرائم ريا وسكينة كانت الفَيصَل فى أهمية الحوادث فى التسويق، وبعدها-تحديدًا عام ٢٣- أصبحت الصفحة الأولى بالكامل، وعلى فترات متقاربة خاصة بالجريمة، سواءً محلية أو عالمية.. اقرا الحادثة جناية فظيعة فى الإسكندرية.. مقتل الوجيه السورى توفيق بك كرم.. اقرا الحادثة نبيلة إنجليزية مصرية تقتل نفسها قضاء وقدرًا.. اقرا الحادثة الحادث الجلل اغتيال سردار الجيش وحاكم السودان العام.. اقرا الحادثة مصرع الشقى الشرقاوى الشهير.. اقرا الحادثة قاتل أخيه وزوجته وابنه وابنته.»

ما ذكره كتاب تراث مصرى عن جريدة اللطائف المصورة كان مؤشرًا لما صار خطًا صحفيًا عامًا فيما بعد بعد أن كثرت الإصدارات وتعاظمت دور الصحافة الورقية فى الحياة اليومية للمصريين، والمنفذ الأهم لهم على أخبار القطر المصرى والعالم، وامتلأت صفحات الجرائد والمجلات على اختلاف دورياتها بأخبار السفاحين المتبوعة باسم المنطقة أو بصفة تلتصق به فهناك سفاح كرموز وسفاح الصعيد الذى أصبح خط الصعيد على تعدد الشخوص الذى مثلهم هذا اللقب لارتباطهم بجنوب مصر، وسفاح روض الفرج وسفاح المهندسين وسفاح النساء والسفاح المثقف حتى وصلنا فى النهاية للدفعة الأخيرة من السفاحين وهو بالترتيب الزمنى عبر أشهر قليلة سفاح الجيزة ثم سفاح التجمع ثم سفاح المعمورة وفى النهاية سفاح ساحل سليم أو خط الصعيد الجديد، اختر ما شئت.

وفى كل الحالات السابقة تصدرت أخبار السفاحين الصفحات الأولى وأفردت لتغطياتهم كل الأشكال الصحفية من أول الخبر الصغير حتى الكاريكاتير الساخر ومرورًا بالحوارات والمقالات والتحليلات والتحقيقات وأخيرًا اللايفات والفيديوهات تماشيًا مع الصحافة الجديدة التى فرضها عصر السوشيال ميديا.. الكل مسخر لعالم السفاح.. الرجل الأسطورى الذى ساقته الأقدار لصحفيى الحوادث لكى ينهلوا من معين حكاياته التى لا تنتهى وتزيد يومًا بعد يوم بفعل الإضافات والبهارات التى يضفيها الخيال الشعبى
وتترسخ مكانة السفاح الصحفية مع الوقت ليتحول إلى الشخص الأبرز الذى يعاد توضيب الصفحات من أجل أخباره الجديدة وتتأخر لأجل عيونه المطابع عن ميعاد دورانها المقدس.. وتنزاح من أمامه أقوى الترندات فى عالم الفيسبوك وأخواته.
ولأن الحديث عن السفاح فى الصحافة يطول ويطول فلا بأس أن نتحدث عن ثلاثة من السفاحين الثقال فى عقود مختلفة وقد شارك فى الجرى وراء أخبارهم كبار المهنة لتصير جزءًا من أرشيفهم الصحفى الذى يفتخرون به حتى لو كان هذا الأرشيف يحمل اسم محمد حسنين هيكل بجلالة قدره.

