الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الروائى محمد داود: خالد فهمى رجعى يختبئ خلف الزخرفة الأكاديمية

الروائى محمد داود
الروائى محمد داود

- فهمى منظومة متكاملة من الكراهية والعداء الشديدين لـ«مصرية مصر»

- متعاطف بشكل غير عادى مع الدولة العثمانية واحتلالها مصر

- يكره بشدة تجربة الدولة المصرية الحديثة و«يشيطن» مؤسسها محمد على

- المثقفون يدافعون عنه بمنطق الشلة وبعضهم يعتبره «صنمًا فوق النقد»

ربما يكون وصف «المعتزل» الأكثر انطباقًا على شخصية وحالة الروائى والقاص محمد داود، فقد قرر منذ زمن بعيد النأى بنفسه عن مهاترات الوسط الثقافى، ومعاركه التى تشبه الحرب مع طواحين الهواء.

ورغم انعزاله هذا، لا يزال «داود» حاضرًا بقوة بآرائه الصدامية وصراحته التى قد تضايق البعض، وكذلك جسارته فى التعبير عن أفكاره والدفاع عنها بإيمان ويقين.

هذه الجسارة جعلته يخوض اشتباكات فكرية مع الكثير مع الكتّاب والمثقفين، لعل آخرهم الدكتور خالد فهمى، الباحث فى التاريخ، الذى اتهمه بتوفير المبررات والغطاء الأخلاقى لتيارات «الأفروسنتريزم» التى تحاول سرقة الحضارة المصرية القديمة.

عن اشتباكه مع خالد فهمى، ومعاركه مع الكثير من تيارات اليسار، ورؤيته لحركة الثقافة العربية، وإشكاليات النقد والجوائز وغيرها، يدور حوار «حرف» التالى مع الروائى محمد داود.

■ بداية.. تعرضت لهجوم شديد من بعض المثقفين على خلفية انتقادك الدكتور خالد فهمى.. ما كواليس ذلك؟

- من الواضح جدًا فى الواقع الثقافى أن الكثير من المثقفين يدعمون الرجعية الدينية دون تصريح بذلك، وربما بدون وعى، فتجدهم دائمًا ما ينتهون فى مواقفهم إلى الحالة الرجعية، وحاولت تفسير ذلك وقلت إنهم يعيشون نوعًا من الصراع الداخلى نتيجة تنافر معرفى بين التأسيس والتنشئة على مفاهيم وقوالب تفكير تحتية، يعنى «حُشاشة» دينية رجعية من جهة، واطّلاع وواقع وتجارب متناقضة مع تلك المفاهيم من جهة أخرى، وبذلك يقدمون قشرة أو ظاهرًا عقلانيًا لجوهر خرافى لا عقلانى.

وواجهت صعوبة فى شرح الفكرة؛ ربما لأننى فى البداية تجنبت ذكر أمثلة، ثم فكرت فى اختيار ثلاثة نماذج معروفة كأمثلة تطبيقية، تناولت بعض أفكارهم ومواقفهم وأزحت عنها الأقنعة؛ للكشف عن جوهرها الدينى الرجعى، من تلك النماذج الدكتور خالد فهمى، وتناولت مؤلفاته الرئيسية بالنقد والتحليل، وحاولت تسليط الضوء على ما وراء الرطانة والزخرفة الأكاديمية من تماهٍ مع المراد الرجعى، مثلًا فى التعاطف غير العادى مع الدولة العثمانية واحتلالها مصر، والكراهية الشديدة للحداثة والغرب وتجربة الدولة الحديثة فى مصر لدرجة شيطنتها هى ومؤسسها محمد على. 

وتشاركت فى ذلك مع أصدقاء ومفكرين آخرين، مثل سعيد شعيب ومؤمن سلام. ورغم ابتعادى تمامًا عن التناول الشخصى، فقد غضب كثير من المثقفين، وربما تألموا من حديثى عن «الحشاشة الدينية» لأن لديهم مثلها، وبعضهم أصدقاء للدكتور خالد، يجاملونه ربما بمنطق الشلة، وبعضهم يتوقعون منا أن نتعامل معه مثلهم كصنم فوق النقد. 

وشارك فى استهدافى فئات من اليساريين، أو من تكونت عقولهم فى ظل هيمنة قيادات يسارية لعقود طويلة على الخطاب الثقافى الإبداعى والنقدى فى مصر. 

