الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

ضحايا «البحث عن الذات».. تحقيق صحفى عابر للوقائع والدراسات والمذكرات الشخصية

السادات
السادات

- د. سمير سرحان أكد أن الذى كتب «البحث عن الذات» بالعربية هو د. رشاد رشدى وحده والذى قام بترجمته إلى الإنجليزية هو د. محمد عنانى وحده تحت إشراف د. رشاد

- رشاد رشدى أقنع السادات بكتابة سيرة حياته بالإنجليزية وكان وقتها يملى ذكرياته على شريط مسجل أو شرائط كثيرة علها تصبح مادة لكتابة تلك السيرة باللغة العربية

- حمل نبيل راغب بعضًا من كتب رشاد رشدى إلى السادات موقعة بإهداء شخصى منه إليه ومشفوعة بطلب لقاء بينهما

- تواصل رشاد رشدى مع أحمد يحيى وقال له: مبروك لقد وقع اختيار رئيس الجمهورية عليك لنشر مذكراته باللغة العربية.. وتم استدعاؤه لمقابلة السادات وتوقيع التعاقد معه على نشر المذكرات

- كان قد تحدد أول أبريل 1978 موعدًا لصدور الكتاب فى القاهرة باللغة العربية وفى نيويورك باللغة الإنجليزية فى وقت واحد

- تواصل الناشر أحمد يحيى مع جميل عارف وطلب منه القيام بمهمة إخراج كتاب الرئيس وأخبره بأنه تكليف رسمى من الرئاسة

- كان مفروضًا أن تجرى محاسبة السادات عن ضريبة المهن الحرة كمؤلف عما حصل عليه من نصيبه كحقوق تأليف

فى العام 1978 صدرت مذكرات الرئيس السادات التى اختار لها اسم «البحث عن الذات». 

ورغم أن الرئيس السادات عمل بالصحافة، وكان يتحدث كثيرًا عن فهمه لعالم الصحافة والصحفيين، إلا أنه لم يكتب مذكراته بنفسه.. ترك لآخرين يفعلون ذلك. 

فى عالم كتابة المذكرات يحتل «الكاتب الشبح» مساحة مهمة، فهو الكاتب الذى يقوم بتسجيل المذكرات لصاحبها، ثم يقوم بإعادة صياغتها من جديد، صحيح أن هذا لم يحدث كثيرًا فى حياتنا الثقافية والفكرية، لكن جرى مع رؤساء مصر جميعًا ودون استثناء. 

فقد كتب عادل حمودة مذكرات محمد نجيب «كنت رئيسًا لمصر». 

وكتب محمد حسنين هيكل كتاب «فلسفة الثورة» للرئيس جمال عبدالناصر. 

وكتب محمد الشناوى مذكرات الرئيس مبارك التى صدرت عن دار نهضة مصر بعنوان «كلمة السر».

أما السادات فقد ترددت شائعات كثيرة عمن كتبوا له كتاب «البحث عن الذات». 

فمرة يقولون إن الكاتب الكبير أنيس منصور هو من فعلها. 

ومرة ينسبونها لموسى صبرى. 

وهناك من وضع أحمد بهاء الدين فى جملة مفيدة فيما يتعلق بمذكرات الرئيس. 

لكن الواقع يقول إن أحدًا من هؤلاء لم يقترب، اللهم إلا أنيس منصور الذى ظهر على صفحة «البحث عن الذات» فى مرحلة بعينها ثم اختفى تمامًا، بل إنه لم يكن على علم بالإعداد للمذكرات لا فى نسختها الإنجليزية ولا فى نسختها العربية التى صدرت عن دار نشر «المكتب المصرى الحديث». 

فى هذا التحقيق محاولة بحث عما جرى خلف الكواليس لإعداد وإصدار الكتاب الذى لا يزال يحظى باهتمام كبير، وهو الكتاب الذى اعتبره بعض ممن شاركوا فى إنتاجه لعنة عليهم، للدرجة التى يمكننا اعتبار أن هناك ضحايا لهذا الكتاب.

