الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

التفسير الثورى لآيات القرآن ونهاية اليهود

اليهود
اليهود

التجارب ليست مصادفات عبثية.. فالله يتيح للإنسان الدخول فى التجربة، لأنه يعلم تمًاما حاجته للنمو الروحى.. يربط الله على أيدينا ويترفق بنا، يسمح لنا بالتجارب لكى نتدرب على طريق النضوج الروحى.

رحلتى إلى اليمن فى عام ٢٠٠٦ قفزت من تلقاء نفسها تلبية لتلك الحاجة، فعلى جناح السفر التقيت بـ«يهود اليمن» بما يشكلونه من حالة فريدة تتخطى قواعد المألوف.. إذ إنهم منفردون بين يهود العالم، يؤمنون بأن النبى محمد تلقى رسالة السماء ولكنهم يعتبرونه نبيًا «للجوييم» أى القبائل، وليس لبنى إسرائيل فى إشارة للقبائل العربية المحيطة بهم.

التقليد اليهودى اليمنى الذى يعترف بوجود أنبياء غير يهود بعثهم الله لهداية شعوبهم، على غرار بلعام وأيوب اللذين لم يكونا من العبرانيين، وثقه العالم نثنائيل بن الفيومى، وهو من يهود اليمن فى كتابه «بستان العقول» أن الله قد يرسل أنبياء لا تتفق رسالتهم مع المعتقدات التى أتى بها الأنبياء اليهود. ويعتبر الفيومى محمد نبيًا صادقًا غير أن رسالته موجهة إلى العرب بشكل خاص، وليست لليهود، وذلك لتعارضها مع التوراة.

ولأن الخلطة السحرية للأديان بأسرها تتعارض مع هذه الرؤية بما تحويه من انعتاق لقيود الفكر، لم تحظ نظرة اليهود اليمنيين للنبى محمد صلى الله عليه وسلم بقبول وسط أجناس وأمم اليهود فى العالم.. وربما بين من يعرفها من طوائف المسلمين.. لكنها كانت بالنسبة لى براحًا لعقل مثقل، وبقعة ضوء سطعت على مساحة شاسعة ولا متناهية من ظلام اللامعروف.

اتساع مساحة الاحتكاك بالمجهول حملت إرهاصات ترحال جديد بين آيات القرآن الكريم المتعلقة باليهود ظل مشفوعًا بتساؤل واحد: ماذا كان تفسير آيات القرآن حول اليهود قبل وعد بلفور والاجتياح الصهيونى عام ١٩٤٨؟ هل جرى تأويلها على إيقاع السياسة وما أفرزته لبنة التحولات الجيوساسية من مفردات وجودية تلائم واقع قيام دولة إسرائيل بصبغتها الدينية الراهنة.

الذكر العزيز الذى لا يأتيه الباطل من بيديه ولا من خلفه.. أخبرنا فى سورة الإسراء أن الله قضى على بنى إسرائيل بالإفساد مرتين قال تعالى: «وَقَضَيْنَا إِلَىَ بَنِى إِسْرَائِيلَ فِى الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنّ فِى الأرْضِ مَرّتَيْنِ وَلَتَعْلُنّ عُلُوًّا كَبِيرًا«٤» فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لّنَآ أُوْلِى بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مّفْعُولًا «٥» ثُمّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا «٦» إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لأنْفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الاَخِرَةِ لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوّلَ مَرّةٍ وَلِيُتَبّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا «٧» عَسَىَ رَبّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا» {الإسراء ٤-٨}.

ودقة اللفظ القرآنى قطعية فى التقديم والتأخير والمراد من التسميات، لذا يبدو التوقّف مهمًا عند هذه النقطة بشيءٍ من التأمّل لاستيضاح ما إذا كان ثمة فرق دلالى بين مصطلح اليهود الذى ورد ذكره فى القرآن تسع مرّات فى ثمانى آيات، فى سورة البقرة فى آيتين، وفى آل عمران مرّة، وفى المائدة فى أربعة مواضع، وفى سورة التوبة، وبين تعبير «بنى إسرائيل» الذى جاء ٤١ مرة فى مواضع مختلفة.

