الأحد 08 سبتمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الافتراء على العلمانية.. حوار هادئ حول قضية ليست كذلك مع الدكتور القوصى

حرف

- يلجأ الدكتور القوصى إلى التفسير الكلاسيكى للعلمانية وأنها تقليد لما جرى فى الغرب وأن الإسلام ليس المسيحية

لا أخشى على مصر إلا من التطرف. 

التطرف بكل أشكاله لا أستثنى منها شيئًا، لكن أكثر ما يزعجنى بالطبع هو التطرف الدينى، لأننا نرى فى النهاية ترجمته الواقعية على الأرض سفك دماء وتخريب ديار وهدم دول. 

ورغم قناعتى التامة أن الجماعات السياسية التى تأخذ من الدين ستارًا لتحقيق أهدافها وتطلعاتها للوصول إلى الحكم تلجأ إلى الإرهاب كأداة لتخويف وإخضاع خصومها لتنال ما تريده، فتتحول إلى حضانات تضم إليها شبابًا مسلوبى العقل والإرادة يصبحون فى لحظة قنابل ورصاصًا وأحزمة ناسفة، يأخذون الأخضر واليابس فى طريقهم. 

إلا أن المناوشات الفكرية- واسمحوا لى أن أصفها بذلك- بين بعض علماء الدين وبعض المنتسبين إلى العلمانية، قد تقودنا فى النهاية إلى شكل من أشكال التطرف يمهد الأرض لتمكين الإرهاب على الأرض، وهو ما لا يلتفت إليه كثيرون ممن يكتبون أو يعظون. 

فمقال واحد يكتبه أحد العلمانيين يهاجم فيه الدين قد يدفع شبابًا إلى التطرف دفاعًا عن الدين. 

وعظة يلقيها أحد علماء الدين لا يلقى لها بالًا قد تصنع من شاب متطرفًا يقرر أن يتحول إلى جندى من جنود الله ولا يتردد فى حمل السلاح، لأن الدين مهدد ويحتاج إلى من يدافع عنه. 

تجسدت هذه المعانى أمامى وأنا أقرأ المقال الذى كتبه الأستاذ الدكتور محمد عبدالفضيل القوصى فى مجلة الأزهر بعددها الأخير ومنحه عنوان «العلمانية فى ثوب التنوير». 

الدكتور القوصى هو أحد أعضاء هيئة كبار العلماء، ولا يمكن بأى حال من الأحوال أن أتجاوز فى حقه، وأقول إنه متطرف، فهو أبعد ما يكون عن ذلك حتمًا، لكن ما نأسف له أن المقال الذى كتبه بنعومة شديدة، قد يكون سببًا من أسباب صناعة التطرف الذى يقود إلى إرهاب خشن. 

يعتمد الدكتور القوصى على منهج واضح، يصل من خلاله إلى أن العلمانيين يلجأون إلى المراوغة، وهدفهم الأساسى هو هدم الدين، وقد يكون ما قصده واضحًا من عنوانه، فالعلمانيون يرتدون ثوب التنوير، رغم أنهم لا يسعون إلى ذلك، بل يأخذون منه وسيلة لتحقيق أهدافهم التى-فى رأيه- بعيدة كل البعد عن الدين. 

يدخل الدكتور القوصى فى موضوعه مباشرة، فهو يرى أنه: «ما تكاد رياح الدعوة إلى العلمانية تخبو حتى تنبعث من مرقدها من جديد، متدثرة بأردية مستحدثة، وأزياء متجددة، قد تختلف فى مرآها ومظهرها، لكن الجوهر المستكن وراء تلك المرائى والمظاهر يظل ثابت الملامح متصلب القسمات». 

من ظاهر الكلام أن الدكتور القوصى يتهم العلمانيين بالنصب المباشر، فهم لا يستسلمون، وكلما نزلت بهم هزيمة يعودون إلى سيرتهم الأولى لكن بأشكال مختلفة زائفة وخادعة، ولذلك نراه يقول: «بيد أنه ينبغى لنا أن نعترف منذ البدء بأن العلمانية حين ارتدت ثوبها الأخير لدى بعض سدنتها قد بدت أكثر حنكة، وأمهر أسلوبًا، ومن ثم أعمق احتياجًا إلى مزيد من التأمل والتحليل». 

