الأربعاء 02 أبريل 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

زيارة جديدة لموسيقار الأجيال من بوابة «القلم»

عبدالوهاب إذا كَتَبَ.. من جاور أمير الشعراء.. أَشْعَر

محمد عبدالوهاب
محمد عبدالوهاب

- اعتلاء قمة الهرم الموسيقى حرمنا من مشروع أديب كبير

- انغمس الشاب محمد عبدالوهاب بقوة دفع أمير الشعراء فى مجتمع الأدب والثقافة سريعًا 

- روزاليوسف أنقذته من براثن العقاد والمازنى وحوّلت نقدهما اللاذع إلى شعر فى حب الموهبة الجديدة

- رأى أن «العقاد» ظلم إنجاز «الريحانى» السينمائى بنسبه إلى المسرح فقط 

- سر الكراسة الخضراء التى سربتها نهلة القدسى إلى أحمد رجب وتحوى آراءه السرية فى نجوم الأدب والفن

- موهبة الكتابة المتفجرة بداخله أبرزتها خواطر أدبية على هامش النوت الموسيقية لأشهر ألحانه

امتلك شوقى وعبدالوهاب، قصة مشتركة طويلة وملهمة، بقدر ما حملته من آيات العطاء بلا حدود من جانب أمير الشعراء، والعرفان بلا حدود أيضًا من جانب موسيقار الأجيال.. والشاهد التى تسوقه كل الروايات أن شوقى وجد فى عبدالوهاب ضالته منذ أن وقعت عيناه عليه فى النصف الأول من عشرينيات القرن الماضى وهاله ما رأى من موهبة متفجرة آمن بها حتى النهاية.

وظل عبدالوهاب خلال سنوات شوقى الأخيرة ملاصقًا له ناهلًا من فيض شعره وإنسانيته، ما أوحى لنا القيام بزيارة سريعة إلى وجه آخر غير مألوف من وجوه ابن باب الشعرية وهو وجه الكاتب أو بمعنى أصح «مشروع الكاتب» الذى بالتأكيد قد توارى خجلًا خلف حالة صعود صاروخى فى مسار النغم وموهبة موسيقية مستحيلة التكرار قد برزت وتوجت جبينه بتاج موسيقار الأجيال الأوحد.

إذن علاقة أمير الشعراء بهذا الفتى الجديد الذى خطف القلوب والألباب بصوته العذب وألحانه الثورية؛ كانت علاقة قدرية متينة، تحدث عنها كثيرًا عبدالوهاب فى حواراته بعد أن علت موجته فى بحر الموسيقى العربية، ومن منطلق أن مجاورة السعيد تصيب بالسعادة، فإن مجاورة أمير الشعراء بالتأكيد قد أصابت عبدالوهاب بمس سحرى من ذائقة الكتابة وأسالت قلمه ليخرج بعض مواهبه بالقلم أحيانًا.

حيث ظلت موهبة الكتابة مشتعلة خلف تلك المكانة الموسيقية الرفيعة التى حققها الرجل، واستمرت جذوة حية قابلة للفوران فى أى لحظة.. حال تطلب الأمر أن يترك الموسيقار ريشة عوده ويمسك قلمه ليكتب.

أغلب الظن أنه لولا غزارة إنتاج عبدالوهاب الموسيقى الذى شغل وقته تمامًا، لكان عبدالوهاب من كبار الكُتاب، والأمر منطقى تمامًا فقد لازم أحمد شوقى بجلالة قدره، وهو الرجل الذى امتلك ناصية الكلمة وصارت اللغة بمفرداتها وكنوزها داخل قبضة يده يطوعها كيفما يشاء.

فلا بأس هنا أن نقلب فى أوراق الكاتب الموهوب محمد عبدالوهاب الملقب بموسيقار الأجيال.. لنكتشف بعض ما خفى من عالمه الذى هو بالتأكيد أعظم.

أحمد شوقى ومحمد عبدالوهاب

كيف زرع شوقى بذرة الكتابة داخل ابن باب الشعرية الموهوب؟

بالعودة إلى بداية العلاقة المثمرة بين كبير الشعر وكبير الموسيقى، سنعود إلى بدايات القرن العشرين عندما كان أحمد شوقى باشا حاضرًا فى مسرح برنتانيا بالصدفة رفقة بعض الأصدقاء من الأعيان والباشوات، كما هو معتاد فى تلك الفترة، فأسقط فى يد الأمير ما رآه على المسرح حيث فتى صغير السن يغنى أدوارًا لسلامة حجازى بصوت عذب لكنه لم يتخلص من أوتار الطفولة بعد، فما كان من شوقى إلا أنه ذهب إلى حكمدار القاهرة الإنجليزى، ليطالبه بمنع «محمد عبدالوهاب» من الغناء، لأنه صبى صغير السن، ونجح بالفعل فى استصدار قرار بمنع الطفل من الغناء، وكان غرضه الأساسى حماية تلك الموهبة التى تتفتح وردتها من الذبول سريعًا على مسارح وسط البلد وعماد الدين التى احترقت داخلها مواهب كثيرة من فرط استغلالها فى غير مكانها.