مانشيت الأخبار يخلد سفاح الستينيات.. ويؤمم الصحافة
ننتقل من الأربعينيات إلى الستينيات وإن كنت مازلت ترى أن هناك مبالغة فى توصيف أهمية شخصية السفاح فى تاريخ الصحافة فإليك قصة أشهر مانشيت فى الصحافة المصرية «مصرع السفاح عبدالناصر فى باكستان».
المحرر تحت التمرين عباس الطرابيلى يكشف من داخل صالة تحرير الأخبار كواليس مانشيت «مقتل السفاح.. عبدالناصر»
والحكاية هنا ليست من قبيل البهارات المتداولة على الإنترنت لكن حكاها شاهد عيان للواقعة فى بداية الستينيات وهو الصحفى تحت التمرين وقتها عباس الطرابيلى فى مقال له بعد ستين عامًا نشره عام ٢٠٢٠ قبل وفاته بشهور.. حيث قال الطرابيلى إن مانشيت الأخبار كان «عبدالناصر فى باكستان» وتم توضيب الصفحة الأولى على هذا الأساس لكن قبل الطبع سقط السفاح «محمود أمين سليمان» الذى كانت تتغذى الصحافة على أخباره منذ شهور.. وكان الطبيعى من منظور مهنى بحت أن يكون مصرعه هو أهم خبر فى اليوم، فكان القرار التحريرى الذى اتخذه الأخوان مصطفى وعلى أمين بزحزحة مادة الصفحة الأولى كلها قليلًا إلى الأسفل لتفسح مكانًا لمانشيت جديد من كلمتين «مصرع السفاح» دون أن يوضع فاصل واضح بين العنوانين ليقرأ المانشيتان وكأنهما عنوان واحد «مصرع السفاح عبدالناصر فى باكستان».
وتسجل تلك الواقعة كأشهر خطأ مطبعى فى تاريخ الصحافة.. ويرتاح كثير من المؤرخين لإرجاع سبب قرار عبدالناصر بتأميم الصحافة إلى هذا الخطأ القاتل، حيث صدر قرار التأميم بعد هذا اليوم بأقل من شهر ونصف وتحديدًا يوم ٢٤ مايو ١٩٦٠
وإن كان الطرابيلى فى مقاله الأخير قد أكد أن خطأ مانشيت الأخبار لم يكن سوى القشة التى انتظرها عبدالناصر لكى يقطم ظهر الصحافة، لأنه كان يرى أن الصحافة تصر على تصدير القصص الخفيفة والفنية على حساب الترويج لمبادئ الثورة الوليدة وسط البسطاء أصحاب الاهتمام الأول لعبدالناصر.
الشاهد فى القصة هنا هو الأهمية الصحفية التى اكتسبها السفاح للدرجة التى تجعل عنوان مصرعه يزحف إلى سطح الصفحة الأولى ليعتلى عنوان رئيس الجمهورية الذى كان حينها فى عنفوان قوته وجماهيريته مع بداية الستينيات.
وبالرجوع إلى حياة السفاح محمود أمين سليمان فقد كانت غاية فى الإثارة للدرجة التى دفعت نجيب محفوظ بجلالة قدره ليصيغ ملحمة اللص والكلاب مستلهمًا من حكاياته المبدورة على صفحات الجرائد والمجلات ما خلق فى خياله شخصية سعيد مهران التى أداها سينمائيًا ببراعة شكرى سرحان لتزداد قصة سفاح الستينيات رسوخًا فى الذاكرة الجمعية للمصريين.
وعلى الرغم من روعة رواية اللص والكلاب، إلا أنها لم تحو إلا قدرًا قليلًا من الإثارة التى تداولتها الصحافة عن شخصية السفاح الحقيقية وكم المغامرات التى خاضها حتى بنى إمبراطوريته الشعبية فى خيال العامة، ناهيك عن كم الخيانات التى تعرض لها من أقرب الأقربين وهو ما حوله فى حكايات كثيرة إلى بطل شعبى.. ووجد الخيال الجمعى للمصريين دائمًا مبررات لجرائمه كما وجد لخط الصعيد من قبله.

الأربعينيات.. خبطة محرر الحوادث محمد حسنين هيكل عن خط الصعيد
فى أغسطس ١٩٤٧ كانت مصر ما زالت منتشية بالتهام آخر أخبار أسطورة خط الصعيد محمد منصور ابن أسيوط والذى كان قد قتل قبلها بأيام عن طريق فرقة من البوليس المصرى بقيادة الملازم أول محمد سعيد هلال وهو نفسه الرجل الذى حكى مذكراته مع خط الصعيد فى حلقات صحفية مسلسلة بعد ذلك بسنوات واستعان بها صلاح عيسى فى كتابه الممتع أفيون وبنادق.
كل ما وصلنا من حكايات عن خُط الصعيد مصدرها الأصلى تحقيق استقصائى صنعه صحفى شاب اسمه محمد حسنين هيكل
لكن بخلاف مذكرات هلال فإن الكثيرين لا يعرفون أن كثيرًا من التفاصيل والحكايات الملتصقة بخط الصعيد وعملية قتله الأسطورية لها مصدر صحفى طازج وهام وهى تحقيق استقصائى برائحة الأربعينيات غاية فى الروعة والإحكام نشرته مجلة آخر ساعة على ٤ صفحات كاملة بعد قتله بأيام قليلة.. وبصور نادرة صورها كبير مصورى أخبار اليوم محمد يوسف، أما صانع التحقيق المحكم فلم يكن سوى الصحفى الشاب محمد حسنين هيكل المحرر بآخر ساعة، كما ذكرت المجلة فى مقدمتها للتحقيق.