ما رأيكم أن نبدأ بحوار مع الدكتور سمير سرحان رئيس الهيئة المصرية العامة للكتاب الراحل، أجراه معه الكاتب الصحفى مصطفى عبدالله ونشر فى مجلة «العربى الكويتية» عدد يناير ٢٠٠٧؟ 

فى هذا الحوار سأل مصطفى عبدالله سرحان: بعد طى صفحة الحقبة الساداتية، هل أسهمت مع الدكتور رشاد رشدى فى كتاب «البحث عن الذات»؟ 

رد سمير: ياسيدى.. أقسم لك بأننى لم أشترك فى تأليف هذا الكتاب ولا فى ترجمته، فالذى كتب «البحث عن الذات» بالعربية هو الدكتور رشاد رشدى وحده، والذى قام بترجمته إلى الإنجليزية هو الدكتور محمد عنانى وحده تحت إشراف الدكتور رشاد رشدى، وأنا لم أشترك فى هذا العمل على الإطلاق.. ولو طلب منى لاشتركت.

صراحة سمير سرحان ووضوحه مع نفسه دفعا مصطفى عبدالله ليسأله: كيف جاء اقتراب رشاد رشدى من السادات إلى أن أصبح مستشاره الثقافى وأسند إليه مهمة عمل هذا الكتاب الذى يحمل اسمه كرئيس لمصر؟

بدأ سمير سرحان الذى كان واحدًا من تلاميذ رشاد رشدى فى قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة فى رسم ملامح القصة. 

قال: اقترح رشاد رشدى على الرئيس السادات أن يكتب هو كتابًا عن الرئيس، وبعد أن تأمل السادات ذلك غيّر الفكرة وقال: أنا الذى سأكتب هذا الكتاب عن نفسى وسأنشره فى الخارج بعدة لغات ويصدر عن كبريات دور النشر العالمية، وكلف رشاد رشدى بأن يجلس معه ليتحدث إليه خلال جلسات طويلة فى بيته بالجيزة، أو فى استراحة القناطر ليحكى له عن حياته، ويقوم الدكتور رشاد بتفريغ هذه المادة وصياغتها فى فصول تصبح بعد ذلك هى السيرة الذاتية للسادات. 

لكن كيف تعرف رشاد رشدى على الرئيس السادات؟ 

كيف وصل الأستاذ الأكاديمى الذى ظل يرأس قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة ما يزيد على عشرين عامًا، رفض خلالها أن يتولى عمادة الكلية مفضلًا عليها أن يبقى مع تلاميذه، إلى الرئيس السادات؟ 

يجيبنا على هذا السؤال تلميذ آخر من تلاميذ الدكتور رشاد رشدى وهو الدكتور نبيل راغب الذى تعلم على يديه فى كلية الآداب، لكنه ترك جامعة القاهرة وعمل بالتدريس فى كلية الألسن بجامعة عين شمس. 

فى العام ١٩٩٣ أصدر الدكتور نبيل راغب كتابه «رشاد رشدى» ضمن سلسلة نقاد الأدب عن الهيئة العامة للكتاب. 

فى هذا الكتاب يكشف الدكتور نبيل راغب كيف قام بتقديم أستاذه الدكتور رشاد رشدى إلى الرئيس السادات. 

ففى العام ١٩٧٤ تم انتداب الدكتور نبيل راغب من عمله كأستاذ فى كلية الألسن بجامعة عين شمس للعمل بمكتب رئيس الجمهورية مشرفًا على شئونه الصحفية والإعلامية والثقافية، وعندما أصدر راغب كتابه «أنور السادات رائدًا للتأصيل الفكرى» قربه السادات منه، وأصبحت تجمعهما جلسات مطولة، وكتب الدكتور رشاد رشدى عرضًا نقديًا تفصيليًا لكتاب راغب.. قرأه السادات وأثنى عليه. 

خلال الجلسات التى جمعت السادات بنبيل راغب تحدث عن أستاذه رشاد رشدى الذى تعلم على يديه فى قسم اللغة الإنجليزية بآداب القاهرة، بل أشار إلى الرئيس أن هناك أوجه شبه كثيرة بينهما فى الفكر والرؤية والذوق. 

حمل نبيل راغب بعضًا من كتب رشاد رشدى إلى الرئيس السادات موقعة بإهداء شخصى منه إليه، ومشفوعة بطلب لقاء شخصى يتم بينهما. 

يقول راغب: تم اللقاء بين اثنين من أحب الرجال إلى قلبى وأقربهم إلى فكرى، وسرعان ما تحول اللقاء إلى صداقة وطيدة تمخضت عن تعيين رشاد رشدى مستشارًا لرئيس الجمهورية لشئون الكتاب والمسرح والموسيقى، بالإضافة إلى رئاسته لأكاديمية الفنون ورئاسة تحرير مجلة «الجديد» التى كانت تصدر عن هيئة الكتاب. 

