جريمة سطو ثقافى مسكوت عنها.. شركاء جلال أمين فى «ماذا حدث للمصريين؟»
فى شتاء العام 1997 كنت أدرس فى السنة التمهيدية للماجستير بقسم الصحافة- كلية الإعلام جامعة القاهرة. الأستاذة الدكتورة نجوى كامل تُدرس لنا مادة الإعلام والمجتمع، طلبت منا قراءة ودراسة كتاب «ماذا حدث للمصريين؟» للكاتب الكبير جلال أمين.
كان الكتاب قد صدر عن سلسلة «كتاب الهلال» عدد نوفمبر 1997، وأثار حالة من الجدل والنقاش فى الأوساط الثقافية والعامة على السواء، ليس لشهرة كاتبه فقط، ولكن لأنه عزف على الوتر الحساس لدى الشعب المصرى كله، فقد قام بتعرية شاملة لحالة التردى الشديدة التى كنا نعيشها من خلال قراءة لتحولات المجتمع المصرى خلال نصف قرن.
«ماذا حدث للمصريين؟» يُعد بداية جماهيرية وشعبية جلال أمين وتصنيفه ضمن الكُتاب الأكثر رواجًا وانتشارًا
طلبت منا الدكتورة نجوى كامل أن نقدم قراءة نقدية للكتاب، على أن تكون هذه مهمتنا فى امتحان المادة، وأذكر أننى جلست إليها بعد ظهور النتيجة، ووجدتها تقول لى إنها حزينة جدًا من قراءتنا للكتاب، فلم يستطع إلا القليل من الطلبة الوصول إلى جوهر ما أراده جلال أمين، فقد غلبت على قراءات الكثيرين السطحية الشديدة، فقد عرضوا محتوى الكتاب دون أن يعرفوا مقصده وغايته ومبتغاه، فعلوا ذلك بمنطق التلامذة الذين يسعون للحصول على الدرجة فقط دون اجتهاد فى الفهم أو إبداع فى القراءة.
عدت إلى قراءة الكتاب مرة أخرى، فوجدتنى أمام رؤية متعددة الأبعاد من كاتب استطاع بأسلوبه السهل البسيط السلس أن يجذب إليه شرائح القراء مختلفى الاتجاهات والمذاهب والمشارب، فقد كنا جميعًا فى الهم مصريين، وجدنا أنفسنا عرايا على أوراق جلال أمين الذى كان حادًا وواضحًا ومقتحمًا لمشكلات المجتمع المصرى.
يمكننا ببساطة أن نعتبر «ماذا حدث للمصريين؟... تطور المجتمع المصرى فى نصف قرن ١٩٤٥- ١٩٩٥» هو بداية شعبية وجماهيرية جلال أمين الحقيقية، بل يمكننا اعتباره الكتاب الذى وضعه فى مصاف الكتّاب الأكثر رواجًا وانتشارًا وإقبالًا على كتاباته.
قبل هذا الكتاب كان جلال أمين ١٩٣٥- ٢٠١٨ معروفًا بأنه أكاديمى متخصص فى الاقتصاد اهتمامه الأساسى هو دراسة تأثير الاقتصاد على حركة المجتمع، وكانت له مؤلفات مهمة لكنها غير منتشرة مثل «فلسفة علم الاقتصاد.. بحث فى تحيزات الاقتصاديين وفى الأسس غير العلمية لعلم الاقتصاد» و«كشف الأقنعة عن نظريات التنمية الاقتصادية» و«عولمة القهر.. الولايات المتحدة والعرب والمسلمون قبل وبعد أحداث سبتمبر» و«الدولة الرخوة فى مصر».
بعد «ماذا حدث للمصريين؟» أخذ جلال أمين خطًا مختلفًا فى كتاباته، جعلها أبسط وأسهل وأقل تعقيدًا، بدأ فى رصد الظواهر الاجتماعية والسياسية والدينية والثقافية التى يعيشها المجتمع المصرى، وأصبح منهجه هو الدراسة التطورية للظواهر المختلفة، بل أصبح يستخدم نفس صيغة السؤال «ماذا حدث؟» فأصدر كتابه «ماذا حدث للثقافة المصرية؟»، وبعد ثورة يناير أصدر «ماذا حدث للثورة المصرية؟»، وحتى فى كتبه «عصر الجماهير الغفيرة» و«عصر التشهير بالعرب والمسلمين» و«التنوير الزائف» كان يلجأ إلى نفس المنهج دون أن يفلته من بين يديه.