مرت السنوات سريعًا وحضر شوقى احتفالًا أقامه معهد الموسيقى الشرقية منتصف العشرينيات فى سان ستيفانو بالإسكندرية ليجد الشاب العشرينى وقد ألهب الحفل بطلته الآسرة وموسيقاه الشجية التى تحمل روحًا جديدًا أشبه بالثورة التى بدأها أستاذه سيد درويش قبل سنوات، لكن لها نكهة خاصة به، وعلى ما يبدو أن المطرب الشاب قد قرر أن يخرج كل ما فى جعبته من إبهار فغنى كما لم يغنِ من قبل لكى يرد بأثر رجعى على ذلك الرجل الذى يجلس أمامه فى المقصورة والذى كان سببًا قبل سنوات فى إيقافه عن الغناء لصغر سنه، كما قلنا.

بعد انتهاء الحفل، طلبه «شوقى بك»، فصافحه بحرارة، وهنأه على غنائه، فذكره «عبدالوهاب» بما فعله معه منذ سنوات بعيدة، لكن «شوقى» أمسك بيده، وقال له: تعالَ معى.. وكان أمير الشعراء فى هذا اللحظة قد رسم مستقبل الفتى الفنى فى خياله وعين نفسه وصيًا عليه بالمعنى الحرفى للكلمة وليس المجازى.

اصطحب شوقى عبدالوهاب معه إلى «كرمة بن هانئ» وهو قصر أمير الشعراء الذى بناه حديثا حينها. 

وعيّن له غرفة داخل القصر بجوار غرفة نومه، ونظم له مواقيت الأكل والشرب والصحو والنوم والتمشية حول القصر، وأجلسه على سفرة الطعام، وبيّن له أن الشوكة لا بد وأن تكون فى اليد اليسرى، بينما السكينة، فمن المنطقى أن تكون فى اليد اليمنى، وأحضر له مدرسًا للغة الفرنسية، وطبيبًا يكشف عليه كل سبعة أيام، وترزيًا يفصل له بدلتين كل ستة أشهر، وعلمه ربط الكرافتة، وإمالة الطربوش، والتعامل مع المعجبات، حتى صار عارفًا الخير والشر والفن والسحر ومغازلة الجميلات.

ومن نافذة كرمة بن هانئ نظر عبدالوهاب وتمعن على مجتمعه الجديد الذى يضم عِلية القوم، ورجال المجتمع والسياسة والمال، وكان من جمهوره داخل حفلات قصر شوقى «سعد باشا زغلول»، و«أحمد باشا ماهر»، وحكمدارية الأقاليم، وباشوات السهر، وبدأت مصر كلها تتحدث عن ذلك الكنز الفنى الذى يقبع فى بيت «شوقى بك».

تعلقت موهبة عبدالوهاب على اسم شوقى حتى إن ذلك الأمر جر عليه هجومًا كاسحًا فى البداية من أعداء أمير الشعراء وعلى رأسهم عباس العقاد وإبراهيم عبدالقادر المازنى اللذان تباريا فى الهجوم على الشاب الجديد دون حتى أن يستمعا إليه، هنا تدخلت فاطمة اليوسف لتوقف هذا الأمر، ونظمت حفلًا كبيرًا لهذا المطرب الشاب ودعت إليه كل رموز الفكر والأدب والصحافة وعلى رأسهم العقاد والمازنى ليروه على الطبيعة، وقد كان، استمع فعلًا الاثنان لعبدالوهاب فأسرهم بأسلوبه الجديد وطلته الآسرة، وتحول الهجوم إلى إعجاب شديد ودعم لا محدود حتى إن العقاد كتب فيه قصيدة جميلة نشرها فى جريدة «البلاغ» سعد بها شوقى وعبدالوهاب كان مطلعها يقول: 

إيه عبدالوهاب إنك شادٍ

يطرب السمع والحجا والفؤادا

قد سمعناك ليلة فعلمنا

كيف يهوى المعذبون السهادا

وهكذا انغمس عبدالوهاب بقوة دفع أمير الشعراء فى مجتمع الأدب والثقافة المجاور والملازم لمجتمع الفن والموسيقى، وأخذ نجم عبدالوهاب يعلو ويعلو وسط هذا المجتمع الممتلئ عن آخره بآيات الإبداع والكتابة حتى بعد أن توفى أبوه الروحى أمير الشعراء سنة ١٩٣٢.