هيكل افتتح تحقيقه بإثارة قضية هامة بعد وفاة الخط وهى ابنه وما ينتظر المجتمع من مستقبل غامض بشأن الثأر لقتل أبيه من عدمه، حيث يقول هيكل بالنص «إن الرصاصة الأخيرة لم تطلق بعد.. إنها رصاصة باقية مدخرة لطفل صغير عمره الآن أقل من سنتين ولا يمكن أن تعتبر الحرب منتهية حتى تنطلق هذه الرصاصة فتستقر فى قلب الطفل البرىء الذى يحدق فى الناس بشرود وهو لا يعرف مصيره ولا يعرف أى حقد سيبذر فى قلبه منذ الآن لكى يكبر ويأخذ بثأر أبيه» ويكمل هيكل تسليط الضوء عن القنبلة الموقوتة التى رصدها بحثه الصحفى قائلًا «إن هذا الطفل الصغير العليل هو الرجل الوحيد الباقى من عائلة الخط وليس هناك شك فى أن أمه وجدته ستجعلان ثأره لأبيه مثله الأعلى.

لم يكتف المحرر النابه هيكل بذلك، بل صنع بقلمه خريطة إنسانية لعائلة الخط أصبحت مرجعًا بعد ذلك للكثيرين حيث قابل أمه المعروفة باسم «خالتى فضة» فى البلدة الصغيرة القابعة فى منفلوط وسجل ملاحظته عنها حيث قال «تلمح وراء الدموع والسجن قوة الأعصاب والعزم الأكيد على أن الثأر لا ينسى».
ومن الأم إلى الحبيبة «رشيدة التى تزوجها الخط وهى بنت التاسعة وأنجبت له الابن الوحيد هاشم حامل الثأر المحتمل.
وتكلم هيكل مع أعضاء فرقة الموت التى أوقعت بأخطر سفاح فى تاريخ مصر حتى ذلك الحين واستمر المحرر فى جمع القصص الملقاة بين طرقات القرية على لسان الأهل لتزداد أسطورة خط الصعيد تبلورًا وتصبح مادة خامًا لكثير من الأعمال الفنية والأدبية بعد ذلك.. خاصة أنها تحمل فى طياتها جوانب إنسانية يحبها الجمهور مثل تلك القصة التى حكاها فى نهاية تحقيقه عندما تساءلت خالتى فضة عن المنظار الذى كان معه لحظة قتله ثم فسرت الأم وظيفة هذا المنظار عند الخط، حيث كان يحب أن يرى زوجته رشيدة وابنه هاشم من الجبل ولا يستطيع بطبيعة الحال النزول إلى البلدة فكان يتفق على ساعات معينة تصعد فيها رشيدة ومعها هاشم فوق السطح ويقف هو فوق قمة الجبل ومنظاره على عينيه ناحيتهما ويظل يرقب زوجته ويرقب ابنه الوحيد برهة من الزمن ثم يمضى إلى الكهوف التى يعيش فيها.

عندما زاحم سفاح المهندسين خبر موت عبدالوهاب فى التسعينيات
فى عددها الصادر يوم ٨ مايو ١٩٩١ خرجت مجلة آخر ساعة بتغطية صحفية مثالية لقضية أثارت جدلًا شديدًا لمجتمع بداية التسعينيات وهى القضية التى عرفت بسفاح المهندسين.. وكان من المنطقى لأهمية القضية وتكامل التغطية الداخلية أن تكون هى بطلة الغلاف أيضًا لكن هذا العدد تحديدًا لم يكن من الممكن أن يكون هناك بطل للغلاف غير موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب.. والسبب هو رحيله المفاجئ قبل موعد صدور المجلة بـ٤ أيام حيث توفى بأزمة قلبية فى بيته.. وكان من الطبيعى أيضًا أن تفرد الصفحات الأولى فى المجلة لتغطية هذا الحدث الجبار الذى تتقزم بجانبه كل الأخبار نظرًا لأهمية الراحل وهو الموسيقى الأهم فى العالم العربى.. ولكن مع ذلك فقد زاحمت تغطية أخبار السفاح وفاة عبدالوهاب حتى على الغلاف، حيث أخذت المجلة عنوانًا كبيرًا من التغطية يقول «الدكتور أحمد شفيق يروى: مغامرتى مع السفاح» وأفردت المجلة ٤ صفحات كاملة بالداخل لآخر مغامرات السفاح ابن الذوات أحمد محمود حلمى، بالإضافة إلى حوارات مطولة مع أهم أربعة أشخاص حول السفاح وهم أبوه وأمه وزوجته وعقيد الشرطة الذى يتولى قضيته.. لتكون تغطية آخر ساعة من أهم التغطيات الصحفية لقضية سفاح المهندسين وأكثرها تكاملًا فى تلك الأثناء.

