الأحد 08 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المؤرخ الأمريكى كايل أندرسون: بكيت وأنا أكتب «فرقة العمال المصرية»

فرقة العمال المصرية
فرقة العمال المصرية

- إعداد الكتاب استغرق 7 سنوات.. واستعنت فيه بوثائق من مصر وبريطانيا 

- ما تعرضت له الفرقة من الاحتلال البريطانى «فظيع».. والكتاب اعتذار عنه

- كانوا يعملون حفاة دون أحذية على رمل سيناء الحارق فى الصيف

- مَن حاول الهرب مات من الجوع.. والرمى بالرصاص كان مصير مَن تمرد 

أثناء الحرب العالمية الأولى فرض البريطانيون الأحكام العرفية فى مصر، وجندوا بالقوة ما يقرب من نصف مليون شاب، كان غالبهم من الريف، ليشتغلوا عمالًا عسكريين فى أوروبا والشرق الأوسط.

اشتغل هؤلاء العمال فى الشحن والتفريغ على أرصفة فرنسا وإيطاليا، حفروا خنادق فى جاليبولى، وساقوا الجمال المحملة بالمؤن فى صحارى ليبيا والسودان وسيناء، وأدوا دورًا شرطيًا لفرض النظام بين سكان بغداد المحتلة، ومثلوا أغلب قوات العمال العسكرية أثناء التقدم عبر فلسطين ونحو سوريا، التى كانت أكبر مسرح للحرب.

كما أنشأت «فرقة العمال العسكرية المصرية» أو «فرقة العمال المصرية» مئات الأميال من خطوط السكك الحديدية وأنابيب المياه الواصلة بين مصر وفلسطين، والتى أصبحت أساس البنية التحتية للإمبراطورية البريطانية.

القصة المثيرة لهذه الفرقة جذبت انتباه المؤرخ الأمريكى، كايل أندرسون، فاختارها موضوعًا للبحث الذى قدمه للحصول على الدكتوراه، قبل أن يحوله إلى كتاب بعنوان: «فرقة العمال المصرية: العرق والفضاء والمكان فى الحرب العالمية الأولى».

فى السطور التالية، «حرف» تحاور المؤرخ الأمريكى كايل أندرسون، للتعرف على قصة هذا الكتاب المهم، الذى احتل قائمة «الأكثر مبيعًا» بين إصدارات المركز القومى للترجمة طوال عام.

■ بداية.. هل يمكنك أن تعرف نفسك للقارئ المصرى؟

- أنا أمريكى الجنسية، عمرى ٣٧ سنة، التحقت بجامعة «ميتشجان» عام ٢٠٠٥، ورغبت فى دراسة وتعلم اللغة العربية، لأنى كنت ضد الحرب على العراق، وأريد الحديث والتواصل مع الناس فى العالم العربى.

كانت أولى زياراتى إلى مصر عام ٢٠٠٨، والتى أحببتها كثيرًا، خاصة بعدما زرت أسوان والصحراء الغربية والواحات والإسكندرية، وقلت لنفسى: ينبغى أن أعود إلى مصر من جديد. كما سافرت إلى الأردن وسوريا ولبنان. وحصلت على البكالوريوس عام ٢٠٠٩. 

بعد ثورة ٢٠١١ فى مصر، انتابتنى رغبة شديدة فى العودة إلى «أم الدنيا» من جديد. بعدها بدأت فى دراسة الدكتوراه بجامعة «كورنيل»، مع التخصص فى تاريخ مصر والشرق الأوسط، وكان المشرف على رسالتى البروفيسور زياد فهمى، ثم عدت إلى مصر فى ٢٠١٢، وشاهدت كل ما حدث فى ثورة ٣٠ يونيو ٢٠١٣.

■ ما الذى حدث بعد ذلك؟

- أستاذى زياد فهمى أخبرنى بما يعرف بـ«فرقة العمال المصرية»، وهم العمال والفلاحون المصريون الذين جندتهم بريطانيا كعمال عسكريين فى أوروبا والشرق الأوسط خلال الحرب العالمية الأولى، وهو ما جذب انتباهى بشدة، خاصة مع تركيز معظم الكتب التاريخية على النخبة من المثقفين والمشهورين فقط، فى مقابل تهميش العمال والفلاحين.

