سر الخـــــلطة.. عمرو دياب.. أذكى فاشل فيكِ يا بورسعيد
«هنا أصبح الطريق مسدودًا فعلًا.. لكنى فكرت.. قلت إن الكثير من أصدقائى سافروا إلى أوروبا وغسلوا الصحون فى الخارج.. لماذا لا أحاول أن أغسل الصحون فى بلدى؟ فلأحاول من جديد فى أى مكان وبأى مقابل فى سبيل لقمة العيش.. وقلت لأصدقائى وأعضاء فرقتى: بينا على شارع الهرم».
لو بحثنا عن أذكى فنان فى مصر بمختلف أنواع الفنون، يمكننا أن نتجادل- من هنا لبكرا- على صاحب المركز الثانى، أما المركز الأول فهو محجوز منذ 40 عامًا له وحده.. لعمرو دياب.
والغريب أن هذا الذكاء الحاد صادر عن فنان لم يبد أى نبوغ فى طفولته، مستواه الدراسى أقل من المتوسط، ومجموعه فى الثانوية العامة %50، حتى البكالوريوس لم يحصل عليه.. إذًا فالسؤال هنا.. ما الذى كوَّن عظام دماغ عمرو دياب؟
فى سنة 1983 كابد عمرو دياب مرارة فشل ألبومه الأول «يا طريق»، عندما قدم أول شريط كاسيت، ولم يشعر به أحد.
بالصدفة فى العام ذاته، ولكن على الجانب الآخر من العالم، طوّر عالم النفس الأمريكى هوارد جاردنر، نظرية الذكاء المتعدد، مقدمًا فكرة ثورية مضمونها، أن الذكاء مركب لا يمكن اختصاره فى اختزال مخلِ بوصف شخص ما بالذكى أو الغبى، واضعًا قائمة عريضة تضم 8 أنواع للذكاء، كالذكاء الحسى الحركى والذكاء اللغوى العصبى والذكاء الرياضى المنطقى، وجاء فى ذيل القائمة الذكاء الموسيقى والطبيعى، وهو نوع ذكاء عمرو دياب وسر عبقريته وتفرده.
نبتدى منين الحكاية؟
البداية كانت فى منزل عبدالباسط عبدالعزيز دياب، رب الأسرة الوافد إلى بورسعيد قادمًا من منيا القمح، إحدى مدن محافظة الشرقية، للقيام بمهام عمله كرئيس الإنشاءات البحرية وبناء السفن بشركة قناة السويس.
وهنا يحكى عمرو: «كنت أردد الأغانى من صغرى بتشجيع من والدى؛ لأن صوته كان حلو قوى فى تلاوة القرآن، ولفت نظرى وجود بيانو مهجور فى صالة بيتنا ماحدش بيعزف عليه، ورثه أبى عن عائلته، واحتفظ به كقطعة ديكور، لكنى اكتشفت بفضول الطفل اللى جوايا إزاى ألعب على مفاتيحه البيضاء والسوداء، وفى سنة دراسية وقع علىَّ الاختيار من وسط زمايلى لغناء (بلادى بلادى) فى عيد الثورة بحفل مدرستى الليسيه فرانسيه ببورسعيد، والمحافظ إدانى قلم حبر جايزة.. ودى كانت البداية».
ومن وقتها طارد عمرو حلم الطفولة، وظل المغنى الوحيد والرسمى لكل احتفالات المدرسة، وفى الثانوية أهمل الدراسة مكونًا فرقة موسيقية اسمها «الشياطين» وغنى فى النوادى لعبدالوهاب ومحمد فوزى مقابل ١٠٠ جنيه، تقسم على أعضاء الفرقة العشرة، إلى أن حضر الموسيقار هانى شنودة إحدى الأمسيات، وانتشله من بورسعيد، مقترحًا عليه نقل نشاطه إلى القاهرة، وهو لا يزال ابن الـ١٦ عامًا فقط.
ولأنه ليس لديه ما يخسره، سوى الـ١٠ جنيهات- نصيبه من حفلات نوادى بورسعيد- ومجموع فى الثانوية العامة حصيلته ٥٠٪ قضى على حلم الالتحاق بأى كلية، سواء كليات القمة أو القاع- كبيره معهد سنتين- لذا قرر عمرو خوض المجازفة بمبدأ «كده كده خسرانة».