لكن شوقى فى الحقيقة لم يمت قبل أن يرسخ قدم فتاه المدلل محمد عبدالوهاب فى عالمه الأدبى الرفيع، بل وصل الأمر إلى أنه أوفده مرة سفيرًا له إلى ملك العراق «الملك فيصل الأول»، وبداية القصة أن فيصل قابل شوقى بالصدفة فى باريس فدعاه الملك لزيارة بغداد وأخذ يلح فى هذا الطلب عامًا بعد عام لإدراكه قيمة أمير الشعراء، لكن شوقى كان يتهرب من تلبية الدعوة لوعورة طريق البر وخوفه المرضى من ركوب الطائرة، فما كان من شوقى إلا أن اصطفى عبدالوهاب ليحل محله فى تلك الزيارة المهمة لملك العراق سنة ١٩٣١ مع هدية قيمة عبارة عن تحية شعرية منه لحنها عبدالوهاب وسافر بها إلى بغداد، وغناها لفيصل وكان مطلعها: 

يا شراعًا وراء دجلة يجرى

فى دموعى تجنبتك العوادى

سر على الماء كالمسيح رويدًا

واجرِ فى اليم كالشعاع الهادى

ليس هذا فحسب بل إن شوقى أتاح له الاطلاع على أصوات أدبية أخرى، حيث دعا شاعر الهند الأهم «طاغور» إلى كرمة بن هانئ «بيت شوقى» وأقام له حفلًا كبيرًا دعا إليه ساسة البلد وشعراءه وأدباءه وعلى رأسهم سعد زغلول الذى كان حينها رئيسًا لمجلس النواب الذى استخدم نفوذه حينها فى تأخير جلسات المجلس ساعة حتى يتسنى للمدعوين من الوزراء وأعضاء المجلس المدعوين للحفل الحضور والترحيب بضيف مصر الكبير، وكان بالطبع نجم الحفل حينها ابنه وربيبه محمد عبدالوهاب الذى غنى مقطوعة من «مصرع كليوباترا» لأول مرة إكرامًا للضيف الكبير.

الشاهد فى الأمر أن أمير الشعراء قد وفر جوًا من الإبداع لعبدالوهاب كان كفيلًا أن يفجر داخله ينابيع أخرى غير الموسيقى وهى ينابيع الكتابة، والتى جعلته لا يجد مشكلة عندما تطلب منه إحدى المجلات الفنية بعد ذلك أن يكتب مقالًا، عن أى شىء فقد كانت الحصيلة اللغوية قد امتلأت من طول جلوسه فى كنف أمير الشعراء أحمد شوقى.. بل إنه كان يبادر بإرسال مقالات أحيانًا عندما يريد أن يشتبك فى قضية ما مثلما فعل مع العقاد لاحقًا فى نهاية الأربعينيات بعد وفاة الريحانى كما سنرى.

حسين شوقى ابن أمير الشعراء ذكر لمجلة الكواكب عام ٦٤ موقفًا يستخدمه اليوم خبراء التنمية البشرية لدعم المحبطين دون أن يعرفوا أن أصل الموقف كان بين شوقى وعبدالوهاب، حيث يحكى حسين أن عبدالوهاب جاء أباه مرة وعلى وجهه مسحة من الحزن والألم فسأله شوقى عن السبب، فأخرج عبدالوهاب بضع مجلات كانت تهاجمه وعرضها على أمير الشعراء الذى قال له: لا تحزن بل يجب أن يسرك تزايد الهجوم، لأن النقد يرفعك ويزيدك شهرة وسأثبت لك ذلك عمليًا، ضع هذه الصحف والمجلات على الأرض وقف عليها بقدميك، وعندما فعل عبدالوهاب ارتفع قليلًا بطبيعة الحال عن الأرض حيث كان الهجوم عليه شديدًا حينها واتهامه بسرقة الألحان فى ذروته، هنا نظر شوقى لعبدالوهاب وابتسم قائلًا: ألم أقل لك إن النقد يرفعك؟

نفس عدد الكواكب السابق ذكره قد رصد شهادة أخرى عن تلك العلاقة الملهمة وهى على لسان الخادم النوبى الأمين لأحمد شوقى واسمه «أحمد كوشى» وهو الذى مات على يديه أمير الشعراء وسمع منه آخر كلماته على سطح هذه الدنيا، حيث يحكى أنه ذات يوم استيقظ على رنين جرس متواصل مصدره غرفة سيده، فهرول مسرعًا إلى الحجرة لينظر ماذا يريد فوجده ينازع الموت وآخر ما قاله له: «لا فائدة.. انقطع الأمل سلّم على الأستاذ عبدالوهاب».

هذا الموقف الإنسانى المؤثر لم يفارق وجدان عبدالوهاب وظل يذكره كثيرًا متأثرًا ودامعًا أن يكون أول من خطر ببال أمير الشعراء وهو ذاهب للقاء ربه.