وفى بداية بحثى للدكتوراه اهتممت بثورة ١٩١٩، خاصة فى الريف، وذهبت إلى الأرشيف البريطانى لأول مرة فى ٢٠١٤، وعثرت على نصوص تاريخية كثيرة عن «فرقة العمال المصرية»، فقلت لنفسى إننى قادر على كتابة رسالة الدكتوراه عن هذه الفرقة، ومكثت شهرًا فى لندن جمعت خلاله العديد من الوثائق.

فى أكتوبر ٢٠١٤ انتقلت للبحث فى مصر، وكان هذا أصعب بكثير، لأننى تقدمت بطلب إلى دار الوثائق القومية، ورغم انتظارى لمدة ٦ أشهر كاملة فشلت محاولتى، فجربت مرة ثانية وثالثة دون تحقيق أى نجاح، ما دفعنى للبحث عن مصادر تاريخية أخرى.

ذهبت إلى دار الكتب المصرية، وهناك وجدت عدة مصادر مفيدة جدًا مثل الجرائد القديمة، ومنها ذهبت إلى الجمعية الإفريقية، بالتزامن مع دراستى اللغة العربية واللهجة المصرية، والتعامل مع العديد من المؤرخين المصريين.

بعد ذلك، رجعت إلى لندن فى الصيف، وذهبت إلى المتحف الإمبراطورى للحرب، وهناك وجدت رسائل متعددة عن الموضوع، خاصة من باحث اسمه رامز كامل، كتبت كثيرًا عنه فى فصول كتابى.

■ هل استعنت بمصادر أخرى فى بحثك الذى تحول إلى كتاب فيما بعد؟ 

- استعنت بالأرشيف الوطنى البريطانى، وحصلت من خلاله على حوالى ٢٠ ألف صورة، واستمرت مهمة البحث لمدة ٣ سنوات، لأنهى الدكتوراه فى ٢٠١٧، وبعدها عُينت كأستاذ مساعد فى جامعة ولاية نيويورك، وبدأت بعدها فى إعداد الكتاب لمدة تزيد على ٤ سنوات، لتصدر نسخته العربية بعد ٧ سنوات كاملة من بدء البحث.

■ ما الصعوبات التى واجهتها خلال جمع المادة العلمية للكتاب؟ 

- لم أصل للكثير من المراسلات الخاصة بهؤلاء العمال. كان لدينا فقط ما كتبه المترجم شكرى مجاهد عن جده محمد إبراهيم مجاهد، والذى كان أحد أفراد «فرقة العمال المصرية»، بالتالى لديه بعض الحكايات عن هذه الفرقة. بحثنا عن حكايات أخرى أو أى دليل عن الفرقة، لدى عائلاتهم فى القرى الريفية، لكننا لم نجد شيئًا.

■ هل تملكتك مشاعر معينة أثناء جمع مادة الكتاب ثم كتابته؟ 

- وجدت نفسى أكثر من مرة أبكى على حال «فرقة العمال المصرية»، وما تعرضوا له من ظلم، وهو ما كتبته فى إهداء الكتاب: «إلى الآلاف الذين بذلوا أنفسهم وهم يعملون فى فرقة العمال المصرية».

ما تعرضوا له كان فظيعًا، فى ظل قسوة الاحتلال البريطانى، وصعوبة الحياة التى واجهوها، ومن بين مشاهدها أنهم كانوا يعملون حفاة دون أحذية على رمل سيناء الحارق فى الصيف. وحتى من حاول منهم الهرب مات من الجوع أثناء الهروب. وعندما قام بعضهم بحركات احتجاجية تعرضوا للجلد والرمى بالرصاص.

لذا الكتابة عن هذا الموضوع كانت صعبة ومؤلمة بالنسبة لى، خاصة أنها حدثت فى الواقع. ومن المهم أن نكتب عن هذه الحكايات، ليعرف الناس أفعال الاستعمار. ولذلك أنا ضد الاحتلال ومع المقاومة ضده، وأعتبر كتابى هذا بمثابة اعتذار عما جرى لـ«فرقة العمال المصرية».

