الله فى سفر التكوين.. تشابه الطقوس الدينية مع الإسلام إلى حد التطابق
رياح القدر غالبًا ما تقود أشرعة السفن.. وقد كنت من زمن عشقت السفر ونبض البحار.. وكان نصيبى دائمًا الغوص فى أعماق المجهول بجذور حاولت قدر استطاعتى أن تظل قوية.. سافرت بين أروقة الكتب وفى أرض الله الواسعة.. لم أكن أود أن يرسو قاربى على شاطئ جديد أقف وحيدة عليه، بل سعيت فقط للحصول على رؤى مختلفة لتساؤلاتى المرهقة.
ربما لا يقضى السفر على قناعات أى منا، لكنه حتما يفضى إلى تغيير عميق ودائم فى زوايا رؤيتك للحياة.. رأيت شعوبًا تبكى وتضحك، تتألم وتفرح، تأكل وتموت.. تدعو الله على اختلاف مللها وطوائفها فيستجيب لها.. كان الله حاضرًا معهم مثلما هو موجود معنا دائمًا.. فهو أقرب للجميع من حبل الوريد وإن تباينت أو تشابهت الطقوس والمناسك.
سنسبح قليلًا ضد مياه الزمن.. ففى السنة النهائية بكلية الإعلام، حملنى حماسى وجوقة من زملائى بقسم الصحافة إلى التفتيش عن مشروع تخرج يكون جديدًا ومختلفًا وإن شئت يمكن أن تنعته بالمجنون.. فقد قررنا إصدار مجلة تحمل اسم «الآخر» وكان الآخر الذى نعنيه هو «إسرائيل».. كان الرافد الرئيسى لتصورنا أننا نريد أن نعكس المجتمع الإسرائيلى من الداخل نعرف كيف يفكر؟ وكيف يرانا؟
بديهيات الرحلة حينئذ كانت تقتضى مسارًا إجباريًا للتحرر من كل الموروثات لنقرأ ونكتب عن هذا الآخر بموضوعية.. أدركنا من واقع التجربة أنها مجرد حلم مشروع على أرض مستحيلة، حين تعثرت أقدامنا الشابة على عتبات المعبد اليهودى الكائن بشارع عدلى بوسط القاهرة.. شاهدنا الصلوات والمناسك التقينا ببقايا طائفة تنكر نفسها لتتلافى صورة ذهنية فى أغلب فصولها هى نتاج فكر أيديولوجى ساعد على نضجه بكل أسف الإعلام والدراما.
ولأن الأفكار الحالمة تحت سماء زرقاء صافية ترهب مسارح الذهن وتحرك مياهه الراكدة.. فقد كنت على موعد مع ضيف جديد استوطن عقلى حينها بالتزامن مع مشروعى عن «الآخر» ليقودنى إلى البحث عن الله عند اليهود. والأمر هنا لابد فيه من لفتة عابرة، لكنها ضرورية للتفريق والفهم، فما فتشت عنه هو الله فى اليهودية كثانى أقدم الديانات التوحيدية وليس الصهيونية، والتى هى حالة من حالات التماهى بين الدين والسياسة.
يجتمع المسلمون واليهود فى شريعة الصيام حيث يبتدئ من قبل غروب الشمس إلى بعد غروب الشمس من اليوم التالى
اليهود على الرغم من حالة الاشمئزاز التى تجتاح البعض من مجرد ذكر اسمهم، إذ يرتبطون ذهنيًا فى الذاكرة الجمعية للمسلمين بخيانة العهود، فقد أقصى النبى اليهود من المدينة؛ لأنهم واثقوه وعاهدوه ثم خانوا العهود وتحالفوا مع المشركين، كما يرد ذكرهم فى العديد من الآيات الكريمة ضمن سياقات متنوعة، تارة تترواح بين رواية قصص بنى إسرائيل وأحيانًا تذهب إلى وصفهم بأهل الكتاب والذمة، لكن فى المجمل حمل النص القرآنى الكثير من الانتقادات لليهود. بيد أن الحقيقة الراسخة التى لا تقبل الجدل أو التشكيك هى أن ثمة تشابها واسعًا بين اليهودية والإسلام فى الشعائر والطقوس.
ورد فى «سفر دانيال» أنه كان يصلى ويركع ويشكر الله تعالى ثلاث مرات كل يوم «دانيال ٦:١٠»، وأحيانًا مرتين كل يوم «مزمور ٥٥:١٧»، وشروط الصلاة موجودة فى كتاب الصلاة اليهودى التقليدى «سيدور» حيث، قال الحاخام سعيد الفيومى فى كتابه: «وينبغى أن نُثبت شروط الصلاة التى لا بد منها. أما قبل كل صلاة لا بد من غسل اليدين وحدّ ذلك إلى الزندين والرجلين إلى الكعبين من أيّ صنعة عملية بعد الاستنجاء وغُسل الوجه على هذا الترتيب».