اقترب رشاد رشدى من السادات إذن. 

لكن كيف أقنعه بأن يكتب سيرته الذاتية رغم أن هناك كثيرين من الكتاب حوله، ومؤكد أنهم أقدر منه على صياغة المذكرات؟ 

هنا يمكننا أن نستعين بمذكرات الدكتور محمد عنانى أستاذ الأدب الإنجليزى بجامعة القاهرة، وهو الذى قام بترجمة الكتاب إلى اللغة الإنجليزية. 

فى الجزء الثالث من المذكرات الذى حمل عنوان «واحات مصرية» حكى محمد عنانى تفاصيل ما جرى. 

يحكى محمد عنانى أن رشاد رشدى أقنع السادات بكتابة سيرة حياته بالإنجليزية، وكان وقتها يملى ذكرياته على شريط مسجل أو شرائط كثيرة علها تصبح مادة لكتابة تلك السيرة باللغة العربية، وكلف أحد كبار الكتاب وهو إحسان عبدالقدوس أولًا بإعداد نموذج مستمد من تلك الذكريات التى كان يمليها بحضور نبيل راغب، ويبدو أنها لم تعجبه، ثم كلف أنيس منصور بكتابتها، وكان يرتاح إليه، ورغم أن أنيس ذو أسلوب ساحر جذاب، إلا أن السادات لم يرتح له أيضًا. 

فهم عنانى من حديث الدكتور رشاد رشدى أنه كان يتابع ذلك كله، ويتحين الفرصة لإقناع السادات بكتابة الكتاب بالإنجليزية لا بالعربية، ومن ثم حصل على الشرائط، واتفق مع الرئيس على إملاء المزيد منها. 

فى الشهور الأولى من العام ١٩٧٦ كتب رشدى الفصل الأول بالعربية، وحاول الاستعانة ببعض أساتذة اللغة الإنجليزية لترجمته، ولكن الناشر الأمريكى لم يستسغ الترجمة، وكان أن استعان بمحمد عنانى. 

يقول عنانى: لم يشأ رشاد رشدى أن يكون وحده الحكم على الترجمة، فدعا الناشر الأمريكى للحضور معنا، وعندما وصل وجدنا نعمل فقرر أن يستمع بنفسه إلى الترجمة فى حركة مسرحية عجيبة، بررها بأنه لم يشأ مقاطعتنا، ولكن الحقيقة هى أنه لم يكن يريد إحراج أحد إذا رفض الترجمة، ويبدو أن الناشر قد اقتنع بالنص الذى سمعه وأبدى موافقته عليه، وانصرف سعيدًا، فكان ذلك مصدر سعادة بالغة لرشاد رشدى. 

ومع بداية شهر أكتوبر من العام ١٩٧٦ كان عنانى قد قطع شوطًا لا بأس به من ترجمة كتاب رشاد رشدى- نحو ثلاثة فصول- أرسلها له فى الحقيبة الدبلوماسية من مكتب أسامة الباز الذى كان مستشارًا سياسيًا للرئيس السادات. 

كان الدكتور رشاد رشدى يتعجل الرئيس السادات للانتهاء من تسجيل بقية الفصول، فدعاه الرئيس إلى زيارته فى الإسكندرية للانتهاء من الفصول الأخيرة، فنزل فى فندق فلسطين، وكان يزوره فى استراحة المعمورة حتى تكتمل الشرائط التى يسجلها الرئيس بصوته، ثم تتولى السكرتارية الخاصة تفريغها، وبعد ذلك يقوم رشاد رشدى بتحرير النص وإعطائه لعنانى لترجمته، وكانت زوجته الدكتورة نهاد صليحة تكتبها على الآلة الكاتبة، فإذا صادفت شيئًا لا يروقها نبهته حتى يعدله أو يصححه قبل إرساله إلى رشاد رشدى مرة أخرى.

انتهى الكتاب كتابة وترجمة فى أكتوبر ١٩٧٧، وكانت خطابات الناشر الأمريكى تعرب عن السعادة بالمادة المرسلة، ثم تحدد موعد سفر رشاد رشدى إلى أمريكا للإشراف على الطباعة. 