هنا لا بد أن يخطر فى البال، أنَّ القرآن الكريم لم يستخدم مصطلح «بنى إسرائيل» فى مخاطبة اليهود المعاصرين للنبىّ «ص»، بما يعنى أن هناك فارقًا بين التسميتين أو المصطلحين.. والآية الكريمة فى سورة الإسراء وغيرها تكشف أن هناك شخصًا اسمه إسرائيل، وهو بإجماع المفسرين القدماء سيدنا يعقوب عليه السلام. وأبناء يعقوب اثنا عشر منهم يوسف عليه السلام، وبالتالى يمكن القول إن القصة القرآنية حول العلو والإفساد تخص سلالة عرقية محددة، سلالة يعقوب، لذا جاء الوصف القرآنى صريحًا «بنى إسرائيل».

قد يكون اللقاء والدكتور جمال حمدان حتميًا عبر دراساته عن اليهود، إذ لم يكن الاستدلال اللفظى من القرآن الكريم كافيًا، حيث أثبت فى كتابه: «اليهود أنثروبولوجيا» أن «الإجماع بين الأنثروبولوجيين كامل على أن يهود عصر التوراة فى فلسطين هم مجموعة سامية من سلالة البحر المتوسط، بصفاتها التى نعرف ونرى اليوم؛ من سمرة فى الشعر، وتوسط فى القامة، وطول إلى توسط فى الرأس».

ودون الخوض فى إحصاءات تفصيلية فقد خلص حمدان إلى القول: «من هذا المسح السريع نصل إذن إلى أن اليهود يقعون من حيث شكل الرأس فى مجموعتين: عراض رءوس، وطوال رءوس.. تزيد مجموعة عراض الرءوس على ٨٠ إلى٩٠٪ على الأقل من كل يهود العالم، والأقلية الضئيلة الباقية هى طوال الرءوس، حيث إن يهود عصر التوراة كانوا ككل الساميين طوال الرءوس بإجماع الأنثروبولوجيين «فإذا ما وجدنا رءوسًا غير ذلك بين يهود اليوم؛ فليس ثمة إلا تفسير واحد ووحيد لا سبيل إلى الشك فيه، وهو اختلاط الدم (اليهودى) بعناصر غريبة»، وبالتالى هم ليسوا من سلالة بنى إسرائيل الذين ورد ذكرهم فى القرآن الكريم.

لقد انتهى معظم الدارسين لتاريخ وأنثروبولوجيا الجماعات اليهودية إلى ما ذهب إليه حمدان من بينهم جميس فتون وبنيامين فريدمان والعالم البريطانى اليهودى آرثر كيستلر الذى جزم بأن «الدليل التاريخى.. يوضح أن غالبية اليهود الشرقيين- ومن ثم يهود العالم- هم من أصل خزرى تركى، لا من أصل سامىّ… وأن الدليل القائم على علم الأجناس يتفق مع التاريخ فى دحض الاعتقاد.. بوجود جنس يهودى انحدر من قبيلة الأسفار الأولى»، ويهود الخرز يمثلون وحدهم نسبة ٩٢٪ من يهود العصر الحالى، والنسبة المتبقية، وهى ٨٪ يتقاسمها مع الإسرائيليين اليهود من الأجناس الأخرى؛ كاليهود العرب، والأمازيغ، والفلاشا، والتامل، واليهود الصينيين.