وتبدأ صلاة اليهودى بوضع شال صغير على الكتفين، وفى الصلوات الجماعية يوضع شال كبير حول العنق، ثم يقرأ القارئ مرتديًا ثوبًا أسود وقبعة على رأسه؛ لأنه يجب تغطية الرأس عندهم فى الصلاة، ويعبرون بذلك عن الاحترام لنصوص التوراة. ويتجهون فى صلاتهم إلى بيت المقدس. وخلال فترة التلمود كانوا يركعون ويسجدون فى صلاتهم بشكل كامل هو أقرب لصلاة المسلمين.
ويتقاطع الدين اليهودى والدين الإسلامى عند تفضيل صلاة الجماعة، فهى أفضل من صلاة الفرد وتؤدى ثلاث مرات، صلاة الفجر يسمونها صلاة السحر «شحاريت»، وصلاة نصف النهار أو القيلولة يطلقون عليها منحة، أما صلاة المساء ويسمونها صلاة الغروب «عربيت».
يتقاطع الدين اليهودى والدين الإسلامى عند تفضيل صلاة الجماعة فهى أفضل من صلاة الفرد
فى حين يجتمع المسلمون واليهود فى شريعة الصيام، حيث يبتدئ من قبل غروب الشمس إلى بعد غروب الشمس من اليوم التالى، ويمتنعون فيه عن الطعام والشراب والجماع، وبعض الأيام يكون صيامهم فيه من شروق الشمس إلى غروبها، ويمتنعون فيه عن الطعام والشراب فقط. فإن ثمة اختلافًا فى الزكاة، بالرغم من كونها فرضًا عند الجانبين، حيث يدفع اليهودى كل عام ١٠٪ من ماله كزكاة، جاء التشريع الإسلامى ليحدد نصابها بـ٢.٥٪.
عند اليهود الحج مفروض ثلاث مرات فى العام، ويتم إلى معبد فى القدس ويعد الطواف حول المعبد لسبع مرات من أركان الحج عندهم، فضلًا عن أن التضحية من مستحباته وليس شروطه الواجبة. والذبيحة عند المسلمين والشحيطة عند اليهود، كلاهما يتضمنان قطع عنق الحيوان بشفرة غير مسننة بمحاولة واحدة نظيفة تضمن قطع الأوعية الدموية الرئيسية، إذ يقوم اليهودى فى البداية بقول «تبارك الله» وتعتبر هذه العبارة ضرورية جدًا، ثم يقوم بنحر عنق الذبيحة ليسيل دمها، وعندها يصبح لحمها حلالًا أو «كوشير»، فضلًا أن أكل لحم الخنزير محرم لديهم، كما هو الحال فى الإسلام.
ويتشارك المسلم واليهودى أيضًا فى التقويم القمرى حساب الأيام من غروب الشمس حتى غروب شمس اليوم اللاحق، وتحريم الخلوة، إلا حال وجود محرم، واللمس والاختلاط إلا للضرورة، كذلك فى منع المرأة خلال النفاس من ملامسة التوراة، ومجامعة زوجه والختان، وإباحة تعدد الزوجات.
طقوس التواصل مع الله التى تصل إلى حد التطابق أغرت أجنحة عقلى المعلقة دائمًا على شفا التساؤلات وحملتها قسرًا إلى فصل آخر فى تجربة، شكل السياق التاريخى والظرفى للآيات القرآنية حول اليهود أهم مفرداتها، ووجدتنى بنهايتها أمام موجة جديدة من امتزاج ما هو دينى بما هو من فعل السياسة.
وإذًا كانت الصهيونية هى حركة سياسية استلهمت وجودها من التفسير التوراتى لـ«أرض الميعاد» واختارت فلسطين لتكون وطنًا قوميًا لسهولة التوظيف الدينى لها، مع أن الوطن المختار كان مقترحًا بمكانين غيرها، هما الأرجنتين وأوغندا. فضلًا عن رفض بعض الطوائف اليهودية المفهوم الصهيونى عن أرض الميعاد ودولة إسرائيل، حيث يعتقدون أنها لا يجب أن تُقام من قبل بنى البشر، بل يجب أن تقام على يد المسيح المنتظر، والذى هو من نسل سيدنا داود.
ففى المقابل هناك التفسير الثورى للآيات القرآنية حول اليهود، والذى حاولت الجماعات المؤدلجة منحه قماطًا دينيًا يلائم مرحلة ما بعد الاحتلال الإسرائيلى لفلسطين ويبشر بأبناء الصحوة الإسلامية التى ستقضى على الكيان الصهيونى، على نحو يحمل قدرًا كبيرًا من الانهزامية، لاسيما بعد أن ربطوها بأشراط الساعة الكبرى ونزول المسيح عيسى بن مريم.