عبدالوهاب حكى موقفًا آخر بينه وبين شوقى يؤكد معنى هذا الرباط الوثيق بينهما وكيف كان ينظر له شوقى بإكبار نتج عنه هذا الدعم المطلق من أمير الشعراء، حيث يقول عبدالوهاب إن شوقى سأله ذات مرة قبل أن يموت: هل تعرف أننى قدمت لك شيئًا فى حياتك؟ فرد عليه: «أنت ولى نعمتى». 

هنا رد شوقى بما يشبه التوصيف الأمثل لدوره فى حياة ولده عبدالوهاب حيث قال: «حاشا لله أن أكون كذلك ولكنى أعتقد أننى حاولت أن أبث فيك الثقة بالنفس، وأن أوجهك نحو المجتمع بقوة وأن أدفعك نحو المجد الذى تستحقه وليس لى من جزاء على هذا الصنيع المتواضع إلا مطلب واحد.

رد عبدالوهاب سريعًا: ما هو؟ إن حياتى فداك.

فرد شوقى: أن تغنى شعرى بعد موتى وأن تغترف منه ما تشاء، فإن خلودى فى أن يردد الشعب شعرى وأنت كفيل بأن تجعل الشعب يفهمه ويحبه ويردده.

فى النهاية ينبغى التأكيد أن عبدالوهاب لم يكتفِ من شوقى بنصائحه ودعمه المباشر فقط، لكنه تأثر بمجاورة أمير الشعراء الذى غذى غدد الكتابة عنده، وفى ظنى أن الكتابة كانت موهبة حقيقية امتلكها عبدالوهاب بجانب الموهبة الموسيقية بالطبع، لكن لأن الأخيرة كانت موهبة خيالية أوصلته إلى قمة لم ينازعه فيها أحد وصار موسيقارًا لكل الأجيال، فإن موهبة الكتابة قد خبأت وانطوت فى ركن قَصِى داخل النفس الوهابية، لكنها ظلت جذوة لم تنطفئ خرجت بين الحين والآخر فى شكل مقال هنا أو هناك، أو حتى فى شكل كتابات مبتسرة لكنها فى غاية البلاغة على هوامش النوت الموسيقية التى حملت أعظم ألحانه وتلك قصة أخرى قبل أن نستكشفها تعالوا نقرأ مقالًا قديمًا وطريفًا كتبه بعد وفاة شوقى بوقت قصير ونُشر فى «آخر ساعة».

عندما استكتب التابعى عبدالوهاب فى العدد الأول لـ«آخر ساعة»

عندما شرع محمد التابعى فى إصدار تجربته الصحفية الخاصة التى صارت بعد ذلك واحدة من أهم المجلات فى تاريخ الصحافة العربية وهى «آخر ساعة» كان لا بد أن يستقدم الرجل أصدقاءه ليعاونوه على إنهاض التجربة الصحفية الوليدة، ومن ضمن هؤلاء ذلك الشاب ذائع الصيت الذى كان ترند هذا العام وهو محمد عبدالوهاب بعد عرض فيلمه الجديد «الوردة البيضاء» قبل شهور، وهو الفيلم الذى توج عبدالوهاب دنجوانًا ورسخ عنه صورة معبود النساء التى كان يحبها وظل كذلك بقية حياته ما جعله ينفى زواجه ليظل فى مرمى بصر بنات الثلاثينيات الفاتنات، فما كان من الجرنالجى الشاطر محمد التابعى إلا أنه جعل عبدالوهاب يكتب مقالًا عن ذات الموضوع فى العدد الأول من «آخر ساعة»، فكان هذا المقال الذى أنشره نصًا كما كتبه سنة ١٩٣٤ وكان بعنوان «لن أتزوج».

مقال عبدالوهاب فى العدد الأول لـ آخرساعة

وهذا نصه: 

«ليست هذه أول مرة أكتب فيها مقالًا للصحف، ولكننى مع ذلك أمسك القلم بتردد.. وأرانى مضطرًا للاعتراف - بينى وبين نفسى على الأقل - بأننى جبان! وأننى أخاف عواقب هذا المقال.

وليس خوفى من قانون الصحافة ولا من النيابة العمومية ولا من أن يصبح مقالى هذا - بعد أن كان مقال التلاقى - يصبح مقال الوداع.. ولكن خوفى هو من الرأى الذى سأبديه فى الزواج.. وبعدها يا لوعتى يا شقايا يا ضنى حالى من غضب الجنس اللطيف. وأنا راجل أحب أن أحافظ دائمًا على رضاء الجنس اللطيف.

لن أتزوج:

لن أتزوج ولو شنقونى! ذلك لأننى أعتقد أن الزواج يقضى على الفنان الذى يريد أن يحس وأن يحلم وأن يحلق كل ساعة فى سماء الخيال.