لا يفصح الدكتور القوصى صراحة عن الثوب الجديد الذى يرتديه العلمانيون، ولا عن السدنة الذين يقصدهم، ولكنه يكتفى بالتلميح الذى يمكننا أن نفهم منه أنه يقصد مجموعة «تكوين»، الذين خرجوا على الناس بمنهج جديد فى الحديث، منهج يجمع ولا يفرق، يحترم الدين وعلماءه ويسعى إلى التعاون معهم، تاركين خلفهم الاختلافات القديمة. 

لكن يبدو أن هذا المنهج لا يعجب علماء الدين ومنهم الدكتور القوصى، بل يشكك فيه وفيهم، ويعتبره مجرد حيلة يسعون من خلالها إلى التسلل إلى ما يريدون دون صدام. 

وحتى يؤكد الدكتور القوصى ما يذهب إليه ويتبناه، يستعرض مسيرة الخداع التى قام بها العلمانيون وصولًا إلى ثوبهم الجديد الذى هو بالنسبة إليه مخادع أيضًا. 

فبالنسبة للدكتور القوصى، فقد كان دعاة العلمانية من قبل يسفرون عن وجوههم علانية ودون مواربة، فالعلمانية لديهم تعنى- ببساطة- فصل الدين عن مناحى الحياة، وعزله عن واقع البشر، فحسب الدين- فيما يشتهون- أن يقبع فى ركن قصى من أركان الحياة البشرية الفردية منها والاجتماعية، وأن يغلق على نفسه دور العبادة ويستغرق فى طقوسها، ولا بأس أن الدين لدى أكثر العلمانيين سماحة تهتز له المشاعر، أو تهفو إليه العواطف، أو تخفق له القلوب. 

ويضيف الدكتور القوصى: بل لا بأس- عند أكثر العلمانيين حذقًا ومهارة- من أن تنبعث فى دائرة الدين اتجاهات متحجرة تدعى الانتساب إلى السلف الصالح، ثم تستخدم هذا الانتساب المدعى فى صرف اهتمام جماهير الأمة- تارة- صوب قضايا كلامية عقدية دقيقة، ما كان ينبغى لها أن تغادر قاعات الدرس ومجالس العلماء، وتارة صوب توجيه اهتمام هذه الجماهير إلى فرعيات فقهية لا تكاد تنفذ من المظهر إلى الجوهر فى جمود فكرى منغلق، وشكلية حرفية متزمتة ضيقة، ولا بأس من ذلك كله- لدى أولئك العلمانيين- متى توقفت خطى دور الدين عند هذه الحدود، أما أن يضطلع الدين بدوره فى تنظيم حياة البشر، أو ضبط واقعهم أو توجيه مناشط سلوكهم أو بعث الحيوية الحضارية فى عروقهم، فذلك كله- عند العلمانيين جميعًا- هو المحظور المنكور. 

هنا يمكننا أن نتوقف قليلًا، فالدكتور القوصى يتعامل مع ما يردده غلاة العلمانية، ولا أنكر أن هناك من العلمانيين من يريد نفى الدين تمامًا، لكن العلمانية الحقيقية ليست كذلك، بل هى الصيغة التى تسعى إلى التصالح بين الدين والحياة.. لا تعزله عنها. 

العلمانيون الحقيقيون لا يرفضون الدين، يريدونه أن يكون وسيلة من وسائل البناء وليس الهدم والتطرف والسعى إلى الحكم باسم الله، وهى صيغة حكم تخاصم تمامًا الحياة الحديثة، التى تقوم على المدنية والمواطنة، وتمنح البشر حقوقًا متساوية، دون أن تجعل من البعض سادة يحكمون باسم الدين، وعبيدًا وتابعين ليس من حقهم شىء إلا ما يقرر من يحكمون أن يمنحوهم إياه. 

يرفض العلمانيون الحقيقيون سطوة من يتحدثون بالدين واستبدادهم وتدخلهم فى كل مناحى الحياة التى لا علاقة للدين به، فالدين لديهم هو علاقة خاصة بين الله وعباده، لا يجب أن يتدخل فيه أحد، ولا يجب أن يتسلط باسمها أحد. 

يفعل الدكتور القوصى كما يفعل غلاة العلمانيين تمامًا، فهو يأخذ من أقوال متطرفى العلمانية حجة عليهم، ثم يهيل التراب على العلمانية كلها، فغلاة العلمانية يأخذون من كلام المتطرفين فى الدين حجة عليه فيهيلون عليه التراب بشكل كامل، وكل منهما على خطأ. 