■ ما الذى تقصده بـ«عنصرية الموت» التى تناولتها فى الكتاب؟

- على مقابر الحرب العالمية الأولى بأوروبا مكتوب اسم كل ضحية، لكن فى فلسطين وغيرها من الأماكن التى مات ودُفن فيها العمال المصريون وغيرهم، لا توجد إلا مقابر جماعية دون أسماء تميز المدفونين أو تدل عليهم. كانوا يكتبون فقط العدد، فيكتبون مثلًا «١٠٠ متوفى مصرى» .

وحتى هذا العدد مختلف تمامًا عن العدد الحقيقى للمتوفين، فنحن كمؤرخين نعرف أن بين ١٠ إلى ٢٠ ألف ضحية من «فرقة العمال المصرية» ماتوا فى فلسطين. لكن الرقم المعروف فى المقابر الجماعية لا يتعدى ٢٥٠٠ فقط.

ولذلك طلبت الاطلاع على وثائق دار الكتب، لأرى أى وثائق تخص هذه الفرقة، فربما نتوصل إلى أسماء هؤلاء الرجال، لكن للأسف هناك صعوبات كبيرة فى الحصول على هذه الوثائق، التى تعتبرها الحكومة المصرية مسألة أمن قومى.

■ ما الرسالة التى توجهها إلى أحفاد «فرقة العمال المصرية» إذن؟

- أتمنى أن يجمعوا كل النصوص والحكايات المتعلقة بالفرقة، ونشرها فى مقالات أو كتب أو على وسائل التواصل الاجتماعى، بجانب جمع كل الروايات الشفهية الموجودة لديهم، لاستكمال بحثى ومساعدة كل الباحثين المصريين والأجانب المهتمين بالموضوع.

■ بصفة عامة.. ما الذى دفعك لدراسة تاريخ الشرق الأوسط؟

- أحداث ١١ سبتمبر. كان هناك جهل كبير بالحقيقة. أنا من ولاية «ميتشجان»، وهى ولاية فى الريف الأمريكى، وناسها بعد «١١ سبتمبر» كرهوا المسلمين بشدة، وعمموا هذه الكراهية على كل المسلمين. لذا على الرغم من عدم وجود عراقى واحد شارك فى هذه الأحداث، شنت أمريكا الحرب على العراق، بسبب تعميم كراهية واتهام المسلمين كلهم. 

لذلك أخذت على عاتقى مكافحة هذا الجهل، وتعلمت اللغة العربية لأتحدث مع الناس المسلمين العرب، وأعرف كيف يرونا كأمريكيين. كما أننى أحببت دراسة التاريخ، وأحببت مصر وتاريخها، ودرست العديد من الموضوعات المتعلقة بها.

المؤرخ الأمريكى كايل أندرسون والزميلة نضال ممدوح

■ لماذا عارضت الحرب على العراق؟

- الحرب على العراق كانت شيئًا بائسًا جدًا، وفى اعتقادى أن «ترامب» جاء رئيسًا للولايات المتحدة بسبب هذه الحرب، لأنها خلفت عدم ثقة فى الإدارة الأمريكية والسياسيين عمومًا، إلى جانب الكثير من الضحايا فى أمريكا والعراق على حد سواء، وما زال تأثيرها فى السياسة الأمريكية قائمًا حتى الآن.

«ترامب» استطاع اللعب على مشاعر الأمريكيين واستغلال هذه الحرب وتأثيراتها، فى ظل وجود «نخبة تحتكر الشعب الأمريكى»، و«ترامب» الوحيد الذى يعارضها، لذا تجد أكثر داعميه من الريف، لوقوفه ضد هذه «النخبة المحتكرة»، والتى أقصد بها حائزى الثروات والمثقفين. 

■ قلت إنك شهدت ثورة ٣٠ يونيو.. كيف رأيتها؟ 

-  كنت متحمسًا جدًا لما شاهدته فى ثورة ٣٠ يونيو، والذى حدث فى مصر آنذاك، خاصة أن الشباب الثوار كانوا رمزًا للحرية والعدالة الاجتماعية، وكل الأمريكيين شعروا بذلك، سواء فى «٢٥ يناير» أو «٣٠ يونيو»، حتى أن الثورة المصرية كان لها تأثير ملهم على حركة «احتلوا وول ستريت».