الزواج رابطة مملة مهما كانت الزوجة ومهما حسنت نية الزوج. وأرونى زوجين عمرت بينهما الأحلام بعد سنة واحدة من الزواج.

والفنان فى حاجة إلى عين لا تنضب من الخيال والحس والشعور بمختلف العواطف من حزن وفرح وبغض وحنان ولذة وألم وحب وكُره.. إلى آخر الألوان التى يصورها كل يوم بموسيقاه والتى تتدافع فى صوره وتخرج منه أنغام تشجى وتبكى.

والزواج يقتل هذا كله، وعلى من يعارضنى فى هذا الرأى أن يمد إصبعه ويدلنى على فنان واحد استطاع فنه أن يعيش كاملًا بعد الزواج.

وبعد فإنى أعترف أننى رجل ملول بطبيعتى لا أطيق القفص ولا القيود.

أريد أن أظل حرًا أطير من غصن إلى غصن وأنتقل من زهرة إلى زهرة.

إذن لن أتزوج ولم أفكر يومًا ما فى الزواج».

عبدالوهاب يناطح العقاد فكريًا فى رأيه عن الفقيد نجيب الريحانى 

عندما صعق الوسط الفنى نهاية الأربعينيات بوفاة عمود الخيمة الأهم حينها للفن المصرى عامة والمسرح خاصة وهو نجيب الريحانى فى ٨ يونيو ١٩٤٩، ظلت الفاجعة محور التغطيات الصحفية حينها وأدلى الجميع بدلوه فى محبة وتقدير هذا الرجل الذى بنى جبلًا من الإبداع لم يصل إليه أحد، ومن ضمن هؤلاء كان محمود عباس العقاد الذى كتب مقالًا كبيرًا فى رثاء الرجل فى عدد «الكواكب»، وكان عنوانه «رجل خُلق للمسرح».. عدّد فيه العقاد ما يملكه من حجج وبراهين عن أن الريحانى هو رجل المسرح الأول الذى لا يمكن أن يضاهيه أحد، والسينما بالنسبة له كانت تجربة جميلة لكنها غير أصيلة ولا يجب أن تنسينا أن المسرح هو الأساس فى العالم الريحانى.

الصورة الأخيرة للريحاني بجوار عبدالوهاب ويوسف وهبي وليلي مراد

بعد نشر المقال ضمن عدد «الكواكب» لتغطية موت الريحانى يبدو أن عبدالوهاب لم يعجبه وجهة النظر العقادية، خاصة أنه رأى الريحانى قبل شهور فى اللوكيشن السينمائى فى فيلم «غزل البنات» مع ليلى مراد وأنور وجدى ويوسف وهبى، وهو الفيلم الذى لم يشاهده الريحانى وعرض بعض وفاته.

المهم أن عبدالوهاب أرسل لـ«الكواكب» مقالًا طويلًا أيضًا يحاجج فيه العقاد شخصيًا فى هذا الطرح الذى رأى هو عكسه حتى فى عنوانه الذى نُشر باسم «رجل خُلق للسينما».. وكان المقال بديعًا فى الحقيقة طرح فيه وجهة نظر مغايرة تمامًا بأسلوب كتابى بليغ وراقٍ يظهر ما لدى عبدالوهاب من ملكات الكتابة الجميلة ومخزون كبير من طول عشرة أمير الشعراء.. وهنا لا بأس من نشر ما كتبه أيضًا بنص ما نشرته «الكواكب» فى عدد الأول من أغسطس عام ١٩٤٩ وهذا نصه:

كتب أستاذنا الجليل «العقاد» فى العدد الماضى من «الكواكب» مقالًا افتتاحيًا ممتازًا بعنوان «رجل خلق للمسرح» أضاف به خلودًا جديدًا لعبقرية الفنان الفقيد نجيب الريحانى. وقد قال أديبنا الكبير: «إنك تحاول أن تتخيله فى عمل آخر غير عمله المسرحى فلا تفلح. هو على المسرح كالسمكة فى الماء- دخوله إليه وحركته عليه، وكلامه وسكوته وإيماؤه، وقيامه وقعوده، طبيعة من صميم الطبيعة تنسيك كل تكلف يحتاج إليه الفنان حتى ينتقل من العالم الخارجى إلى عالم الفن والرواية..».

وبوسعى كفنان زامل الريحانى فى آخر عمل فنى له وهو فيلم «غزل البنات» أن أقول فى ثقة وحماسة وتأكيد.. إننى لا أتخيل الريحانى إلا مظلومًا على المسرح.. فإن خشبة المسرح كانت تسرق الكثير من عبقرياته لتدفنها فى جو محدود، وتطويها دون أن يشعر بها أحد، وتمر بنا فى رخص الريح، بينما هى فى إبداعها مثل عطر غال نادر الوجود..