■ أنت بذلك تتهم اليسار المصرى والوسط الثقافى بالجمود والرجعية.. ما حيثيات هذه الاتهامات؟ 

- ليس لدى الجرأة على التعميم فى شأن كهذا، اليسار طيف واسع، وكل الناس مقدّرة كأشخاص. أنا هاجمت بعض الأفكار التى رأيتها داعمة لهوية استعمارية رجعية أرى ضرورة التخلص من هيمنتها، وكثير من تلك الأفكار يسارية. 

لفت نظرى هذا التحالف الغريب بين الرجعية الدينية وطيف واسع من اليسار قد يصح وصفه باليسار الرجعى، وربما يجمعهما القيام على الكراهية، الكراهية الطبقية وكراهية المختلف الحضارى الغربى والتكوين الدوجمائى والأممية المعادية للدولة الوطنية.

على أية حال، بالنسبة لى أتصور أن العدو الأول لمصر هو الرجعية الدينية وكل من وما يدعمها فى الداخل والخارج. ربما وجد هذا الطيف «اليسارجى» فى الهجوم علىّ وسيلة لتفريغ شحنات من الكراهية، ربما لأن خطابى الواضح والحاسم يعرى تحالفهم مع الرجعية. 

■ قلت إن خالد فهمى مؤيد لسطو الـ«Afrocentrism» أو «المركزية الإفريقية» على حضارة مصر القديمة.. كيف ذلك؟

- بالنسبة لى خالد فهمى مجرد مثل على مثقفين ظاهرهم غير حقيقتهم أو «حشاشتهم» الداعمة للهيمنة الدينية الرجعية على العقل والحياة فى مصر. بعد الهجمة التى حدثت ضدى ممن يعتبرونه صنمًا فوق النقد، تفحصت فكر الرجل فوجدته منظومة متكاملة من الكراهية والعداء الشديدين لـ«مصرية مصر».

إنه يعادى تجربة الحداثة والدولة الحديثة فى مصر، ويغلف ذلك برطانة وزخرفة أكاديمية صاخبة تخدع الكثيرين، ووجدت له لقاء فى «يوتيوب» يتحدث فيه عن «المركزية الإفريقية»، تلك الحركة اللصوصية التى تسعى لتزييف التاريخ وسرقة الحضارة المصرية القديمة ونسبتها إلى أفارقة سود، ولديها تبجح بالسرقة نتيجة الدعم الكبير والقدرات الإعلامية الضخمة، والتوغل فى الأكاديمية الغربية التى يقوى فيها اليسار أيضًا بأطروحاته المعادية للحضارة الأوروبية تحت مسمى «عداء المركزية الأوروبية». هذا خطاب خالد فهمى أيضًا، حيث يلتقى مع المراد الرجعى الذى يكره الغرب، المختلف الحضارى المتفوق.

خلاصة لقاء الدكتور «خالد» على «يوتيوب» فى الموضوع، أنه إن أتى لبيتنا لص وأراد سرقتنا فإن علينا أن نتفهم دوافعه ونتعاطف معه؛ لأنه ظُلم واُضطهد كثيرًا من آخرين، وبذلك فإن إنسانيتنا «وقلبنا الحنين» يوجب علينا أن نترك الحرامى يسرق بيتنا لنشعر أننا مجتمع ناضج.

الفكرة التى يقترحها الدكتور «خالد» أن «السود» تعرضوا للظلم والاضطهاد من الرجل الأبيض الاستعمارى الشرير، وأنهم يرغبون فى إيجاد تاريخ لهم ليتقووا به فى مواجهة مركزية ذلك المستعمر الأبيض «الكولونيالى»، والظلم كما نعلم ظلمات يوم القيامة، وبناء عليه لا بأس من أن نترك لهم حضارتنا المصرية القديمة.

■ خطر لى الآن التساؤل: ألم يتعرض اليهود أيضًا للاضطهاد والظلم كثيرًا فى الغرب لدرجة وضعهم فى أفران الغاز؟! فهل يعنى ذلك أن نترك لهم بعضًا من تاريخنا وربما أرضنا؟! 

- الفيديو موجود، فليبحث من يرغب فى أن يرى بنفسه، تحت عنوان «خالد فهمى: عن كليوباترا ونتفليكس والأفروسنتريك»، وهكذا تباع مصر القديمة من الدكتور «خالد» وأمثاله المثقفين ذوى الحقيقة «الحشاشة» الداخلية الدينية الرجعية، وهذا يخدم المراد الرجعى ويتكامل مع عداء الدولة الوطنية الحديثة فى مصر.