لدينا هنا تفسير تجارى بحت، فالكاتب الكبير اختبر هذا النوع من الكتابة، فوجد أنه الأكثر انتشارًا ورواجًا وإقبالًا من القراء عليه، فبدأ اللعب فى المضمون، وهو ما شجعه عليه الناشرون الذين تعاملوا معه على أنه أصبح مثل الدجاجة التى تبيض لهم ذهبًا، فخرج من مساحة الكتابة الأكاديمية الرصينة إلى ساحة الكتابة الشعبية التى تغازل القراء وتمنحهم ما يريدون، وتجعلهم مقبلين وغير مترددين عن شراء كتب جلال، الذى ظل يعانى من أزمة أن شقيقه السفير حسين أحمد أمين أكثر شهرة وتأثيرًا ورواجًا عند القراء منه، وهو ما لم يفصح عنه جلال، وإن كنت سمعته من حسين نفسه فى بيته بمصر الجديدة عندما كنت أُجرى حوارًا معه فى نهايات العام ١٩٩٩.
الكتاب سطو أدبى وثقافى بشكل كامل على فكرة ملف لمجلة «الهلال»
يقترب عمر كتاب جلال أمين من ٢٨ عامًا، فقد صدر فى نهايات العام ١٩٩٧.
وبعد كل هذه السنين يمكننا أن نضع أيدينا على ما يتعلق بهذا الكتاب وبصاحبه، ليس باعتباره فتحًا فى الكتابات الاجتماعية الشعبية، ولكن باعتباره يمثل سطوًا أدبيًا وثقافيًا بشكل كامل.
فى مقدمة الكتاب يعترف الدكتور جلال أمين بأنه فى العام ١٩٩٦ فتحت مجلة الهلال ملفًا بعنوان «ماذا حدث للمصريين؟» طلبت فيه من عدد من كتّابها أن يدلى كل منهم بدلوه فى الإجابة عن هذا السؤال من أى زاوية يشاء، إذ قدرت المجلة أن مصر وهى على أعتاب القرن الواحد والعشرين، يجدر بكتابها أن يتأملوا ما طرأ على الحياة الاجتماعية فى مصر من تغيرات، وأن يحاسب المصريون أنفسهم على ما ارتكبوه من أخطاء، على أمل أن يبدأوا صفحة جديدة فى القرن الجديد يحققون فيها ما فشلوا فى تحقيقه من قبل.
نهايات 1997 أصدر جلال أمين كتابه بعد عام فقط من ملف مجلة «الهلال»
يحكى جلال ما يخصه فى ملف «الهلال»، يقول: رحبت بالمساهمة فى النقاش، واخترت أن أكتب عما طرأ على مركز المرأة فى مصر خلال الخمسين عامًا الماضية، من خلال ما حدث من تطورات لمستها من خبرتى أنا الشخصية، فقارنت بين مركز ثلاثة أجيال من النساء فى أسرتى: جيل أمى وجيل أختى وجيل ابنتى، وحاولت أن أفهم الخاص من خلال العام، والعام من خلال الخاص، إذ مزجت بين تجربة أسرتى الخاصة وتجربة المجتمع المصرى بصفة عامة، ووجدتهما كما توقعت متطابقتين، وقد شجعنى ذلك، كما شجعتنى أهمية الموضوع على أن أتناول ناحية بعد أخرى من المجتمع المصرى فأتتبع تطوره فى الخمسين عامًا الماضية، هى عمر وعيى وإدراكى لما يحدث حولى، مازجًا بين تجاربى الشخصية وما أعرفه من دراستى الأكاديمية للاقتصاد والمجتمع المصرى، وقد خرجت من ذلك بحصيلة من المقالات وجدتها جديرة بالجمع والنشر فى مجلد واحد.
بدأ جلال أمين نشر مقالاته فى مجلة الهلال خلال العامين ١٩٩٦/ ١٩٩٧، وكان أن قرر وقتها الكاتب الكبير مصطفى نبيل رئيس تحرير الهلال أن يجمع هذه المقالات فى كتاب ويصدرها فى سلسلة «كتاب الهلال»، وقد أعيد طبع الكتاب أكثر من مرة، وأقبلت أكثر من دار نشر أخرى على طباعته طمعًا فى الرواج الذى صادفه فى السوق المصرية والسوق العربية على السواء.
