الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

خالد البرى.. مهارة توصيف الواقع

خالد البرى
خالد البرى

عرفت خالد البرى وقت ٢٥ يناير، وطول الوقت كنت بـ أحس إنه شايف حاجة أبعد من كل اللى حواليه.

الفكرة هنا هو إننا كنا جميعًا مستغرقين فى اللحظة، وهى بـ صراحة لحظة تستحق الاستغراق فيها، كل شىء فى البلد بـ يفور، المنتظر حدوث تحول ضخم فى المسار والمَسِير والمصير، التوقعات عدت كل الأسقف، بـ غض البصر عن اتجاه التوقعات اللى هى أقرب لـ الأمانى، وحصلت تفاعلات كتير مش هى موضوعى دلوقتى، لكن قليلين كانوا مشغولين بـ الصورة الكبيرة المتجاوزة لـ اللحظة، وكان منهم خالد البرى.

كان اسم البرى وقتها مرتبط بـ كتابه «الدنيا أجمل من الجنة.. سيرة أصولى مصرى»، وأنا ما قريتش هذا الكتاب، وما تحمستش حتى إنى أبص عليه، لـ إنى مش بحب هذا النوع من الكتب اللى شهرتها مبنية على حاجة براها، فكرة المتطرف التائب اللى بـ يقدم شهادة عن علاقته بـ الجماعات اللى كان منضم لها لا تستهوينى، فـ ما فكرتش إنه دوايرنا ممكن تتقاطع، ولو تقاطعت لا أتصور إنه هـ يكون عنده ما يهمنى، لكنى كنت غلطان.

من وسط مجموعة كبيرة تعرفت عليهم سويًا: كتاب ومثقفين وإعلاميين وخلافه، كان البرى الوحيد اللى بـ يبدأ تفكيره فى أى موضوع من: هى إيه؟ مش المفروض هى تكون إيه؟ وهذا فارق لو تعلمون عظيم، أى محاولة تفاعل أو رغبة فى التغيير أو حتى الاستسلام لـ واقع ما يتطلب أولًا القدرة على توصيف الواقع دا، وإنت مش ممكن توصفه وإنت لازق فيه، لازم تشوفه من بره، ولا تستنكر ما تراه لـ إنه مخالف هواك، ودى حاجة مش كتير بـ يقدروا عليها.

حاجات كتير من اللى قدمها خالد بعدين: أفكار ومواقف وكتابات وانحيازات، كانت مثيرة لـ الجدل والرفض، وكانت الاتهامات بـ تتوجه له أسرع من أى حد تانى، لكن رغم رفضى أحيانًا لـ بعض الحاجات دى كنت بـ أشوف عنده ذكاء كبير وجرأة أكبر، لـ ذلك كانت ثقتى فيه عالية، حتى إذا رفضت أحيانًا ما يقوله.

اهتميت كتير بـ إيجاد تفسير لـ الفارق دا بينه وبين المجال المحيط عمومًا، وأعتقد إن دا كان ناتج من الاحتكاك على الأرض مع الأحداث اللى كتير منها عاصرها بـ اللغة، اللغة زى ما هى معبرة فـ هى حجاب، واللغة العربية تحديدًا بـ تعمل دا أكتر لـ اهتمام أهلها بـ الجوانب البلاغية أكتر من المضامين، من هنا تيجى أهمية تجربة خالد البرى فى العراق.

هو راح بغداد ٢٠٠٤ من خلال عمله فى الـ«بى بى سى»، ودى كانت فترة ملتهبة، وكلنا كنا بـ نمتلك «تصورات» من خلال ما يطرح من كتابات معاصرة، أو حتى من خلال كتابات فى عمق التاريخ، شكلت وعينا وعملت له إطار قبولًا أو رفضًا، لكنه لما دخل بغداد بريًا قادمًا من الكويت وأقام فيها فترة شاف إنه «الواقع» مختلف عن المتداول، مش ضده، مش ينفيه، ولا يؤكده بـ الطبع، لكن الواقع له مفردات مختلفة تمامًا، ودا اللى هـ يكون فارق بعدين فى مسيرته ورؤيته لـ الحياة، وهـ يخليه أقدر على المغامرة، وعلى طرح ما لا يمكن تخيل طرحه.

لـ الأسف ما كانش عندنا واقع يقدر أولًا يفرز ناس كتير لهم تلك الصفة «الابتعاد عن الواقع حتى يمكن رؤيته، والتعامل معه كما هو» وحتى لما اتوجد مثال نادر زى خالد البرى ما كانش فيه قدرة كبيرة على الاستفادة منه «حتى وأنت ترفضه»، إنما عن نفسى أنا اتعلمت كتير من منهجه، فـ شكرًا خالد.