مقال الدكتور القوصي

ينتقل الدكتور القوصى إلى النسخة الجديدة من العلمانيين، يقول: لكن سدنةَ التنوير- وإن كانوا على ذلك من المجمعين- يتخذون فى الدعوةِ إلى العلمانية والترويج لمبادئها منحى أكثر ابتداعًا، فبعد أن كانت العلمانية عند الأقدمين تسعى- ببساطة وعلانية- إلى عزل الدين عن المجتمع والحياة، إذا بأحد أولئك السدنة يجهر قائلًا: من ذا الذى يملك قوة فصم الدين عن المجتمع والحياة؟ إن العلمانيةَ- كما يضيف بالنص الحرفىِ- هى الحماية الحقيقية لحرمة الدين والعقيدة والإبداع، بل إن الإسلام- كما يقول فى جرأة بالغة- هو الدين العلمانى بامتياز، لأنه لا يعرف سلطة الكهنوت. 

ويدعم الدكتور القوصى وجهة نظره بقوله: فى سبيل التمهيد لهذه الأطروحة المبتدعة، يقيم ذلك القائل تفرقة مصطنعة الحماية بين «الدين» من جهة «والفكر الدينى» من جهة أخرى، فجميع ما سطره علماء المسلمين ومحققوهم فهمًا من القرآن الكريم والسنة المطهرة، واستخراجًا لدلالاتهما، واستنباطًا لأحكامهما يندرج تحت مسمى «الفكر الدينى» الذى لا يمثل- فى هذا الزعم- نفسه، وإنما هو عبء عليه وقيد على طلاقته، بل إن هذا الفكر الدينى يحمل ادعاء ضمنيًا بالقدرة على الوصول إلى القصد الإلهى، دون إدراك أنه بذلك يدخل فى منطقة شائكة هى منطقة الحديث عن الله. 

لم يذكر الدكتور القوصى اسم أحد السدنة الذى يتحدث عنه، قصد إلى تجهيل اسمه، وأعتقد أنه لم يفعل ذلك إلا تعاليًا عليه وحطًا من قدره، وهى آفة فى الحديث لدى علماء الدين، فهم متعالون يحتقرون مخالفيهم، وهى صيغة تضر أكثر مما تفيد، لكن ليس هذا موضوعنا الآن. 

إننى أتوجه للدكتور القوصى بأسئلة واضحة وهى: لماذا يشكك مجانًا فى نوايا ومقاصد من يطرحون هذا الطرح عن العلمانية، فهل شق عن قلوبهم؟ ولماذا لا يتعامل معهم على أنهم لا يقصدون بالفعل ما يقولون، وأنهم يلجأون إلى حيلة أو خديعة لمن يتحدثون إليهم؟ لماذا يغلق الباب أمام الحوار معهم؟ لماذا يتعامل معهم على أنهم خصوم؟ لماذا يكسب عداءهم مجانًا؟ 

الحقيقة أن العداء ليس مجانيًا، بل إنه سيدفع من يهاجمهم إلى الهجوم على الدين الذى يمثله، لن يتعاملوا معه، بل إنهم يمكن ألا يذكروا اسمه تعاليًا عليه، بل سيتعاملون مع ما يعتقد أنه يتحدث باسمه. 

المشكلة الكبرى أن الدكتور القوصى يقع فى خطأ كبير. 

لنسمعه وهو يقول: الذى تهدف إليه العلمانية- حسب هذا الفهم- إنما هو إزاحة هذا «الفكر الدينى»، وليس الدين نفسه. 

وحتى يضعنا فى الصورة التى يراها هو، يقول: هذه الأطروحة التنويرية تتضمن فى خبيئتها الخادعة دعوة جهيرة إلى تجريد الدين نفسه- ممثلًا فى القرآن الكريم بشكل رئيس- من كل دور فى واقع المسلمين، وذلك بإهدار جميع دلالاته التى حملها إلى البشرية من الأوامر والنواهى والتشريعات الاجتماعية والحياتية، والتى ضبطت معاقدها جحافل من أفذاذ العلماء والمحققين على مدى التاريخ الإسلامى، بزعم أن ذلك كله يندرج تحت مسمى «الفكر الدينى» لكى يصير هذا الدين- بعد تلك التعرية- مجردًا من مضامينه الدلالية، خاوى الوفاض من توجيه المجتمع، وضبط حركته، قابلًا لكل قراءة شاردة أو هوى منفلت، ثم تصحو الأمة بعدئذ على «دين» قد أُفرغ من محتواه إفراغًا، ولم يبق منه سوى إطارات عامة مفتحة الأبواب لا تستعصم فى فكر جانح أو رأى جامح، ثم تكتمل حلقات تلك الهجمة التنويرية المستحدثة بما يلوح به صاحبها- ترهيبًا وتخويفًا- بأن هذا الفكر الدينى حين يضبط دلالات النصوص الشرعية أو يرسخ فى وعى الأمة الأصول المستنبطة من الكتاب والسنة، فكأنه ينفذ إلى القصد الإلهى ويتحدث باسم الله. 