وقد تعترض طريقى بالقول إن جلال كان أمينًا مع نفسه ومع قرائه، فهو لم يدع أن الفكرة فكرته، بل هى من أفكار المسئولين عن مجلة الهلال، فهم الذين فكروا فى إعداد ملف عنها، وأن مصطفى نبيل رئيس التحرير هو من اقترح على كتّاب الهلال أن يكتبوا تحت هذا العنوان، وإن ترك لهم حرية الاختيار، وأن جلال استجاب للفكرة، واختار ما يخصه أو ما يمكنه الكتابة فيه، فأين السطو الثقافى الذى تشير إليه؟
أخذ من المقالات المنشورة فى الملف لفاروق خورشيد وألفريد فرج إطارًا عامًا لأفكار كتابه
للإجابة عن هذا السؤال يمكننا أن نعود إلى يوليو ١٩٩٦، وهو الشهر الذى صدر فيه عدد مجلة «الهلال» الذى يحمل عنوان «ماذا حدث للمصريين؟» وعليه صورتان لسيدتين تعبران عن التطور الذى شهده المجتمع المصرى، مع ملاحظة أن ملف «الهلال» كان يرصد التغير الذى حدث فى المجتمع المصرى خلال أربعين عامًا من ١٩٥٦ إلى ١٩٩٦، وهو ما التزم به جلال فى الملف، لكنه عندما أصدر كتابه اختار أن تزيد الفترة التى يدرسها عشر سنوات، فتصبح من ١٩٤٥ إلى ١٩٩٥.
قد لا يكون هذا التغيير جوهريًا إلى درجة كبيرة، فقد رأى جلال أن الفترة التى حددتها «الهلال» قد لا تكون كافية أو مناسبة لدراسة التغيرات فى المجتمع المصرى، فعدلها طبقًا لرؤيته، وهو حر فى ذلك تمامًا لأغراضه البحثية، لكنه على الأقل لم يشر إلى هذا التغيير، فقد كان ملف الهلال منشئًا للفكرة، أما هو فقد عالج الفكرة التى لم تكن له بما يناسبها.
عندما نفتح عدد «الهلال» سنجد أن جلال أمين لم يكن سوى واحد فقط من مجموعة من الكتاب، ساهموا فى الكتابة عبر الملف الذى بدأ من صفحة ٦٢ وانتهى عند الصفحة ١٠١.
بدأ الملف بمقال لفاروق خورشيد عنوانه «متغيرات فى الشخصية المصرية» وفى تقديمه لرؤيته ينسف أن تكون الفكرة جديدة من الأساس.
يقول خورشيد: يرصد الدارسون وخاصة رجال الاجتماع منهم كما يرصد المبدعون وخاصة القصاصين والروائيين والمسرحيين منهم، بعض الظواهر الفاعلة والمؤثرة التى أحدثت تغييرات واضحة فى شخصية الإنسان المصرى، وهو موضع رصد ودراسة الأولين وهدف التعبير الأدبى عند الآخرين، وليست المسألة عند الأولين والآخرين مجرد رغبة أو هواية تدفعهم إلى تجسيم ما ليس موجودًا، أو ادعاء ما هو وهم وخيال، وإنما المسألة عندهم حقيقة واضحة تحتاج إلى الدرس، وتحتاج إلى الفهم ليصدق البحث ويصدق التعبير الفنى.
ويرصد خورشيد تغيرًا مهمًا من التغيرات التى لحقت بمصر.
يقول: من الظواهر الجديدة كثرة الحجاب الغالبة فى دوائر الحكومة ومصالحها ومدارسها، بل كثرة وانتشار الحجاب فى الشارع المصرى ككل، ونرصد فى مقابله كثرة الجرائم اللا أخلاقية القائمة أساسًا على الجنس، والمحطمة فعلًا للقيم، كجرائم الأولاد ضد الآباء، وجرائم الزوجات ضد الأزواج والأبناء معًا، ثم انتشار المخدرات فى كل الأوساط بلا تفرقة، ثم انتشار ظاهرة الرشوة والإهمال بطريقة لافتة وظاهرة السرقة ابتداء من جرائم سرقة البنوك إلى جرائم سرقة الأفراد، إلى جرائم سرقة القيم وتسليك الأمور والغش فى الامتحانات، وتضخم مشكلة الدروس الخصوصية على كل مستويات التعليم رغم جهود وزارة التعليم وقراراتها الحاسمة، وانتشار الغش التجارى والاستهتار بحياة المواطنين وصحتهم فى السلع المعروضة والمتاحة لهم دون أدنى إحساس بالمسئولية الجماعية أو بالمسئولية الفردية فى التعامل مع القيم الاجتماعية أو القيم الدينية نفسها.