وفى القاهرة توالت الصدمات على الشاب البورسعيدى، فبعد أن نجح فى الالتحاق بمعهد الموسيقى، فشل فى اختبار الإذاعة بسبب لهجته البورسعيدية الغالبة وأدائه أغانى من ألحان هانى شنودة، التى اعتبرتها اللجنة تطرفًا موسيقيًا.
وهنا تعلم عمرو أول درس فى حياته الموسيقية «الصنايعى الشاطر اللى يعرف السوق عاوزة إيه» لذا عاود الاختبار بعد ٦ أشهر من التدريب الشاق، وغنى بلهجة مصرية دعاء دينيًا ليلقى القبول من لجنة تحكيم ضمت عمالقة الموسيقى، من أمثال محمد الموجى وحلمى بكر ويوسف شوقى.
وبعد تجاوز عقبة اللهجة، كانت الخطوة التالية طرح أول شريط كاسيت، وكانت النتيجة على طريقة المدراس «لم ينجح أحد»، فالشريط نزل واتسحب من السوق دون أن يسمعه أحد.
سقوط مدو.. من عشرة لربع جنيه!
بعد الفشل عاش عمرو سنتين من الصعلكة بكل ما تعنيه الكلمة، دون أى مصدر رزق أو مأوى، ومرت عليه أيام قضاها بربع جنيه فقط لا غير، يحضر محاضراته فى الصباح ويتنقل بين بيوت أصدقائه فى المساء، بالأخص فى منزل شريف ضياء «وهو عضو أساسى بفرقته حتى الآن».
لكنه لم ييأس، وتحت تأثير الخجل من الاستعانة بأسرته ماديًا، والتى سيقابلها قدر كبير من المعايرة واللوم على قرار الغربة، شحذ بعض المال من ابن عمه ليسجل أغنية، وبالصدفة التقى بالمنتج نصيف قزمان، الذى قرر إنتاج شريطه الثانى «غنى من قلبك» وللمرة الثانية يصل لنفس النتيجة المحبطة «لم يسمع أحد».
يتذكر عمرو تلك المرحلة واصفًا إياها بمرارة: «بلغ إحساسى بقمة الفشل حين تركتنى خطيبتى.. كانت طالبة فى البكالوريوس وظروفها الأسرية مستقرة، لكن ظروفى لم تكن تسمح لها بالاستمرار فى وعدها لى.. وهى معذورة بالطبع، لقد كنت حينها رجلًا بلا حاضر ولا مستقبل».
هنا الدنيا اسودت فى عينه وقفلت فى وجهه، واقترح عليه بعض أصدقائه المشفقين على حاله، توفير فرصة للسفر للخارج ووظيفة مضمونة بغسل الصحون فى أحد المطاعم، لكن عمرو رد فى عقل باله «ما دام مرمطة بمرمطة.. أغسل الصحون فى بلدى».
بداية الغيث 13 جنيهًا ووجبة!
وحاكى عمرو دياب بيزنس الطفولة فى نوادى بورسعيد، قائلًا لفرقته: «بينا على شارع الهرم»، ووقع عقد احتكار مع أحد أصحاب الملاهى الليلية.
وارتفع أجره هذه المرة فى الليلة لـ١٣٠ جنيهًا، توزع أيضًا على ١٠ أعضاء، نصيب عمرو منها ١٣ جنيهًا ووجبة عشاء إذا تيسر.. لكنه عانى وفرقته من ملاحقة المخبرين له إذا ما غنى فى ملهى ليلى آخر، بواعز من صاحب عقد الاحتكار، الذى تملص منه أخيرًا بعد وقوع أحداث الأمن المركزى سنة ٨٦؛ التى اعتبرها عمرو قوة قاهرة تكسر الاحتكار.
وبعد النجاح فى ملاهى شارع الهرم قرر الارتقاء لفنادق الخمسة نجوم والأفراح وغيرها..
يحكى عمرو عن تلك الفترة: «وبدأنا نعمل فى شارع الهرم.. حتى أتيحت لى الفرصة مع الفرقة لأغنى فى حفل ختام مهرجان القاهرة السينمائى فى الماريوت كصاحب صوت جديد.. وللأسف لم ألق أى صدى.. بل بالعكس أطلقوا على «المطرب العجالى»، لأنى كنت سمينًا نوعًا ما، وكنت أرتدى بدلة أحد الأصدقاء، فلم يكن عندى بدلة عليها القيمة، وكانت كبيرة على مقاسى، فظهرت سمينًا فعلًا.. وفشلت مرة أخرى».