البداية حوار مطول مع الدكتور أحمد شفيق، أحد أشهر الأطباء فى مصر والذى كان معروفًا عنه حينها بأبحاثه الجادة عن مرض الإيدز المرض الأخطر والأحدث بداية التسعينيات.. ويحكى الدكتور شفيق باستفاضة عن مغامرته مع سفاح المهندسين بعد صمت طويل حيث يكشف لآخر ساعة لأول مرة عن تفاصيل ما حدث معه هو وأهل بيته من قبل السفاح لنكتشف أن أحمد المسيرى ذهب متخفيًا فى شخصية ضابط شرطة ومعه عسكرى فى غير وجود الدكتور شفيق وقابله البواب وابن الدكتور الأصغر إسماعيل- وهو طبيب شهير الآن- وبالطبع لم يتخلل الشك لحظة إلى إسماعيل أو البواب أو أى من أفراد المنزل لأن أحمد حلمى كان شديد الوسامة والشياكة ولن يبذل مجهودًا كبيرًا لينتحل صفة ضابط شرطة.. واستمر السفاح فى تمثيليته ليقنع أصحاب البيت أن هناك حادثة قتل حدثت فى الفيلا المجاورة لهم وهى فيلا صلاح الشاهد ويحتمل أن يكون القاتل قد تسلل إلى فيلا الدكتور شفيق.. وعلى إثر هذا تركه أصحاب البيت ينقب بحرية تامة داخل الفيلا وهم مصدقون تمامًا روايته المفبركة.

ثم يخرج السفاح عن هدوئه بعد أن يفشل فى العثور على أبحاث الإيدز، كما قال للدكتور أحمد شفيق الذى حضر إلى الفيلا ليجد ابنه إسماعيل وجميع العاملين بالفيلا مقيدين، فما إن رآه الضابط الشاب حتى استأذنه بأدب جم أن يجلسا معًا فى الصالون وقال له باختصار إنه جاء ليحصل على المايكروفيلم الخاص بأبحاث مرض الإيدز لصالح منظمة دولية تريد تلك الأبحاث ودفعت له ثمن الحصول عليها.
واستمر الدكتور شفيق يحكى لصحفى آخر ساعة رأفت بطرس حتى وصل للموقف الأخير الذى يبرز غرابة أطوار ذلك السفاح حيث أخذه بالحضن وبكى بكاء شديدًا معتذرًا له عن سوء تصرفاته مع أهل بيته بعد أن قيد ولده الآخر على شفيق- طبيب شهير الآن أيضًا- وزوجته الدكتورة ألفت السباعى.. وقال السفاح إنه ابن ناس ومجبر على ذلك وعلى حد قول الدكتور شفيق إنه كان يتحدث معه بطلاقة شديدة بثلاث لغات الإنجليزية والألمانية والفرنسية.. وفى النهاية طلب منه السفاح ألا يبوح بما حدث لأى مخلوق حتى لا تؤذيه تلك المنظمة الدولية.. وهو ما يفسر سكوت الدكتور أحمد شفيق حتى رأى صورة السفاح فى الجرائد فعرف بعد القبض عليه متهمًا بقتل رجل أعمال شهير وزوجته والشغالة وعدد سرقات لا متناهية، فأدرك الدكتور شفيق أنه وأهل بيته قد كتب لهم عمر جديد، وقرر أن يحكى ما حدث بالتفصيل فكان من حظ مجلة آخر ساعة أن تنفرد بتلك التفاصيل الغريبة.

استكمل صحفيو آخر ساعة تغطيتهم المتكاملة عن سفاح المهندسين غريب الأطوار بلقاء باقى أطراف قصته جميعًا الضابط الذى قبض عليه والأب والأم والزوجة العراقية.. وجاءت تصريحاتهم التى كانت حوارات مطولة لتزيد من غموض قصة السفاح.. وأول المتكلمين كان العقيد جاد جميل الذى صبت القضية بكل تشابكاتها فى مكتبه ومن ضمن ما قاله مثلًا إن المتهم بالرغم من اعترافاته الكاملة بهدوء عن كل جرائمه وعلى رأسها جريمة قتل رجل الأعمال وزوجته والشغالة لكنه مع ذلك رفض تمثيل الجريمة وادعى إصابته بانهيار عصبى وأبدى استعداده لرسم كروكى لجرائمه بديلًا عن ذلك.
ثم جاء الأب والأم ليستكملا الصب فى وعاء حكايات سفاح التسعينيات الأول، حيث أكد الأب وهو لواء متقاعد ورجل أعمال بالغ الثراء أن ابنه مجنون وناقص الشخصية ومعدوم الضمير على حد قوله لمحرر آخر ساعة وقال إنه قام بعمل جلسات دينية له لتقويم سلوكه دون جدوى ثم تأتى الأم لتصب النار على كلام الأب لتؤكد أن ابنها برىء وأن أباه هو سبب كل المصايب التى حدثت لابنه.
ثم الزوجة العراقية مانويلا التى عنونت آخر ساعة حوارها المطول بتصريح لها يناقض ما حدث تمامًا وهى تسأل مندهشة «أحمد عطوف كيف يقتل؟!».