ويضيف خورشيد: كل هذا يشى رغم سيادة النبرة الدينية السائدة، بوجود نوع من النفاق وعدم المصداقية فى الفهم والتطبيق، ومن هذه المظاهر تصور أصحاب التطرف الإسلامى أن الإسلام يتعارض مع الانتماء الوطنى، أو الانتماء المصرى، بمعنى أدق فمصر بلد الجاهلية منذ وجودها الفرعونى القديم، وحتى تركيبتها الإسلامية القبطية المعاصرة وحتى نزوعها إلى الأخذ بكل أساليب التقدم الثقافى والعلمى والفكرى والفلسفى والأدبى، وكأن الحضارة والعراقة جريمة، وكأن الإبداع فكرًا وعلمًا وصناعة ووجودًا حرام، وكأن الالتزام بالقيم والمعانى خطيئة، فأصبحت رموزها الحضارية مستهدفة، وأصبحت رموزها التاريخية مستهدفة، وأصبحت رموزها الفكرية مستهدفة.
ويكتب ألفريد فرج «بين الأمس واليوم» ويذهب إلى أنه منذ نصف قرن كان تعداد المصريين عشرين مليون مواطن، وهو ثلث الرقم الحالى، وكان يسكن القاهرة مليونان من المواطنين، انظر إلى صورة القاهرة فى أفلام السينما التى جرى تصويرها فى الأربعينيات، مواصلات سهلة والركاب جالسون على المقاعد فى الأتوبيس والسيارات فى الشوارع قليلة والأشجار كثيرة.
ويقارن فرج بين الأمس واليوم بقوله: عدد الأشجار والمساحات الخضراء بالنسبة لعدد السكان تضاءل اليوم بشكل يهدد الصحة العامة ويشوه الجمال الذى عرفت به القاهرة، وزحمة المرور والضوضاء وعادم السيارات واختناقات الشوارع تصيب الناس بأمراض الصدر والقلب والأعصاب والأمراض النفسية وتكسب عامة الناس ميلًا للخشونة فى التعامل مع الآخرين، يصل فى حده الأقصى إلى العنف الدموى.
وتحت عنوان فرعى «استرضاء رئيس العمل» يكتب ألفريد فرج: هذا النظام الذى لم نعرفه بالأمس جعل الموظف أسبق إلى استرضاء رئيس العمل قبل السعى إلى إرضاء الجمهور أو غيره، وانتشرت بذلك فى الوظائف والأعمال آفة الطاعة العمياء، وهى عمياء لأنها طاعة بعيون مغمضة، وبغض النظر حتى عن المصلحة العامة والرأى السليم أو راحة المواطنين أو حسن سير العمل.
ويضيف فرج: وقد انتشر هذا العمى بالخوف وبالأخذ بالأحوط، ثم بالاعتياد وبالعدوى تحت وطأة الغلاء حتى تدهور الأداء وانتشر النفاق والملق والمسايرة ووضع الحمار مطرح ما يريد صاحبه وهو غالبًا رئيس العمل.
وعن الفن يقول ألفريد: وقد تغير الفن مع الأخلاق، فلم يعد الفن يلتزم بنصرة الفضيلة والبراءة والوفاء كما كان بالأمس، بل اجترأ بدعوى الواقعية وبادعاءات أخرى باطلة، وأمعن فى تصوير قوة الشر إزاء الخير، والاستهانة بالحب والوفاء، بدعوى الواقعية، ولأن «الحياة كده» يكرر الفن صور التدهور الخلقى.
ويختم ألفريد فرج مقاله أو مساهمته فى ملف «ماذا حدث للمصريين؟» بقوله: هذا حال وبالأمس حال، فأيهما أفضل؟ أقول لك الحقيقة إن لكل عمر جماله ومتعته، ولكل عصر مباهجه ومشاكله، والذكى والأريب هو الذى لا يبالى بالأمس واليوم ويتطلع إلى الغد، فكما يقول صلاح جاهين: بكرة أحسن من النهاردة، فربما، وهذا مناط الأمل.