قبل السفر كان رشدى وعنانى قد تسلما نص الكتاب بعد ملاحظات الرئيس السادات والتعديلات التى أدخلها بخط يده، وكان يستخدم الحبر الأخضر فيما يضيفه إلى النص، وإن لم يحذف شيئًا. 

عكف عنانى ورشدى على مضاهاة النصين العربى والإنجليزى حتى يتأكدا من تطابق التعديلات. 

عرض عنانى على رشدى الخاتمة التى كتبها بالعربية واختار لها العنوان الإنجليزى «epilogue»، وهو عادة ما تتم ترجمتها بتعبير «بعد إسدال الستار». 

لم يرتح رشاد رشدى إلى الترجمة، قال لعنانى إنه ينذر بأن قصة الحياة تأذن بالمغيب، وظلا ساهرين حتى الرابعة صباحًا، رشدى يكتب بالعربية وعنانى يترجم، حتى انتهيا تمامًا من النسختين العربية والإنجليزية من الكتاب. 

سافر رشدى إلى الولايات المتحدة لمتابعة تنفيذ الكتاب، لكن حدثت هنا تطورات سياسية كثيرة. 

يقول عنانى فى مذكراته: أعلن السادات اعتزامه زيارة القدس لصلاة عيد الأضحى فى المسجد الأقصى، وهو ما أصبح يسمى بالمبادرة، واتصلت بى السكرتارية الخاصة للرئيس، وحدد لى موعد فى أوائل ديسمبر، حيث تسلمت شريطًا عليه تسجيل صوتى للرئيس لفصل جديد يضاف إلى الكتاب العربى، وطلب منى أن أترجمه وأرسله عن طريق السكرتارية إلى رشدى فى أمريكا، وفعلت ذلك، فأرسل لى رشدى من أمريكا نصًا جديدًا للخاتمة بالإنجليزية، وطلب منى أن أضاهيه بالنص العربى القديم، وأن أدرج الإضافات الإنجليزية بالنص العربى، وأسلمه إلى الحاج أحمد يحيى، ناشر النسخة العربية، وصاحب المكتب المصرى الحديث. 

لم يصدر الكتاب باللغتين العربية والإنجليزية إلا فى أبريل ١٩٧٨، ولكن مجلة «Time» الأمريكية نشرت مختارات من الفصول الأولى للكتاب قبيل النشر الرسمى. 

قارن محمد عنانى النص المنشور بالمخطوط الذى يحتفظ به، فتعجب من أن المحرر الأمريكى لم يغير حرفًا واحدًا، بل لم يقترب من علامات الترقيم. 

يقول عنانى: زاد من دهشتى أنه حافظ على خطأ كنت أخطأته عندما ترجمت عبارة «الحق والخير والجمال»، فكتبت كلمة الحق بحرفٍ كبير «كابيتال» دون الكلمتين الأخريين، فإذا به يبقى على ذلك الحرف كأنما رأى فيه دلالةً عميقةً لم يشأ أن يجور عليها، ولم تكن إلا سهوًا محضًا، وعندما عاد رشدى، وذكرت له ذلك، أبدى دهشته، وقال إنه راجع التجارب الطباعية بنفسه، ولكن السهو وارد فى كل حالة، ولم يكن يعلم بسر الكتاب إلا قلةٌ قليلة من المقربين إلى الرئيس- طبعًا- وإلى رشاد رشدى. 

تقاضى محمد عنانى أجره عن ترجمة الكتاب وفقًا للقواعد المعمول بها، وكان قد صدر قرار جمهورى لعام ١٩٧٨ يحدد سعر ترجمة الكلمة إلى الإنجليزية بستة مليمات بدلًا من ثلاثة. 

لكن حدث ما أغضب محمد عنانى، يقول: كان المفروض أن يمنحنى الحاج يحيى صاحب المكتب المصرى الحديث شيئًا مقابل تصحيح النسخة العربية حسب الاتفاق، ولكنه تباطأ وتلكأ، فطلبت منه أن ينشر لى نصًا مسرحيًا، ولكنه تباطأ وتلكأ أيضًا وقال لى إن المسرح للتمثيل لا للقراءة، ولن يشترى النص أحد. 

بالقرب من كواليس إعداد «البحث عن الذات» كتابة وترجمة كانت تدور قصة أخرى، وهى القصة التى تكشف عن الضحايا المباشرين للكتاب. 