فإن للريحانى وجهًا معبرًا صارخ الملامح ناطق السمة، تكاد كل خلجة فيه تبرز قصة بليغة صامتة. وله لمحات تطفر من عينيه يسجل فيها أروع أحاسيس الفنان الملهم.. دمعة كسيرة، أو نظرة مرحة، أو غشاء من ترح أو فرح يكسبه لونًا إعجازيًا قل أن يكون له نظير فى العالم.

وكانت له أيضًا نبرة صوت فيها كل شجن الفنان، تقفز رأسًا من خفقة قلبه لتخرج من شفتيه أشبه بهمسة واهنة لا تكاد تسمعها الأذن.. ولكنها أنفاس حارة تنفخ أجيجًا من نار فى إحساس من يتتبعه.

أقول هذا وأنا لا أكاد أتخيل شيئًا غير عدسة الكاميرا يمكن أن تسجل فى أمان هذه البلاغة التعبيرية، لتقدمها للجماهير نطقًا عبقريًا.. وأقولها وأنا لا أكاد أتخيل شيئًا غير الشاشة يمكنها أن تعرض فى إتقان وأمانة وراحة هذا العالم الرحب الرائع، الذى كانت تلعب فيه شخصيات نجيب المتعددة أدوارها المخلدة، فتقرب وتبرز لك أدق حركة من حركاته وألمع لمحة من لمحاته وأرق نبرة من نبراته.

فالريحانى لم يكن جسمًا يتحرك فقط ليراه المشاهد من مقاعد الصف الأخير أو من أعلى التياترو، كما يراه المشاهد فى الصف الأول- ولكنه كان روحًا يجب أن تلمسها لمسًا بإحساسك، فلا تجهد نفسك معها، وإلا فشلت فى تتبعها. والمسرح أبدًا لم يكن ليساعد الريحانى على الوصول بفنه إلى الكمال التأثيرى على الجماهير، لأنه كان يعتصر نفسه اعتصارًا على خشبته لكى يصل بتأثيره إلى المشاهد البعيد، وكان يطالبه أن يذيب نفسه تحت أقوى الأضواء لكى يقدم لك وجهه الذى يفوق أروع التحف بإعجازه القوى..

كما أن المسرح أغلق على أمجاد الريحانى وانتهى بها إلى العدم، ويمكنك أن تلمس هذا إذا مررت اليوم بشارع عماد الدين ونظرت مسرحه المغلق الذى علاه الغبار، لتجد أن هناك الصمت الكئيب الذى يحوم حوله، والذى يسجل فناء الفنان فى قسوة بعد موته.. ولكن السينما اليوم ترفع رأسها فخورة بأنها كفيلة بأن تقدم الريحانى حيًا مجيدًا من جديد.

فهو يعيش بكل إتقان وكمال داخل مجموعة من العلب الصفيح بوجهه وجسمه وصوته وأنفاسه وحركاته، لتعرض متقنة دقيقة تحت أنظار الجماهير وأحفادها فى أى وقت وزمان ومكان.

وكان هذا الشعور الذى أسجله يجول فى نفسى قبل فقدنا له بشهور، فشعرت متأثرًا أن الريحانى لو توفى يومًا فلن يترك إلا أوراقًا بالية ممزقة هى مخلفات مسرحيات لن تكون لها قيمة بدونه ودون وجوده، فاعتزمت أن أنفذ مشروعًا مع صديقى وشريكى الفنان أنور وجدى وهو أن أبدأ فى إحياء مسرحياته الخالدة على الشاشة البيضاء.. ولكن القدر شاء أن نقف بعد المحاولة الأولى لنا فى «غزل البنات».. ولعل الفقيد العزيز كان يشعر بأنه وشيك الانتهاء أثناء عمله فى هذا الفيلم، فاجتر كل قوته العبقرية التى كان يختزنها فى نفسه، وسجل فنًا يمكن أن نعرضه فى قلب إنجلترا أو أمريكا فنبهرهم به قبل أن نبهر أنفسنا.

وبودى حين يعرض فيلم «غزل البنات» أن يشاهده الأستاذ العقاد ليتأكد كم أضاع المسرح علينا من فلتات الفن الإعجازى للريحانى.. فإن فى الفيلم منظرًا صامتًا له وهو يتأمل السيدة ليلى مراد يحدثها فيه بتعابير وجهه، أقسم إنه سوف ينتزع التصفيق القوى من أجمد الناس شعورًا.. ومستحيل على المسرح وأضواء المسرح وترتيب المسرح أن تشعرك به.. ولكن الكاميرا تواجهك به عن قرب فلا تتمالك نفسك إلا أن تهتف لهذا الفنان العبقرى.

إن الريحانى مات فى نظر المسرح.. أما فى نظر السينما فكأنه حى فيها إلى الأبد لأنه خُلق لها وخُلقت له.