ويكتب مصطفى الحسينى بعنوان «نحن المصريون المحدثيون»: نحن الذين خرمنا التعريفة، ونحن الذين دهنا الهوا دوكو، ونحن أيضًا من يشار إليهم بالبنان «المصريين أهمه»، ومنا يخرج من وقت لآخر فهد ينقذ طفلًا من الغرق، ويرد عدوانًا عن امرأة، ونحن أيضًا وأيضًا أصحاب الهتاف المنغم: بص شوف فلان بيعمل إيه.
ويضيف: نحن المصريين المحدثين معجبون بأنفسنا دون مبرر أو سبب، فغنى عن القول أنه لا عبقرية هناك فى خرم التعريفة وإن الهواء لا يدهن دوكو أو غيره رغم أنه أصبح مشبعًا بالسخام، وأن المصريين الذين يشار إليهم بالبنان يمثلهم عادة لاعب كرة أصاب هدفًا، ورغم أن الجمهور الذى يتباهى بنفسه على هذا النحو وعلى حساب اللاعب يعرف أن الإنجاز الكروى المصرى إن كان هناك ما يستحق هذه التسمية إنجاز ضعيف، وأن الشهامة والمروءة هى من عموم الأخلاق، فلا تستحق الذكر فضلًا عن الإشادة، وأن الذى يطلب إلينا أن نبص لنشوف فلان بيعمل إيه، هو فى الغالب أيضًا لاعب كرة سدد ضربة جزاء.
ويختم الحسينى مقاله بقوله: نحن المصريين المحدثين إن أردنا لأنفسنا ولمستقبلنا صلاحًا علينا أن نبدأ بالكف عن الإعجاب بأنفسنا، وبالكف عن التعلق والتباهى بتخيلنا لأنفسنا، وعلينا أن نتخلى عن هذا التعلق الغريب بماضٍ سحيق- زمن الفراعنة- ونجعله بديلًا للحاضر والمستقبل معًا، وعلينا أن نلاحظ أن ما يجرى من حولنا أن الأمم القوية والغنية والمتقدمة لا تتحدث عن نفسها، لأن الآخرين يتحدثون عنها، وبالمناسبة: هل لنا أن نعرف ونعترف بأن الذين يتحدثون عن الحضارة الفرعونية لا يتحدثون عنا نحن المصريين المحدثين.
ختمت مجلة «الهلال» ملفها بمقال لعالم الاجتماع الكبير- رغم أنه ليس مشهورًا ولا معروفًا بما يكفى- على فهمى، والذى وضع له عنوانًا جامعًا «بانوراما التغيرات الاجتماعية فى مصر الحديثة» وقدم له بقوله: لعل من المتداول الشائع أن المجتمع المصرى قد شهد تغيرات فارقة خطيرة منذ مطالع القرن التاسع عشر، ومن الشائع أيضًا أن هذه التغيرات العميقة قد حدثت نتيجة للاحتكاك الحضارى بالغرب من خلال الحملة الفرنسية على مصر ١٧٩٨- ١٨٠١، وأن سياسات التحديث التى تبناها العاهل محمد على قد أسهمت فى بلورة ودفع التغيرات التى كانت إرهاصاتها قد بدأت من قبل، بيد أن ثمة معطيات حديثة تشير إلى أن مصر قد شهدت بعض المحاولات التحديثية المبشرة، وكذلك بعض الانفتاح على الغرب، وذلك منذ النصف الثانى من القرن الثامن عشر، تشهد بذلك بعض الوثائق المعتمدة وكتابات أمثال «الزبيدى» و«بيتر جران» مؤخرًا، وأيًا كانت العوامل المباشرة والفاعلة فى تحديث وتطوير المجتمع المصرى، فإن واقعًا مغايرًا للماضى قد حدث فى الحياة الاجتماعية والثقافية والسياسية والاقتصادية فى مصر.
ويجمل على فهمى الموضوعات التى تتناول التغيرات التى طرأت عليها فى مصر خلال نصف قرن فى الأسرة والأبنية المجتمعية والثقافية وبخاصة طرائق الحياة اليومية والقيم والعادات والتقاليد والأطر التعليمية والأطر الثقافية والأطر السياسية والدستورية والقانونية.