يحكى الفنان أشرف زكى، نقيب الممثلين، عن لغز حيّره طويلًا بشأن عمرو دياب ابن دفعته فى أكاديمية الفنون؛ الذى جمعته به «أيام الكحرتة».. ذلك اللغز يتمثل فى رفض عمرو ارتياد المقاهى البلدى أو دعوات السحور الجماعى رفضًا قاطعًا، وحين سأله مرة عن السبب، أجابه عمرو: لازم الناس تتعب عشان تشوفنى.. لو قعدت معاكم ع القهوة أى حد بجنيه يقدر يقول قعدت مع عمرو دياب، خلاص ما بقاش مضطر يشترى تذكرة ويحضرلى حفلة.
وبعفوية بلهاء سخر أشرف زكى حينها من صديقة على بساطة مبدئه القائم على عاملى «الندرة والوفرة»: يا بنى هو حد يعرفك غيرنا؟ ليرد عمرو: بكرا أتعرف وأبقى نجم..! وقد كان.
ونحن هنا أمام نجم لم يتنبأ به أو يراهن عليه أحد، لا عائلته ولا صديق دفعته ولا حتى خطيبته، الفتاة الجامعية التى تركته لضبابية مستقبله وعيبة الارتباط بمطرب نمرة فى الأفراح والكباريهات، فقرر أن يراهن هو على نفسه، وكسب الرهان.
الريمونتادا.. رحلة الصعود
اكتسب عمرو من عثراته ما يمكن أن نسميه ذكاء الفاشل، وتحرر كليًا من أى قيد يمكن أن يعطل مسيرته، ولا سيما الدراسة التى تتطلب حضور المحاضرات صباحًا والمذاكرة مساء بما يتعارض مع طبيعة عمله الليلى لـ وش الفجر من أجل كسب العيش.
فترك معهد الموسيقى قبل عام واحد فقط من التخرج دون رجعة، زاهدًا فى شهادة البكالوريوس، والتى لا تشهد على أى شىء سوى حضور المحاضرات، بدليل أنه رأى أساتذة موسيقى كبار لا يستطيعون تلحين جملة واحدة، أما هو فاستطاع بالممارسة العملية التلحين والتوزيع لا الغناء فحسب.
أما ثانى القرارات الجريئة كان بالخروج عن طوع مكتشفه وأستاذه الأول هانى شنودة، رويدًا رويدًا، بعدما أدرك أنه كان عاملًا غير مباشر فى فشل ألبوميه، بسبب أنه صنع منه نسخة باهتة من فرقته الموسيقية «المصريين»، فأصبح عمرو تقليدًا لا تجديدًا، كما أراد له شنودة أن يكون،
وبدأ عمرو شق طريقه بنفسه، مسترشدًا بنجاح تجربتين من أبناء جيله «محمد منير- حميد الشاعرى»، واللذين أدخلا قوالب موسيقية جديدة وثورية، كاستلهام منير الفلكلور النوبى، وبدوره استلهم عمرو الفلكلور البورسعيدى فى تلحين أغانيه.
وعلى طريقة «قرب أعداءك أكثر» استعان دياب بمنافسه حميد الشاعرى سنة ٨٨ موزعًا موسيقيًا لألبوم «ميال ميال»، الذى حقق نجاحًا مدويًا، وكتب شهادة ميلاد نجم غنائى ذاق أخيرًا طعم النجاح بعد سنوات تجرع فيها علقم الفشل.
كيف يرى نفسه؟
فى حوار سابق على صفحات «أخبار النجوم» سأله الكاتب الصحفى أحمد صالح: بعد كل هذا الفشل هل كنت محظوظًا بوصولك لما أنت عليه الآن؟ نفى عمرو عن نفسه الحظ، كأنه تهمة نكراء، قائلًا: لا أعتبر نفسى محظوظًا، ولكنى مسيّر من الله منذ اللحظة التى شددت فيها الرحال إلى القاهرة، لولا هذا القرار كان زمانى صيادًا فى بورسعيد أو عاملًا لشركة قناة السويس على أقصى تقدير.. ولو جاءنى أحد وأنا أغنى فى شارع الهرم، وقال لى هتبقى نجم كبير غنى ومشهور لظننته يسخر منى، وكان هياخد اللى فيه النصيب.