الخطأ الذى يصل إلى درجة الخطيئة فيما قاله الدكتور القوصى هو إصراره على جعل الدين هو الفكر الدينى، والفرق بينهما كبير. 

فالدين هو ما جاءنا عبر كتاب الله وسنة رسوله الصحيحة المتفق عليها. 

أما الفكر الدينى فهو اجتهادات العلماء والباحثين حول ما جاء به هذا الدين. 

الدين ثابت أما الفكر الدينى فمتغير. 

الدين مقدس، أما الفكر الدينى فليس كذلك.. ولا يجب أن يكون كذلك أبدًا.

الدين جاء من الله، أما الفكر الدينى فقد جاء به البشر، صاغوه طبقًا لما تقتضيه ظروف حياتهم، ومن حقنا أن نسهم فى حقول الفكر الدينى كما أسهم الآخرون دون أن يكون فى ذلك اعتداء عليهم أو انتقاص من شأنهم أو حطَّ من أقدارهم. 

لا يلتفت الدكتور القوصى إلى هذه المعانى، يجرنا فقط فى مقاله إلى منطقة زلقة. 

يقول: ولا يمكن للمرء فى هذا المقام إلا أن تعتريه الدهشة من هذه القدرة الفائقة على خلط المفاهيم فى جرأة بالغة واقتحام جسور، فهل يمكن لامرئ تمرس بشىء من المعرفة بالإسلام أن يغفل عن تلك البدهية العظمى من بدهيات الإسلام، وهى أن القرآن الكريم ما أنزله الله تعالى إلى البشرية إلا رسالة خاتمة ناطقةً بمرادات الله تعالى من البشر أمرًا أو نهيًا، قضاء وتشريعًا، سلوكًا وتطبيقًا، لكى تحاسب تلك البشرية عليها- بعدئذ- طاعة أو معصية، ثوابًا وعقابًا؟ 

ويضيف: وهل يمكن لذى عقل مستقيم إلا أن يفهم أنه لا بد لتلك الرسالة الجليلة ذات الخطر العظيم أن تكون كاشفة عن تلك المرادات كشفًا لا إبهام فيه ولا إيهام؟ وإلا فكيف يتم التزام تلك الطاعة أو اجتناب تلك المعصية إن لم يكونا- من الوضوح والبيان- على أتم درجاتهما وأكمل مراتبهما؟، ثم أى فهم إذا هذا الذى يدعى أن هذا الوضوح والبيان الذى نطقت به آيات هذا الكتاب المعجز، والذى اضطلعت بتفصيله جهود علماء الأمة إنما هو ولوج إلى المنطقة الشائكة وهى الحديث باسم الله؟ وكيف يصح فى الأذهان أن ينقلب فهم دلالات القرآن الكريم الذى يسره الله تعالى للذكر، وجعله قرآنًا عربيًا غير ذى عوج إلى حديث باسم الله؟ 

ويتساءل الدكتور القوصى: أليس القرآن الكريم هو كلام الله سبحانه؟ أو ليس هو الله تعالى الذى نزل أحسن الحديث؟ ألسنا حين نسمع القرآن الكريم فإنما نسمع كلام الله؟ فأين إذا الحديث باسم الله؟ أما كان الأجدر لو كانت أفهام المسلمين للأوامر والنواهى الإلهية فى القرآن الكريم حديثًا عن الله، ودخولًا فى تلك المنطقة الشائكة المحرمة أن يتضمن القرآن الكريم أمرًا للناس بالصمت، والسكون، وتوجيهًا لهم أن يمسكوا عن كل فهم فى الدين؛ حذرًا من أن يكون ذلك نفاذًا إلى القصد الإلهى، أو حديثًا عن الله سبحانه؟ ولئن كان الأمر كذلك، فما الحاجة إلى تضمين تلك الأوامر والنواهى فى القرآن الكريم أصلًا وابتداء؟ أو ما كان الأولى حينئذ أن يكون القرآن الكريم- وحاشاه- مجرد نصائح عامة فضفاضة لا تحمل أمرًا ولا نهيًا ولا تشريعًا ولا تنظيمًا؟