أين نجد جلال أمين فى هذا الملف؟
مقال جلال الذى كان عنوانه «ثلاثة أجيال من النساء المصريات» جاء فى الترتيب الثانى فى نشر المقالات، وكان هو الوحيد الذى أشار إلى أن الملف من فكرة الهلال، ولم يكن فى حاجة إلى ذلك، فطالما أن مجموعة من الكتاب يكتبون تحت عنوان واحد ويضم مقالاتهم ملف واحد، فالفكرة حتمًا للمجلة وليست من بنات أفكار أحد كتّاب الملف.
قدم جلال لمقاله بقوله: عندما طلبت منى مجلة الهلال أن أستعرض جانبًا من جوانب التطور الذى طرأ على حياة المصريين، عبر فترة طويلة نسبيًا من الزمن، خطر لى أن أتناول التطور الذى طرأ على مركز المرأة بشرط ألا أقول إلا ما رأيته بعينى، وخبرته خبرة شخصية ومباشرة، ومن ثم بدا لى أن أنسب طريقة لتناول الموضوع هى أن أقارن بين حال أمى كما عرفته عندما كنت طفلًا صغيرًا، وبين حال ابنتى بعد أن تزوجت وأصبح لها طفل صغير، ولكنى ألزمت نفسى باستبعاد كل ما هو غريب واستثنائى وأن أقتصر على ما أعتقد أنه عام وشائع، ومن ثم فلن أقول عن أمى إلا ما أعتقد أنه كان مشتركًا بينها وبين معظم نساء جيلها، ولن أقول عن ابنتى إلا ما أرى أنه يمثل الاتجاه الشائع الآن فيمن كن فى مثل سنها ومثل طبقتها الاجتماعية.
عندما أصدر جلال أمين الكتاب وأعاد نشر مقاله ضمن مقالاته الأخرى أسقط الإشارة إلى مجلة الهلال، وبدأ المقال مباشرة بقوله: عندما خطر لى أن أستعرض التطور الذى طرأ على مركز المرأة فى مصر خلال الخمسين عامًا الماضية، فضلت ألا أذكر إلا ما رأيته بعينى، وخبرته خبرة شخصية ومباشرة.
هنا ينسب جلال الفكرة لنفسه وأنها خطرت له عندما فكر فى استعراض التطور الذى طرأ على مركز المرأة المصرية، لكن قد يكون ذلك بسبب أنه أشار فى المقدمة إلى أن الفكرة كلها من أفكار مجلة الهلال، وعليه فلا داعى للتكرار، وهو سبب منطقى، لكن وجبت الإشارة إليه على كل حال.
فى مقدمة الكتاب أشار جلال إلى أنه سيقارن ما طرأ على مركز المرأة المصرية من خلال استعراضه لثلاثة أجيال من النساء فى عائلته أمه وأخته وابنته، وفى المقال أسقط أخته فقارن بين أمه وابنته دون أن يبرر لنا ذلك، وإذا سألت ولماذا لم يضع زوجته فى المقارنة؟ ستعرف أنه كان متزوجًا من إنجليزية، بما يعنى أنها لم تخضع لتغيرات المجتمع المصرى، وساعتها ستبتلع سؤالك ولن تعود إليه.
ما الذى يجعلنى أذهب إلى أن ما فعله جلال أمين سطو على جهد آخرين؟
ضع الفكرة جانبًا، فلا يمكننا أن نتعامل معها على أنها فكرة جديدة، فقد سبق إليها آخرون من خلال البحوث والدراسات والأعمال الأدبية، وكونها فكرة «الهلال» أو فكرة أحد من كتاب الملف، فالأمر ليس أساسيًا، ولكن ما لفت انتباهى أن جلال أخذ من المقالات المنشورة فى الملف وكتبها فاروق خورشيد وألفريد فرج ومصطفى الحسينى وعلى فهمى إطارًا عامًا لأفكار كتابه.
ما رأيك أن نستعرض عناوين مقالات جلال أمين التى ضمنها فى كتابه؟
فى فهرس الكتاب سنجد أن العناوين تتوالى على النحو التالى: الحراك الاجتماعى- الطبقة الوسطى- التعصب الدينى- التفسير اللا عقلانى للدين- التغريب- أسياد وخدم- الوظيفة الحكومية- مركز المرأة- اللغة العربية- الهجرة- السيارة الخاصة- أفراح الأنجال- التصييف- الازدواجية الاجتماعية- الموسيقى والغناء- السينما- الاقتصاديون المصريون- مصر وحضارة السوق.