فى هذه الفترة كان الكاتب الصحفى جميل عارف، الذى كان وقتها مديرًا لمجلة «أكتوبر»، قد أهدى نسخة من كتابه «صفحات من مذكرات عبدالرحمن عزام أول أمين عام للجامعة العربية»، وأعجب السادات بالكتاب حتى إنه بعث إلى عارف برسالة شكر أشار فيها إلى مستوى تبويب الكتاب وتنسيقه وطباعته، وبدقة الوقائع التاريخية التى جاءت على لسان عبدالرحمن عزام، بل اعتبرها السادات مثلًا لما يجب أن تكون عليه كتابة المذكرات السياسية. 

فى كتابه «أنا وبارونات الصحافة»، يقول جميل عارف: لم أكن أعرف يومها أن السادات يكتب مذكراته التى نشرت فى كتابه «البحث عن الذات» وعندما تعاقد مع مؤسسة «هاربر أندروه» الأمريكية على نشر المذكرات أن تخرج باللغة الإنجليزية أولًا، لم يعجب ذلك أصحاب دور النشر فى مصر. 

من بين هؤلاء الناشرين كان أحمد يحيى صاحب «المكتب المصرى الحديث» وهى دار نشر كانت قد تخصصت ومبكرًا جدًا فى نشر كتابات الإخوان التى لم يكن السادات يعارضها، بل كان يباركها، فمعظمها كان طعنًا فى عبدالناصر وعهده. 

أرسل أحمد يحيى رسالة إلى الرئيس السادات قال له فيها إنه كمواطن مصرى أولًا وقبل أن يكون ناشرًا كان فى تصوره أنه عندما يكتب رئيس الجمهورية مذكراته يجب أن تكون باللغة العربية، قبل أن يتم التعاقد على إخراجها فى كتاب باللغة الإنجليزية. 

أطلع السادات الدكتور رشاد رشدى الذى كان يعد المذكرات على رسالة الناشر أحمد يحيى الذى رأى أنه عنده كل الحق فيما يقوله، لكن السادات قال لرشدى: أخشى ألا يكون عندنا فى مصر ناشر لديه الإمكانات التى يحتاجها نشر كتابى. 

رد رشدى على السادات بقوله: إن الناشر صاحب هذه الرسالة يستطيع أن يقوم بنشر النسخة العربية من الكتاب. 

فحسم السادات أمره: إذن على بركة الله نتعاقد معه ينشرها باللغة العربية بنفس شروط التعاقد مع الناشر الأمريكى. 

تواصل رشاد رشدى مع أحمد يحيى وقال له: مبروك لقد وقع اختيار رئيس الجمهورية عليك لنشر مذكراته باللغة العربية. 

تم استدعاء أحمد يحيى لمقابلة رئيس الجمهورية وتوقيع التعاقد معه على نشر مذكراته، وحمل الناشر دفتر شيكاته ليدفع العربون، أى دفعة تحت الحساب كأى مؤلف آخر، لكن السادات قال له إنه لا يريد مليمًا واحدًا، وإن عليه أن يحول كل مستحقاته كمؤلف إلى مشروع إعادة بناء قرية ميت أبوالكوم، وتحديدًا إلى الجمعية الأهلية التى تم تأسيسها لتنفيذ مشروع إعادة بناء القرية، وإن عليه أن يحول باسمها العربون وكل ما يستحق للرئيس بعد ذلك من نسبة فى حصيلة مبيعات الكتاب. 

كان للسادات، كما يقول عارف، شرط واحد بالنسبة للنسخة العربية من مذكراته، قال إنه يريدها على نمط لا يقل فخامة عن كتاب صفحات من مذكرات عبدالرحمن عزام أول أمين عام للجامعة العربية، وأن يستخدم فى إخراجها نفس الأسلوب الذى طبعت به هذه المذكرات، وكانت له طلبات أخرى منها أن يكون للكتاب جاكيت، أى غلاف خارجى تنشر عليه صورته بالألوان واسم الكتاب تمامًا كالغلاف الخارجى لمذكرات المرحوم عزام باشا. 

قيل للسادات إن الذى قام بإخراج هذه المذكرات هو صاحبها الكاتب جميل عارف. 

فقال: خلاص.. اتفقوا معه يخرج كتابى. 

تواصل الناشر أحمد يحيى مع جميل عارف وطلب منه القيام بمهمة إخراج كتاب الرئيس، وكان أيامها قد انتقل من العمل مديرًا لتحرير مجلة «آخر ساعة» للعمل مديرًا لتحرير مجلة «أكتوبر». 