تنتهى أسئلة الدكتور القوصى، لكن لا ينتهى عجبى من الخلط الذى قام به، ولا تتبدد دهشتى من إصراره على بعض من التدليس الذى أرى أنه متعمد بشكل مطلق. 

لقد قال كلمة باطلة أراد من ورائها الحق فى اعتقاده، فأنا لن أفعل مثله وأشكك فى نواياه أو مقاصده، لكنه ينكر تمامًا أن يكون الاجتهاد ومن قدموا مساهمات فى الفكر الدينى يتحدثون باسم الله، رغم أن الواقع يقول غير ذلك. 

القرآن كلام الله، وسنة النبى صلى الله عليه وسلم فى شطر منها من وحى الله، لكن ما قدمه المجتهدون ليس كلام الله بل كلام البشر، يمكننا أن نأخذ منه ونرد عليه. 

إن إخفاء هذه الحقيقة أمر معطل تمامًا لأى حوار، مصادرة لأى كلام، ولن يجعلنا نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام فى تجديد الفكر الدينى، وهو أمر مطلوب وضرورى، وأعتقد أن الدكتور القوصى لا يمكن أن ينكر ذلك. 

المشكلة الكبرى أن عددًا من علماء الدين يريدون أن يحتكروا الحديث باسمه وعنه، ولا يقبلون من يحاول ذلك من خارج جلدتهم رغم جدارتهم بذلك، وهنا يمكن أن نمسك بالعقدة، ونظرية المؤامرة التى تسكن عقول بعض علماء الدين، فلا توجد مؤامرة على الإسلام، ولكنها محاولة لتحريره من تفسيرات عقيمة لا تناسبه فى ثوبه العصرى، لكن الدكتور القوصى ومن يمثلهم لا يريدون أن يقروا بذلك. 

لا يمضى الدكتور القوصى من سطور مقاله إلا بعد أن يلقى بتهمة مركبة على رءوس العلمانيين. 

يقول: وأخيرًا.. إن مأساة رهط من التنويريين والعلمانيين تتجسد- فى بعض جوانبها- أنهم مولعون باستعادة تاريخ الكنيسة فى العصور الوسطى الأوروبية، ثم نسج خيوطه المهترئة ذاتها على وقائع التاريخ الإسلامى فى تبسيط هازل لا يملون من تكراره، فهل خطر ببال أحد من علماء الأمة- متقدميها ومتأخريها- ذات يوم أن يكون رأيه حديثًا عن الله وهو يتلو قوله تعالى تعليمًا لرسوله الكريم: «ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير وما مسنى السوء إن أنا إلا نذير وبشير لقوم يؤمنون». 

يلجأ الدكتور القوصى إلى التفسير الكلاسيكى للعلمانية، وأنها تقليد لما جرى فى الغرب، وأن الإسلام ليس المسيحية، وأن الأزهر ليس الكنيسة، يرمى العلمانيين بالتغريب، وما داموا يسيرون وراء الغرب فهم ضالون ومضللون، فلا يجب أن يستمع إليهم أحد، بل يضعنا وجًها لوجه أمام نص قرآنى أخرجه من سياقه وسعى إلى استنطاقه بدلالات ليست مناسبة لسياقنا. 

يتحدث بلسان الرسول الذى قال «ولو كنت أعلم الغيب لاستكثرت من الخير»، دون أن يدرك أن هناك بعضًا من علماء الدين من يتقول على الله ويدعى أنهم يعرفون الغيب، بل يصادرون ما اختص الله به نفسه، فيدخلون من يشاءون الجنة ويقسمون لمن يريدون النار. 

ما كتبه الدكتور القوصى ليس مقالًا، بل جريمة متكاملة الأركان... وأعتقد أنه لا بد أن يراجع نفسه، فما قاله لن يفيد الدين فى شىء، بل يمثل عبئًا عليه، وأنا أنزهه عن أن يفعل ذلك.