فإذا كان المسمى القرآنى بطبيعته الدقيقة يحكى عن سلالة عرقية محددة وعلماء، الأنثروبولوجى دحضوا الاعتقاد بأن هذا العرق متجسد فى يهود اليوم، فكيف يكون الاحتلال اليهودى هو الإفساد الثانى لبنى إسرائيل وفق التفسير المعاصر، والمفسدون فى أرض فلسطين ليسوا من بنى إسرائيل؟

وعلى الرغم مما قرره المفسرون القدماء بمن فيهم القرطبى وابن كثير بوقوع الإفسادين والعقابين معًا فى أزمنة ما قبل الإسلام من تاريخ بنى إسرائيل، مع اختلافهم حول مرتى الإفساد، وتحديد القوم المعنيين بـ أولى البأس الشديد، الذين سلطوا عليهم فى المرتين، حيث رجحوا أن العباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الأول فى الأرض هم جالوت وجنوده، أما المقصود بالعباد الذين سلطهم الله على بنى إسرائيل بعد إفسادهم الثانى فى الأرض، فيرى جمهور المفسرين أنهم البابليون بقيادة بختنصر. وهناك رأى آخر بأنهم الرومان بقيادة تيطس.مع أن النظم القرآنى يأبى أن يكون القوم المسلطون عليهم فى المرة الثانية غير المسلطين عليهم فى الأولى.

بيد أن حرب فلسطين التى انتهت بهزيمة الجيوش العربية وإعلان دولة إسرائيل حملت المفسرين المعاصرين إلى القول بأن الآيات الكريمة نبوءة قرآنية حتمية بتدمير المسلمين لـ«دولة اليهود»؛ حيث ذهب أكثرهم إلى أن الإفساد الأول مضى، وأن الإفساد الثانى هو الذى نعيشه الآن مع الاحتلال الصهيونى، وأن المسلمين هم الذين سيسودون وجوه اليهود، وسيدخلون المسجد الأقصى كما دخلوه أول مرة، وسيتبرون ما علا اليهود تتبيرًا.

واستندوا فى ذلك إلى دلالات ضعيفة، أولاها الأسلوب الذى قص به القرآن الإفسادين يدل على الاستقبال، بما يعنى أن الإفسادين لم يقعا بعد، مع تجاهل حقيقة أنهما فى المستقبل بالنسبة لمن أنزل عليهم الكتاب وهم بنو إسرائيل، وأن المراد بالكتاب فى قوله تعالى «{وَقَضَيْنَا إلَى بَنِى إسْرَائِيلَ فِى الْكِتَابِ} التوراة وليس القرآن الكريم،، فضلًا عن أن كلمة وعد إذا جاء وعد الآخرة «فإذا جاء وعد» لا تأتى لشىء يسبق الكلام بل لشىء يأتى من بعد. مع أن «إذا» الموجودة أولًا هى ظرف لما يُستقبل من الزمان، أى بعد أن جاء هذا الكلام.

أما الدليل الثانى بكلمة «عبادًا» وإضافتها إلى الله بلام الاختصاص: «لنا»، فتوحى بأن هؤلاء الذين يزيلون إفساد اليهود مؤمنون، وأن بختنصر كان فارسيًا مجوسيًا فهو سند ضعيف، لأن الله قال فى محكم تنزيله فى سورة الفرقان {أَأَنتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبَادِى هَؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ} بما يؤكد أن وصف العبودية مضافًا إلى ذات الله لا يقتصر على العباد المؤمنين، بل سائر خلقه بغض النظر عن عقيدتهم.

فى حين ذهب التأويل الثالث إلى أن الإفساد الأول حدث من اليهود فى ظل الإسلام، حيث نقضوا عهدهم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن المسلمين دخلوا المسجد الأقصى أول مرة فى عهد عمر بن الخطاب- رضى الله عنه- وأن ما نعيشه اليوم هو الإفساد الثانى مع بشارة سماوية بنصر موعود. مع أن المسجد الأقصى أيام عمر بن الخطاب لم يكن فى نطاق بنى إسرائيل فكيف يكون دخوله عقابًا لهم، وإشارة انتصار عليهم؟

إذن نحن أمام تفسير ثورى للقرآن ودعاة مؤدلجين قاموا بتوجيه الآيات نحو قصد يتناغم مع أهدافهم. إذ طالما استلهمت جماعات الإسلام السياسى باختلاف مذاهبها بما فيها الإخوان وإيران وحزب الله وجودها من فكرة المقاومة وحساسية القدس.. شعارات المقاومة والوعد المزعوم كانت قبلة الحياة التى منحتهم شرعية الاستمرار وساعدتهم فى استقطاب الأتباع ممن يتوهمون بأنهم هم أبناء الصحوة الإسلامية التى ستنطلق من بينهم كتائب جند الله وستحرر الأقصى.