وقبل أن يفكر جميل عارف، قال له أحمد يحيى: إنه تكليف رسمى من رئيس الجمهورية، فسأله: هل يعرف أنيس منصور رئيس تحرير «أكتوبر» ذلك؟ نفى يحيى معرفته بذلك، فقال له عارف: أفضل فى حالة موافقتى على إخراج الكتاب ألا يعرف أنيس منصور ذلك. 

يبرر جميل عارف ما قاله بقوله: كنت أخشى إذا ما عرف أنيس منصور بأننى قد كلفت بإخراج كتاب «البحث عن الذات» أن يتصور أننى أحاول الاقتراب من رئيس الجمهورية على حساب مصلحته الذاتية، وكنت أعرف الكثير عن غيرته الشديدة من أى صحفى يقوم بعمل متميز، وكنت على يقين من أن هذه الغيرة كانت تملأ قلبه بالحقد والكراهية لنجاح غيره من الصحفيين. 

طلب جميل عارف الاتفاق مع مخرج شاب هو رءوف رأفت لإخراج صفحات الكتاب، ومع شيخ الخطاطين محمد حمام لكتابة العناوين الداخلية لفصول الكتاب، وكان كلاهما يعمل فى مجلة «أكتوبر». 

بدأ العمل فى إخراج الكتاب فى صمت ودون أن يعرف أحد من العاملين فى مجلة أكتوبر وتحديدًا أنيس منصور، كان جميل عارف ينتهى من العمل فى المجلة فى ساعة متأخرة من الليل، فيصطحب رءوف وحمام إلى منزله حيث يعملون حتى ساعات الفجر الأولى، واضطر عارف لإضافة مجموعة من الصور من أرشيفه الخاص إلى مجموعة الصور التى نشرت بالنسخة الإنجليزية، ومنها صورة السيدة جيهان السادات بملابس التمريض أثناء حرب أكتوبر. 

يقول عارف: انتهينا من إعداد الكتاب للنشر فى أقل من أسبوعين، ودفع أحمد يحيى ١٠٠ جنيه للخطاط و٣٠ جنيهًا للمخرج، أما أنا فقد رفضت أن أتقاضى مليمًا واحدًا، وحاول الناشر إقناعى بكتابة اسمى كمشرف على إخراج الكتاب كما فعل الناشر الأمريكى بالنسبة للصحفية الأمريكية التى قامت بإعداد وإخراج الكتاب للنشر، ولكننى رفضت. 

قال له أحمد يحيى: إن أمانة النشر تستدعى ذلك. 

فرد جميل: لا أريد متاعب مع الحاقدين والحاسدين. 

بدأ ضحايا الكتاب يتساقطون فور خروجه من المطبعة. 

كان قد تحدد يوم أول أبريل سنة ١٩٧٨ موعدًا لصدور الكتاب فى القاهرة باللغة العربية وفى نيويورك باللغة الإنجليزية فى وقت واحد، وصدرت النسخة الإنجليزية فى الموعد المحدد، أما النسخة العربية فقد اتفق بناءً على اقتراح من جميل عارف على التبكير بموعد إصدارها لمدة ٢٤ ساعة حتى لا يربط بعضهم بين موعد صدور الكتاب وكذبة أبريل. 

أين الضحية الأولى التى أتحدث عنها؟ 

يقول جميل عارف: اتصلت رئاسة الجمهورية صباح يوم ٣٠ مارس ١٩٧٨ بالناشر، وأبلغته بأن السيد الرئيس يريده أن يحضر لمقابلته فى تمام الساعة السادسة مساء نفس اليوم، ومعه النسخ الأولى من الكتاب بعد خروجها من المطبعة، وبادر الناشر بإعداد صندوق من الكرتون وضع بداخله مائة نسخة من الكتاب لتقديمها إلى السادات عندما يذهب إلى مقابلته، ثم أخذ يعد نفسه لمقابلة الرئيس، ولكن المقابلة لم تتم بسبب تلقى الناشر الساعة الثالثة بعد الظهر خبرًا بالتليفون ينعى وفاة والده فى الإسكندرية، واضطر الرجل لأن يعتذر لرئاسة الجمهورية عن تلبية الدعوة التى وجهها إليه الرئيس، وقام بإرسال صندوق الكرتون وبداخله نسخ الكتاب التى طلبها رئيس الجمهورية إلى الدكتور رشاد رشدى ليقوم بتقديمها إلى الرئيس بدلًا منه. 