■ ما زلت منشغلًا منذ زمن بقضية التنوير.. ألا ترى أن المجتمع المصرى قطع فيها أشواطًا؟

- صراحة لا أعرف. ليس لدى إحصاء أو دراسة بمنهج علمى لمعرفة هذا الأمر. الواقع أنى أرى البنية التحتية للرجعية الدينية قائمة لم تمس، وهى نشطة فى إنتاج بشرى بتأسيس موالٍ للرجعية، أى مفاهيم وتصورات دولة البداوة المقيمة فى العقول. 

غالبًا لا يكون الحكم على اللحظة صائبًا ونحن متورطون فيها كأطراف، نحتاج للانفصال عنها بالابتعاد فى الزمن حتى تنقشع الغشاوة، هذا يعنى مفارقة أننا فى المستقبل قد نرى الصورة أوضح عما نراه فى اللحظة التى نعيشها الآن. هذا يعنى أن علينا العمل مهما كان ما يبدو لنا فى تلك اللحظة، فاحتمال الخطأ فى الحكم عليها كبير.

■ طالبت ذات مرة- ساخرًا- بإنشاء قسم للحجامة فى كلية الطب.. لماذا وجهت هذه الدعوة؟

- بعض الأطباء ومنهم مشهورون يقحمون الدين على الطب، وبعضهم يريد أن يرث دور مصطفى محمود وزغلول النجار فى دعم الخرافة من خلال التدليس على العلم، هذا ضار جدًا بالحياة فى مصر، والبعض يتملق الجمهور لكنه يضرنا جميعًا. 

ومعظم أساليب التداوى القديمة غير فعالة بل ضارة من نواحٍ عديدة، ولا ينبغى الترويج لها بحجة ارتباطها بالمقدس، والحجامة مثلًا منسوب للرسول ممارستها، حسنٌ، إن صح ذلك فهو لا يعنى أنها مطلوبة دينيًا، فليست طقس عبادة ولا أمرًا دينيًا صريحًا، ولا داعى لتبريرها وتمريرها من خلال الطب الحديث بالتدليس على الحقيقة، ثم إن كل الناس، بمن فيهم خصوم الرسول من قريش، كانوا يستعملون وسائل التداوى ذاتها، مؤكد مثلًا أن أبا لهب أيضًا كان يمارس الحجامة. 

■ هل ترى أن المثقف المصرى قادر على إحداث حراك تنويرى فى مجتمعه؟

- المثقف المصرى عليه ضغوط عديدة، ليس من السهل الخروج من هيمنة الخرافة على العقل والوجدان. لا أحد ينشأ فى الواقع المصرى دون تجربة مع الرجعية الدينية، حيث إن ذلك الواقع محكوم بهيمنة دينية رجعية مطولة من قرون عديدة. 

والمثقف المصرى- كالغالبية الكاسحة من الجمهور- خاضع للرجعية المهيمنة بلا نقد ولا مساءلة، ومعظم المثقفين يستبدلون السياسى بالمعرفى كأساس لمفاسد الواقع بسبب «حشاشتهم» الدينية، التى ترغب فى إبعاد الشبهة عن جوهر الأزمة التى هى مأزق حضارى كبير. مع ذلك فالقلة التى تتحرر من هيمنة الخرافة على العقل قادرة على التأثير؛ خاصة أن الرجعية الدينية هشة للغاية.

■ تراجع دور المثقف المصرى فى التغيير المجتمعى مقارنة بحقب زمنية سابقة.. كيف حدث ذلك؟ ولماذا؟ 

- فى العقود الأخيرة، احتل الشيخ والداعية محل المثقف فى قيادة الوعى، الأخطر من ذلك والأكثر تواجدًا فى الواقع الحالى أن المثقف نفسه تحول إلى شيخ وداعية. يبلغ البعض حد الترديد الواعى للمقولات الدينية، غير أن الغالبية تدخل فى صراع «الحُشاشة» وتحله بالتماهى مع المراد الرجعى دون وعى غالبًا. 