وهنا وجب الإشارة إلى حساسية الهضبة المفرطة تجاه أى محاولة للانتقاص من قدره، مثلما رفض تهكم الدكتورة نعيمة صادق، أستاذته فى معهد الموسيقى، ورد عليها بندية تاركًا لها قاعة المحاضرات، فما كان منها سوى الجرى وراءه ملوحة بحذائها، الذى خلعته؛ لتنهال به على عمرو دياب، فى واقعة يتناقلها طلاب المعهد جيلًا بعد جيل إلى يومنا هذا.
واعتداد عمرو بنفسه كإنسان وفنان لم يقتصر على زملاء دفعته وأساتذته فقط، بل امتد إلى بيته ووصل إلى غرفة نومه.
فعندما سأله مفيد فوزى عن سبب طلاقه من شيرين رضا أم ابنته نور، أجاب: مافيش أنا كبرت وشوفت أمى بتحترم أبويا، وكانت هى نموذج المرأة عندى، ومعروف المركب اللى بريسين تغرق، فأنا فضّلت أرجع ريس مركبى، فى إشارة منه لندية شيرين رضا كـ«سترونج إندبندنت وومان» على نقيض أمه التى أفنت حياتها لبيتها وعيالها.
ووقع الطلاق من شيرين سنة ٩٢، ولأنه يقدر عامل الوقت، لم يتوان فى الارتباط من زينة عاشور، المعجبة السعودية التى طاردته فى حفلاته حول العالم بحجز مقعد دائم فى الصفوف الأولى، فكان التعارف سنة ٩٣، وأقيم حفل الزفاف بعدها بعام وأسفر الزواج عن توأمه عبدالله وكنزى وچنى آخر العنقود.
وجعلت زينة من زوجها بصفتها مصممة أزياء والاستايلست الخاص به «براند» قائمًا بذاته، ونقلته للعالمية باختياراتها لملابسه وقصة شعره، فيكفيها أنها من اختارت له «بلوڤر» أغنية «تملى معاك»، والذى تحول لأشهر بلوڤر شبابى فى تاريخ مصر.
ورغم هذا النجاح المشترك، اتفق الثنائى على الانفصال دون طلاق مراعاة لمصلحة الأولاد وحفظًا للجميل والعشرة، ووصل عمرو إلى قناعة بصعوبة نجاح أى مشروع زواج لنجم بحجمه، نظرًا لصعوبة تلبية متطلباته ومجاراة أسلوب حياته، خاصة وأنه كزوج رجل شرقى خالص لا يرضى إلا بدور سى السيد، وفى رحلة بحثه عن الست أمينة، لم يجدها، لكنه تأكد من معلومة واحدة.. أنها ليست من مواليد برج الحوت.. وما زال البحث مستمرًا.
الخلاصة
شاب من بورسعيد فشل فى الثانوية العامة، فاتجه للعاصمة طمعًا فى فرصة أبت عليه مرة برفضه فى اختبار الإذاعة وأخرى بفشل ألبوميه، وثالثة بضياع حبيبته وفسخ «خطوبته».
شاب سمين مغترب ومشرد ومفلس، يبحث عن قشة نجاة فى بحر مضطرب، فقرر أن «يطاطى للموجة» التى قذفته لشارع الهرم، ومنه للأفراح والفنادق، حتى وصل بر الأمان، وخطا أخيرًا على ريد كاربت المشاهير.
وسعيًا للاستقرار جرب حظه فى الزواج، ففشل بدل المرة اثنتين.. أما علاقاته العاطفية غير المكتملة، فحدث ولا حرج.
كل هذا الفشل المركب، لم يثنه عن صدارة مشهد الأغنية الشبابية والرومانسية لقرابة نصف القرن.. ميجا ستار فى الاستديو وعلى المسرح، مؤسسة تمشى على قدمين، ووكالة إعلانية متحركة بوسعها تغيير ستايل الموضة بصورة واحدة على إنستجرام.
وهو نجاح ساحق لم يكن ليتأتى نصفه لولا أنه اخترع نوعًا جديدًا من الذكاء خاصًا به، ذكاء قائم على الانفتاح للتجربة وقبول الفشل كاحتمال وارد جدًا، بل كاحتمال أكيد، وتحويله لنقطة انطلاق للمحطة التالية، وهكذا دواليك، دون توقف أو اكتفاء أو شبع..
باختصار هذا هو نوع الذكاء التاسع الذى أسقطه العالم الأمريكى هوارد من تصنيفاته الثماني.. ذكاء ماركة مسجلة باسم عمرو دياب.