والمفارقة الكبرى أنه فى صباح ٣١ مارس نشرت جريدة الأهرام فى صفحتها الأولى خبرًا عن صدور كتاب «البحث عن الذات»، ونشرت فى صفحة الوفيات فى نفس العدد نعى وفاة السيد على يحيى، والد ناشر الكتاب أحمد يحيى، وانهالت البرقيات على الناشر، برقيات تهئنة بصدور الكتاب وبرقيات أخرى تعزيه فى وفاة والده. 

بعد نشر الكتاب عرف أنيس منصور أن جميل عارف هو من قام بإخراجه بهذه الصورة فغضب غضبًا شديدًا. 

يقول جميل: مع صدور الكتاب عرف أنيس منصور دورى فى إخراجه وإعداده للنشر، وكانت غضبة كشفت عما يمتلئ بقلبه من غيرة وكراهية لنجاح غيره من الصحفيين حتى ولو كانوا من أقرب الناس إليه، وكان تصرفه وأسباب أخرى أتحرج عن الإشارة إليها هى بداية الخلاف بينى وبينه، وفشلت كل محاولاته للانتقام منى، فقد كنت أقوى منه بكثير بفضل الله ورعايته. 

من حقك أن تسأل عن قوة جميل عارف، وعن الثقة التى تحدث بها، وعن عدم قدرة أنيس رغم ما كان له من نفوذ وقوة وسطوة وسيطرة على الانتقام منه. 

عندما نراجع مسيرة جميل عارف المهنية سنتعرف على سره. 

فقد عمل لسنوات طويلة فى عدد من الصحف اليومية المصرية، وعمل مراسلًا حربيًا أثناء حرب فلسطين سنة ١٩٤٨، وكان واحدًا من الصحفيين الذين قاموا بتغطية أحداث العدوان الثلاثى فى العام ١٩٥٦، كما كان أول صحفى مصرى يزور اليمن فى العام ١٩٤٧ وكان ذلك بعد تخرجه فى جامعة القاهرة بعامين فقط فى العام ١٩٤٥، وعاش أحداث ثورة لبنان فى العام ١٩٥٨ وغطى أحداث الانقلابات العسكرية الكبرى فى سوريا والعراق وسوريا والسودان، وكان مُلازمًا للكاتب الكبير محمد حسنين هيكل فى تغطية كل هذه الأحداث السياسية والحربية. 

ولم يكن غريبًا أن يكتب هيكل له مقدمة كتابه «أنا وبارونات الصحافة» التى قال عنه فيه: كان جميل عارف واحدًا من طلائع الجيل الذى غطى الحروب، مشى وجازف وكتب من مواقع عديدة وبعيدة، وأعطى من نفسه وفكره، وكانت الظروف قد أخذت كلًا منا إلى طريق، وتباعدت الطرق، ومع ذلك فقد كنت أتابعه حيث ذهب شاعرًا، طول الوقت، أنه زميل سلاح ورفيق خندق واحد فى يوم من الأيام، وطرف علاقة صداقة وود لا يتأثران بالغياب وإن طال ولا بالبعاد وإن امتدت السنون، وكنت أراقب أحواله من مواقع مختلفة شاعرًا على نحو ما أنه يستحق أكثر مما وصل إليه، مشفقًا عليه أحيانًا من مزاجه المرهف دائمًا، والحاد أحيانًا، والذى كان يقوده مرات عديدة إلى معارك داخل المهنة ساقته إليها الظروف. 

فى الوقت الذى لم يستطع فيه أنيس منصور مضايقة جميل عارف لمشاركته فى إنتاج كتاب السادات، تفرغ للانتقام ممن شاركاه، وكانا يعملان معه فى مجلة «أكتوبر»، وهما رءوف رأفت ومحمد حمام. 

يحكى جميل عما جرى: كم أسفت عندما تحول أنيس منصور بغيرته وكراهيته لينتقم من المخرج رءوف رأفت وشيخ الخطاطين محمد حمام، فقد كان حمام قد طلب إجازة دون مرتب للعمل خطاطًا فى دولة الإمارات العربية، ووافقت بصفتى مديرًا للتحرير، أما أنيس منصور رئيس التحرير فقد رفض منحه هذه الإجازة وأجبره على الاستقالة، أما المخرج رءوف رأفت فقد تعمد إساءة معاملته حتى أجبره هو الآخر على الاستقالة من عمله.