مؤامرة أحمد رجب مع نهلة القدسى لكشف خبيئة عبدالوهاب

هوامش نوتة «إنت عمرى» حملت خواطر عبدالوهاب الإبداعية

بعنوان عبدالوهاب بدون موسيقى وعنوان فرعى «عبدالوهاب الأديب» كتب أحمد رجب ما يمكن أن يقال عليه كشفًا وهابيًا حينها فى عدد خاص يحتفى بموسيقار الأجيال بعد رائعته الأولى مع أم كلثوم «إنت عمرى» عام ١٩٦٤، هذا الموضوع الصحفى الذى كتبه أحمد رجب كان نتاج مؤامرة اشترك فيها عبدالوهاب مع السيدة نهلة القدسى زوجته وحبيبته للسطو على الكراسة الخضراء التى كان يسجل فيها الموسيقار خواطره وأفكاره، بالإضافة إلى بعض نوت أغانيه الخالدة التى كان يكتب على هامشها إذا اختلجت فكرة فى خاطره ولم تكن الكراسة الخضراء قريبة من يده.. ونشرت «الكواكب» بعضًا من مسودات تلك النوت الموسيقية أو الخبيئة الوهابية التى أخرجتها نهلة من عرينه وسلمتها بيديها لأكثر صحفى مشاغب حينها وهو أحمد رجب.

بقليل من التأمل لبعض مما كتبه موسيقار الأجيال فى تلك الخواطر يزيد يقينك أن عبدالوهاب كان يمكن أن يكون كاتبًا بارعًا يملك ناصية الأدب والصحافة لو لم يجلس على قمة الهرم الموسيقى، تعال نستكشف مع أحمد رجب مكنون كراسة عبدالوهاب الخضراء وحواف نوته الموسيقية.

فى صفحة من صفحات الكراسة يكتب عبدالوهاب رأيه وإحساسه فى كامل الشناوى! فيقول بالحرف الواحد:

«إن جمل كامل الشناوى تترك علامات فى أذنى كصدى النغم. إنها أشبه بجمل موسيقى تحس نحوها بالصداقة والود، ما من مرة قرأت فيها لكامل الشناوى إلا وخرجت من قراءته بعبارة أرددها بينى وبين نفسى».

وكتب عبدالوهاب عن صديقنا الفيلسوف أمير البخلاء- على حد وصف رجب- الدكتور مصطفى محمود:

«إن مصطفى محمود متسائل قوى. إن كلمة (لماذا) تغرقه فى الحيرة وتجعله يفتح أبوابًا كثيرة للجدل العقلى. أسلوبه يعجبنى. بيئى.. مصرى».

ثم نقرأ احتجاج عبدالوهاب على أسلوب الدكتور أمير البخلاء: «مصطفى لا يعجبنى فى بعض الأحيان عندما يلجأ إلى ألفاظ غريبة مثل (زلنطحى) و(شرشوح) و(غجر). لكن استخدام هذه الألفاظ فى رأيى دليل على أنه لا يلجأ إلى التصنع والتكلف للبحث عن الكلمة».

ويقول رجب: إن السيدة نهلة رفضت أن تطلعنى على رأى عبدالوهاب فى بعض من كتب عنهم من الكتّاب والصحفيين والفنانين.. حتى لا يغضب «بيبى» كما كانت تناديه دومًا.

ثم يتطرق رجب لرأى عبدالوهاب فى نفسه الذى سجله على هامش نوتة أغنية «هان الود» ثم نقله للكراسة الخضراء، حيث يقول: 

«إننى أحب نفسى، وأحب الانفراد بها، إننى عندما أكون بين أصدقائى ثم أذهب إلى وحدتى أشعر وكأننى على موعد مع إنسان أهواه، إن فى داخلى أشياء كثيرة أحبها، وأحب الانفراد بها.. وويل للذين يخافون من مواجهة أنفسهم».

وعن صوته وموسيقاه كتب على هامش النوتة الموسيقية لأغنية «حبك إنت شكل تانى»:

«غالبًا، لا أحب أن أسمع نفسى لأننى (أسمعنى) بأذن الناقد، ويا حسرتى إننى لا أستطيع أن أصلح ما قد وقع.. إن عبدالوهاب لا يستمتع بعبدالوهاب».

وفى موضع آخر، كتب عبدالوهاب رأيه فى الفنان عمومًا على هامش النوتة الموسيقية التى دوّن فيها المحاولات الأولى فى تلحين «إنت عمرى» قبل سنتين، حيث قال: 

«يخيل إلىّ أحيانًا أن الفنان من طينة خاصة، وأن هناك الإنس والجن والشيطان والملاك والفنان».

وفى ظهر غلاف الكراسة الخضراء بعرض الصفحة:

«لا جديد فى الفن وإنما الجديد هو الفنان».