وشعار «على القدس رايحين شهداء بالملايين» من قبل الإخوان وما يوازيه من هتافات إيرانية مشابهة على غرار «طريق القدس يمر عبر كربلاء» وغيرها، ليس سوى نوع من المتاجرة بالقضية لصالح أيديولوجيتهم، سواء بهدف اختراق التجمعات الشعبية أوجمع الأموال والتبرعات، باسم فلسطين ومن ثم استخدامها لصالح مخططات السياسية. لقد حاول الإخوان أسلمة معركة التحرر الوطنى فى فلسطين التى وصفها حسن البنا بفلسطين المجاهدة، وفق رؤية عنصرية أحادية، حاول بها إخراج المسيحيين من معادلة التحرر الوطنى فى فلسطين، وكذلك بعض المجموعات اليهودية الفلسطينية التى رفضت الصهيونية، مثل جماعة «ناطورى كارتا» «حراس المدينة»، التى أيدت النضال العربى.

فى حين يظل الوعد الإلهى بالنصر بمثابة ستار عبثى يتوارون خلفه لتبرير إخفاقهم على مدار كل تلك العقود فى الانتصار للقضية. فزمن الملحمة الكبرى لم يأت بعد، وبالتالى أية محاولة لدحر الاحتلال المرتبط بأشراط الساعة الكبرى هى مغالبة للقدر.. لذلك لم أندهش كثيرًا حينما وجدتهم يتحفظون فى الكلام عن إسرائيل عقب اعتلائهم للسلطة فى بعض الدول العربية، إذ لم تصدر كلمة إساءة واحدة تجاه إسرائيل، لا على المستوى الشعبى ولا السياسى.

بنهاية المطاف وجدت نفسى بصدد الحقيقة الساطعة، ومفادها بأننى أمام حلقة أخرى من التوظيف السياسى للنصوص المقدسة، الملحمة الكبرى ونهاية العالم بنزول المسيح حاضرة فى الديانات الثلاث، لكن كل منا ينتظر مسيحه الخاص وفقًا لعقيدته. فضلًا عن أن المهدى المنتظر أو المخلص هو بذاته مختلف عليه بين المذاهب الإسلامية.. فلدى الشيعة الجعفرية هو الإمام الغائب وهى فكرة مؤدلجة بحتة، أدخلها العباسيون لإخماد ثورات الشيعة، وعند الزيدية قبل أن تتماهى على فضاء الإثنى عشرية، ليس هناك مهدى، بل الله يبعث على رأس الأمة كل ١٠٠ عام من يجدد دينها. أما عندنا نحن السنة هو من نسل النبى محمد صلى الله عليه وسلم ويحمل نفس اسمه.

لا أدرى لمَ لم أركن إلى كل تلك التأويلات بالرغم من أنها متفق عليها على اختلاف صورها من دين لآخر؟.. أفتانى قلبى وطاوعنى عقلى بأنها ربما مجرد تهويمات لبنى آدم، وما من دليل دامغ على صحتها، فالجميع يرسم سيناريو الخلاص على طريقته وعلى نحو يحمل قدرًا كبيرًا من الانهزامية والاتكالية، والأمر يتطلَّب من وجهة نظرى معالجات واقعيّة عمليّة، وليست معالجات غيبية.. فما يعنينى أننى أعيش اليوم وليس كيف ستكون نهاية العالم.