ويختم جميل عارف قصته مع كتاب السادات بقوله: ولا أعرف ما إذا كان كتاب «البحث عن الذات» نقمة أو نعمة على الاثنين، فقد عاد محمد حمام بعد أن ذهب أنيس منصور ليجرى تعيينه من جديد فى مجلة أكتوبر، وضاعت عليه عدة علاوات وإن كان قد حقق نجاحًا فى أعمال أخرى منها تعيينه أستاذًا غير متفرغ لفن الخط العربى فى معهد الخطوط العربية، أما المخرج رءوف رأفت فعمل مديرًا وشريكًا فى إحدى المطابع الكبيرة، واستطاع أن يحقق نجاحًا هو الآخر بعيدًا عن أنيس منصور. 

لم تكن هذه هى المشكلة الوحيدة التى خلفها وراءه كتاب «البحث عن الذات». 

بعد استشهاد الرئيس السادات نشب خلاف بين ورثته وبين مصلحة الضرائب حول حق الرئيس السادات فى تحويل المبالغ التى حصل عليها من بيع الكتاب إلى جمعية أهلية، وإن كانت تحت إشراف وزارة الشئون الاجتماعية. 

كان الناشر أحمد يحيى قد قام بتحويل ٤٩ ألف جنيه نصيب الرئيس السادات من بيع الكتاب إلى جمعية ميت أبوالكوم، وتردد أنه حصل من عائد نشر النسخة الإنجليزية على ٢ مليون جنيه. 

وعن الخلاف بين ورثة السادات ومصلحة الضرائب قام أحد مأمورى الضرائب بإعداد دراسة قانوينة قال فيها إن الممول وإن كان رئيسًا للجمهورية من حقه أن يتبرع بأى نسبة من دخله للدولة، أى لميزانية الدولة على أن توجه بعد ذلك وفق المصلحة العامة، أما مجموع تبرعاته الأخرى للجمعيات والهيئات فيجب ألا تتعدى ٣ بالمائة من مجموع الدخل العام، وبالتالى فالفرق بين قيمة التبرع بدخل المؤلف من تأليفه كتاب «البحث عن الذات» وقد قدر بنحو ٧ بالمائة من إجمالى دخله العام يجب أن يسدد عنه ضرائب. 

وكشفت دراسة مأمور الضرائب أن الرئيس السادات كان يقدم إلى مأمورية ضرائب الدقى إقراراته الضريبية عن إيراداته العامة سنويًا فى المواعيد المقررة كأى ممول ولكنه فى كل إقراراته الضريبية كان يقصر دخله على ما يتقاضاه كمرتب عن عمله رئيسًا للجمهورية فقط، ولم يكن يذكر أى دخل إضافى آخر كان يحصل عليه إلى جانب راتبه كرئيس للجمهورية كدخله مثلًا من تأليف الكتب. 

وطبقًا للدراسة القانونية فإن كتاب «البحث عن الذات» الذى صدر عام ١٩٧٨ كان مفروضًا أن تجرى محاسبة رئيس الجمهورية عن ضريبة المهن الحرة كمؤلف عما حصل عليه من نصيبه كحقوق تأليف هذا الكتاب خلال السنوات التى سبقت صدور القانون رقم ١٥٧ لسنة ١٩٨١، وهو القانون الذى أعفى التأليف والترجمة من الضرائب. 

لم تلتفت دراسة الضرائب إلى ما إذا كان الرئيس السادات قد تسلم هذا النصيب ليصبح إضافة إلى إيراداته العامة، أو أنه قام بالتبرع بكل ما حصل عليه من دخله من الكتاب إلى جمعية إعادة بناء قرية ميت أبوالكوم. 

لم تلتفت دراسة مصلحة الضرائب إلى ما حصل عليه الرئيس السادات من النسخة الإنجليزية، وكان تبريرها فى ذلك أن الازدواج الضريبى منع المصلحة من أى تدخل لمحاسبة الرئيس ضرائبيًا على هذا المبلغ، لأن الدفع كان فى نيويورك وبالدولار الأمريكى. 

وكان أن دفع ورثة الرئيس السادات ما استحق عليه وعليهم من ضرائب، رغم أنه وأنهم لم يحصلوا على شىء من عائدات بيع «البحث عن الذات».