ونفس هذه العبارة موجودة على النوتة القديمة لإنت عمرى، ولكنه يزيد عليها فى الكراسة الخضراء:

«إن الحروف الأبجدية ٢٩ حرفًا منذ القدم لكن الكاتب الجديد هو الذى يصوغ عنها الجديد الباهر».

ويظهر أن خاطر الحروف الأبجدية قد دفع عبدالوهاب إلى تأملها.. فنجده يكتب الكلمات السابقة بصيغة ضاحكة تقول:

«لا أفهم سر وجود الـ(لا) فى الحروف الأبجدية. فما دام هذا الحرف يصاغ من حرفين موجودين فعلًا فى الأبجدية.. فلماذا أقحموه فيها متخذين له كيانًا منفصلًا.. لا أفهم يا شيخ قفاعة»!

وفى نوتة «إنت عمرى».. تحت السطر الذى دوّن عليه نغمات «لحنانك خدنى» كتب عبدالوهاب خاطرًا يقول:

«ما سمعت صوتًا جميلًا من فم قبيح».

وهو ينقل هذا الخاطر إلى الكراسة ويزيد عليه هذه الكلمات:

«إن كل أصحاب الأصوات الجميلة لهم دائمًا أفواه جميلة.. هل هى مصادفة أم تدبير من الفنان الأعظم لتكريم كل صوت جميل».

ويستمر عبدالوهاب فى خواطره عن الفن والفنان.. فنجده يكتب فى هامش النوتة الموسيقية لأغنية «يا حبايب بالسلامة».

«ما عرفت فنانًا إلا ووجدت فى مظهره البهجة وفى داخله الحزن والألم».

وفى هامش آخر لنفس النوتة كتب:

«معدات الفنان الحزن والأسى».

وعبدالوهاب يعبر عن نفس هذا المعنى فى أكثر من خمسة خواطر تضمها صفحات الكراسة، كما رصدها رجب، حيث إنه يرى أعماق الفنان دائمًا مليئة بدموع غامضة، وهذه الدموع هى الوقود الذى يدفعه للإبداع.

جديد آخر يكشفه رجب فى موضوعه الجميل عن موهبة عبدالوهاب فى الكتابة، حيث كتب مشهدًا كاملًا فى الحلقة العشرين من قصة حياته التى أذيعت فى صوت العرب.

والحكاية أن عبدالوهاب دخل مع المخرج الإذاعى محمد علوان فى خناقة شديدة بسبب مشهد ورد فى هذه الحلقة يكشف عن قصة حب لعبدالوهاب وقعت فى لبنان أثناء رحلة له هناك ذات صيف مع أمير الشعراء!

فقد أصر عبدالوهاب على حذف المشهد وأصر علوان على إذاعته، وأخيرًا رأى عبدالوهاب أن يكتب المشهد بنفسه! فالمشهد الأصلى فيه حب، ومرح، وشقاوة عبدالوهاب زمان وشبابه، وجلس عبدالوهاب إلى المائدة فى بيته وراح يكتب مشهدًا لموقف غرامى بينه وبين الفتاة اللبنانية «هيفاء»، وبعد نصف ساعة سلم إلى محمد علوان هذا المشهد بخط يده.

وكتب عبدالوهاب فى موضع آخر: «يستقبل الإنسان الدنيا بالبكاء.. ثم يودعونه وهو يغادرها بالبكاء.. فلماذا يبكى الإنسان إذا كانت الدنيا جميلة؟.. ولماذا يكون على رحيله إذا كانت الآخرة أجمل؟».

وكتب أيضًا:

«ما أصدق إيليا أبوماضى وهو يقول فى قصيدته (المساء): إن التأمل فى الحياة يزيد أوجاع الحياة».

وعلى هامش نوتة موسيقية كتب: «أحيانًا لا أحس بالألم الصغير، إذا كنت فى ألم كبير».

أما عن الحب الذى هو أستاذ فيه فيكشف أحمد رجب عما كتبه على هامش نوتة موسيقية أخرى، حيث يقول: «ينسى الرجل المرأة التى تركها، ولا تنسى المرأة الرجل الذى تركها».

ثم ينقل هذا الخاطر إلى الكراسة معدلًا على الوجه التالى:

«تنسى المرأة الرجل الذى تركته، ولكنها لا تنسى الرجل الذى تركها».

وعلى هامش النوتة الموسيقية لأغنية «خاف الله» كتب:

«الحب فكرة جميلة.. والمهم دائمًا هو تنفيذها».

وعلى هامش صفحة فى نوتة «لا تكذبى» كتب:

«الحب كالطاقة الذرية. قوة للهدم والشقاء. وقوة للسعادة والبناء أيضًا».

عبدالوهاب ونهلة القدسى