■ تبدو منحازًا للغة المصرية مقارنة بالعربية الفصحى.. لماذا؟ 

- الفصحى تأخذ كل الاهتمام، تحفيظ القرآن للأطفال والمدارس والأزهر والجامعات ومراكز الأبحاث ومجمع اللغة العربية، ووسائل الإعلام والثقافة كالكتب والصحف. فأصبحتُ أرى موضوع اللغة بعين مختلفة، أظن من الأفضل أن نكتب كما نتكلم. هذا الحوار كتبته بالفصحى بناء على طلب الجريدة. وكل كتاباتى الآن بالمصرى، أظن أن وجود مسافة بين المكتوب ولغة الحياة اليومية أضر كثيرًا بنا، نشكو مثلًا من قلة القرائية، ربما لو كنا نكتب كما نتكلم لكان انتشار عادة القراءة أفضل، وهذا كان سينعكس على الوعى العام. ولا أرغب فى الدخول فى الاستقطاب التقليدى بين الفصحى والعامية، تطور اللغة تفرضه إملاءات الواقع. 

■ بين السرد الروائى والقصصى أيهما تجد ذاتك الإبداعية أكثر؟

- الرواية تأملية وعقلانية، والقصة أميل للحظة الشعرية. لا تفاضل بين النوعين. ميلى للسرد الروائى هو اختيار شخصى ربمًا لأنى أميل غالبًا للشرح والتحليل والنظر فيما وراء الأحداث، إذن لعل طبعى التأملى هو ما جعلنى أميل لكتابة الرواية؛ لذلك صدرت لى خمس روايات ومجموعة قصص واحدة. 

■ لماذا اخترت الإنسلاخ عن الوسط الثقافى المصرى مكتفيًا بحضورك الإبداعى؟

- بسبب الوقت والصحة والظروف وضعف قدرات التواصل والتكيف، أو لنقل طبعى يغلب عليه أنه غير اجتماعى، كل تلك العوامل ساهمت فى قلة تواجدى بالمحافل الأدبية، رغم أنى أحب الناس عمومًا. ولا ألقى بالًا لإشكالات الاجتماع الأدبى، فليس لهذا اعتبار فى عدم وجودى كثيرًا فى المنتديات والمناسبات الأدبية.

■ أيهما سبق الآخر، ما سمى بـ«الأدب النظيف» و«السينما النظيفة» أم «سلفنة المجتمع»؟

- هناك ما وصف بـ«الأدب الإسلامى»، وهذا له قصة طويلة، لكن المصطلح نفسه مثير للسخرية، فتحت عنوان «الأدب الإسلامى» أنشئت رابطة دولية، وطبعًا لا بد أن نفكر فى الدعم والتمويل، هذا سبق فى توقيت ظهوره ما يسمى بالسينما النظيفة، وأساس كلا النوعين ككل ظواهر واقعنا السلبية، هو الهيمنة الدينية الرجعية على العقل والحياة.

■ هل غاب دور النقد فى الوسط الثقافى المصرى؟

- ما جرى للطاقة الإبداعية فى مصر جرى للطاقة النقدية. العقل العام فى مصر عمومًا غير نقدى، قدرته محدودة على الدهشة، إنه اتباعى شفاهى، والنقد كالإبداع قيادى ويحتاج للدهشة كمنشأ كما أنه يسعى لتجديد الدهشة فى النفوس تجاه الأعمال الإبداعية. هنا ربما يفضل القول إن النقد هو نوع من الإبداع، كما أن الإبداع نقد للحياة. 

■ هل لانتشار الجوائز الثقافية دور فى ترسيخ اتجاهات قرائية بعينها؟ وكيف ترى هذه الجوائز ودورها فى تسييد لون إبداعى دون الآخر؟

- من الطبيعى أن لكل جائزة توجهاتها ولكل بضاعة زبونها. الجوائز غير المصرية كثيرة وقيمتها مرتفعة وهذا مغرٍ. لكنه أحيانًا ضار بالإبداع المصرى لأسباب كثيرة حسب كل جائزة. 

بعض الكتاب يفصلون أعمالًا لعلها تحظى بالرضا والقبول، هذا ليس جيدًا. بالمناسبة أتمنى أن يقال الرواية المصرية والشعر المصرى، والسينما المصرية والموسيقى المصرية لا أن يُصادر الإنجاز المصرى قل أو كثر بالقول مثلًا الرواية العربية، الموسيقى العربية. فالهوية لا تتعلق باللغة، فتظل الرواية الروسية روسية حتى عندما تترجم للعربية.