من ظاهر العناوين ومن خلال قراءتنا لمقالات شركاء جلال أمين فى ملف «الهلال» سنعرف أنه أخذ من أفكارهم منطلقًا لكتاباته التى انفرد بنشرها بعد ذلك فى أعداد «الهلال» التالية، وسيتعمق الأمر لديك عندما تقرأ المقالات كما كتبها أصحابها، فهو لم يخرج عن الأفكار التى ضمنوها فى مقالاتهم.
فعل جلال أمين ذلك دون أن يشير مجرد إشارة إلى من شاركوه فى الملف ولو من باب الأدب مع الآخرين، فما بالنا وجلال قام بنحتهم نحتًا كاملًا، وأعاد إنتاج ما كتبوه بأسلوبه وطريقته التى اختار أن تكون ذاتية وشخصية، وهو ما لا يعفيه من السطو على أفكار الآخرين.
لقد حاول جلال أمين أن يكون مختلفًا بعض الشىء.
يشير هو إلى ذلك فى مقدمة كتابه عندما يقول: هذا الخيط المتصل الذى وجدته يربط بين معظم هذه المقالات التى كتبتها لمجلة الهلال خلال العامين ٩٦/ ١٩٩٧ ذكرنى بمقالات قليلة أخرى كنت قد كتبتها من قبل عن ظاهرة الحراك الاجتماعى فى مصر فى نصف القرن الماضى، فرأيت أنه من المناسب أن أضم هذه إلى تلك، أملًا فى أن يؤدى هذا الضم إلى رسم صورة أوضح وأدق وأشمل من مقالات الهلال وحدها.
ويعزز جلال ما قرره من ضم مقالات الحراك الاجتماعى إلى مقالات «ماذا حدث للمصريين؟» بقوله: على أنى كلما كتبت مقالًا جديدًا فى هذه السلسلة استرعى انتباهى بشدة ما أجده من أثر عميق لما يسميه علماء الاجتماع الحراك الاجتماعى على كل جانب تقريبًا تناولته فى هذه المقالات من جوانب المجتمع المصرى، وكأن هذا العامل- الحراك الاجتماعى- هو العامل الأساسى الذى حكم تطور المجتمع المصرى خلال نصف القرن، والحقيقة أنى لم أتعجب من هذا، فالحراك الاجتماعى أى ما يطرأ على المركز النسبى للطبقات والشرائح الاجتماعية المختلفة صعودًا وهبوطًا ظاهرة شديدة الصلة ببعض من أقوى النوازع الاجتماعية، كالرغبة فى اكتساب احترام وتقدير الآخرين، أو الرغبة فى التفوق على الآخرين، أو الرغبة فى إشباع الميل إلى السيطرة، أو الخوف من فقدان كل ذلك، فظاهرة الحراك الاجتماعى قد يكون لها تفسير فى تطور المجتمعات، لما لهذه النوازع الطبيعية من أهمية فى تفسير السلوك الفردى، أضف إلى ذلك أن فترة الخمسين عامًا الماضية شهدت تحولًا فى معدل الحراك الاجتماعى لعله أعلى مما شهدته مصر طوال تاريخها الحديث كله على الأقل.
المفارقة أن مقالات جلال القديمة عن الحراك الاجتماعى رغم أنه كتبها قبل ملف «ماذا حدث للمصريين؟» إلا أنها كانت لها ظلال فى كتابات الآخرين، ولم يتذكرها جلال- رغم أنه صاحبها- إلا بعد أن وجد نفسه وجهًا لوجه أمام الملف الذى صاغت مجلة الهلال فكرته وساهم فيه آخرون كان الدكتور جلال مجرد كاتب من بينهم.
لا أنكر على الدكتور جلال أمين الجهد الذى بذله فى مقالاته بالطبع.
ولا يمكن أن ننكر عليه إخلاصه للفكرة وتبنيها والعمل على تعميقها وترسيخها حتى أصبحت اتجاهًا غلب على معظم كتاباته بعد ذلك.
لكننى فى الوقت نفسه لا أستطيع تجاهل أصل الفكرة ولا من شاركوا فى نسجها فى طورها الأول... وهذا ليس لوجه شركاء جلال أمين فى «ماذا حدث للمصريين؟» ولكن لوجه الحقيقة والتاريخ فقط.