عندما جئت إلى مصر فى ٢٠١١ تعلمت الكثير عن الثورة المصرية، مثلًا فى أمريكا يقولون إن «فيسبوك» هو باعث تلك الثورة، وهذا خطأ كبير، لأنه كانت هناك تيارات وحركات متعددة من بينها «الجمعية الوطنية للتغيير» و«حركة كفاية».

وأعرف أن «الإخوان» كانوا ضد الثورة فى البداية، لكنهم انضموا بعد اندلاعها بـ٣ أو ٤ أيام، ولاحظت وجود فصائل متعددة، ولكل فصيل قائد، سواء «الإخوان» أو «حزب الكنبة» أو الشباب. لعل ذلك ما دفعنى للاهتمام بدراسة التيارات وقت ثورة ١٩١٩.

فتمامًا مثل «٢٥ يناير»، نتحدث عن سعد زغلول و«الوفد» عند الحديث عن ثورة ١٩، رغم وقوف تيارات وأحزاب أخرى وراءها، مثل «الوطنى» و«الوفد»، والبدو فى الفيوم، والفلاحين فى الأرياف، والعمال فى قناة السويس.

■ كمؤرخ أمريكى خاض أجداده حرب الاستقلال ضد التاج البريطانى.. إلى أى مدى يتشابه ذلك مع الاحتلال البريطانى لمصر واستقلالها عنه فيما بعد؟

- هناك فارق. نحن كأمريكيين لسنا ضد البريطانيين بل جزء منهم. وعمومًا نحن لسنا أمريكيين، نحن أوروبيون فى الأصل. فالأمريكيون الأصليون هم «الهنود الحمر». وما زال فى أمريكا عبودية وحركة إبادة ضد «الهنود الحمر». وأعتبر أن أمريكا جزء من حركة استعمارية عالمية.

أمريكا فى البداية لم تكن تدعم إسرائيل مثل اليوم. إسرائيل كانت احتلالًا بريطانيًا، والبريطانيون دعموا الحركة الصهيونية، لكن الحال تغير بالنسبة لأمريكا بعد حرب ١٩٦٧ بسبب «الحرب الباردة» والحركة المسيحية الإنجيلية، لتتحول أمريكا اليوم إلى أكبر داعم لإسرائيل، وتبيع لها الأسلحة التى تُباد بها غزة. لكن الحركات الطلابية الأمريكية فى الجامعات تقاوم، ولا يؤيد الجميع ما يحدث، وعندنا معارضة لإسرائيل، وأنا منضم إليها.

■ ما جديدك خلال الفترة المقبلة؟

- أعمل على دراسة بحثية جديدة عن السياسى منصور رفعت، الذى سافر إلى أمريكا والتحق بكلية الطب فى مدينة فيلادلفيا، وكان جزءًا من الحركة النسوية فى أمريكا، قبل أن يعود إلى مصر عام 1908، ويلتحق بعضوية الحزب الوطنى القديم. و«رفعت» شريك محمد فريد بعد موت مصطفى كامل، والمدير السياسى لجريدة «اللواء»، وشارك فى وفد الحزب الوطنى إلى تركيا، وكان يريد دستورًا خاصًا لمصر، وأقام ندوات ومقابلات مهمة فى أوروبا، علاوة على دوره فى تنظيم مؤتمر الحزب الوطنى فى باريس. كما أنه حاول اغتيال الخديو عباس حلمى وفشل. كتب كثيرًا من المقالات السياسية ضد الإنجليز، وحاول تنظيم اغتيالات ضدهم. ومن 1912 حتى 1914 كان منصور رفعت فى جنيف يؤسس «نادى المواطنين المصريين» هناك، إلى جانب تأسيس جريدة باللغة الفرنسية اسمها «الوطن المصرى». كما كان له وجود فى ألمانيا، وأسس الحزب المصرى الرديكالى فى برلين عام 1919، وكان غاضبًا من اعتبار سعد زغلول رمز الثورة فى مصر، بل وحاول اغتياله عام 1924، قبل أن ينتحر بعدها بعامين لشعوره بالفشل.