الجمعة 18 أكتوبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الضحية والجلاد.. تشريح المتحرشين فى عيادة الطب النفسى

حرف

التحرش هو التحرش. 

لكن عندما يتم اتهام شخصية مشهورة بهذه التهمة الشائنة، وتكون الضحية فى الوقت نفسه شخصية عادية وبسيطة ومغمورة لا يعرفها أحد، تظهر على السطح الألعاب السيكولوجية التى يحاول أطراف واقعة التحرش تشكيل ما جرى من خلالها، بحثًا عن مخرج أو هروبًا من مسئولية. 

وأولى هذه الألعاب السيكولوجية اللعب على مدى سلامة القوى النفسية والعقلية للضحية، فيتم اتهامها بداءة ودون تحقيق أو فحص طبى محترف بأنها مريضة ومضطربة نفسية، وأنها لم تقل شيئًا مما قالته، إلا لأنها تعانى من أزمات نفسية، تتم الإشارة إليها بالاسم وكأن المتهم تحول إلى طبيب نفسى. 

هذه الحيلة التى أصبحت مشهورة ومتوقعة يكون الهدف منها هو التشكيك فيما تقوله الضحية، فيفقدها المتهم أى مصداقية، بل يجعل الناس ينظرون إليها على أنها مجرد مريضة لا تعى ما تقول، ولأن وصمة المرض النفسى لا تزال متمكنة من المجتمع، فيتفق الجميع على النظر إلى الضحية على أنها مجنونة. 

لدينا هنا مثال واضح على ما نقوله، فجميعنا يذكر واحدة من أشهر قضايا التحرش فى العالم، وهى فضيحة «ليونيسكى» Lewinsky scandal، وهى الفضيحة الجنسية السياسية التى تورط فيها الرئيس الأمريكى السابق بيل كلينتون مع المتدربة فى البيت الأبيض مونيكا ليونيسكى. 

من بين ما تم الدفع به عندما أفصحت مونيكا عما جرى بينها وبين كلينتون فى البيت الأبيض أنها مصابة باضطراب نفسى، وهو ما جعلها تتخيل أن ما تقوله حدث، ورغم أن هناك كثيرين تبنوا هذا الطرح، فإنه لم يثبت علميًا أن مونيكا كانت مريضة نفسيًا. 

فى الولايات المتحدة الأمريكية- وهو ما لا نراه فى بلادنا– لا يتهاون القانون فى مسألة إلصاق المرض النفسى بالضحية، بل يسعى إلى التحقيق فى كل التفاصيل، ويحاول قدر المستطاع التحقق من جدية هذا الاتهام من عدمه، وهنا يظهر الدور المهم والحيوى للطب النفسى فى حسم مثل هذه القضايا. 

وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه عندما تزيد دعاوى التحرش الجنسى، فإن إحدى الأدوات الدفاعية القوية التى غالبًا ما يتم تجاهلها هى التقييم الجنائى للحالة العقلية والعاطفية للمدعى، وهو التقييم الذى إذا ما تم إجراؤه بشكل صحيح يمكن أن يثير تساؤلات حول سبب الإصابات العاطفية المزعومة للمدعى، كما يمكن الكشف عن خلفية المدعى وتطور شخصيته، وهل لديه فرط حساسية من الإشارات الجنسية من عدمه، وهى الخلفية التى يمكن أن تقوض من الأساس قدرة المدعى على الفوز فى دعوى التحرش الجنسى بموجب القانون. 

دور الطبيب النفسى فى هذه الحالة- وهو بالضرورة دور إيجابى وحيادى- هو تقييم شخصية المدعى، إنصافه إذا كان يستحق، وإدانته إذا كان مدانًا بالفعل، وهو ما يحدث فى القضايا التى أثيرت فى الدول الغربية، حيث يتم فحص الضحية، كما يتم فحص الجانى أيضًا، فليس منطقيًا أن يتم الاكتفاء بالحديث إعلاميًا عن الموضوع دون أن يتوقف أمامه أحد، أو يتدخل الطب النفسى ليقوم بدوره ووظيفته. 

الفيصل فى قضايا التحرش التى يكون أحد أطرافها من المشاهير هو التقييم النفسى للجانى والضحية معًا. 

وهذا التقييم يكون فى الغالب عن طريق اختبارات نفسية تتضمن مقياس «مينسوتا» متعدد الأوجه للشخصية، واختبار الحالة العقلية المصغر، وفحص الحالة العقلية والنفسية، إلى جانب المقابلات بين الطبيب النفسى الشرعى والجانى والضحية، وعمل فحوصات على المخ مثل رنين المخ الوظيفى ورسم المخ المطول، وبعد ذلك تتم كتابة تقرير مفصل وسرى يرسل إلى القاضى، ثم يتم استدعاء الطبيب النفسى لمناقشته فى التقرير المكتوب. 

الأمر شديد الصعوبة والتعقيد، ويتطلب عدة إجراءات للتأكد من الأهلية القانونية والعقلية للمدعية، وذلك لتقييم مدى الضرر النفسى الذى أصابها من جراء التحرش، وهو أمر يتم فيه الاحتكام إلى أهل العلم والتخصص ولا يترك للتقدير الشخصى أو اتهامات الجانى التى يطلقها للدفاع عن نفسه فى مواجهة الضحية. 

أما عن الجانى المتهم بالتحرش، فإننا يمكن أن نقرأ ما يفعله على خلفية ما يتم التعارف عليه بأنه أوهام العظمة. 

وهى معتقدات لا أساس لها، أو غير دقيقة بأن الشخص لديه قوى خاصة أو ثروة ضخمة، أو أنه شخصية مهمة ذات هوية خاصة، هذه المعتقدات شائعة نسبيًا، وتمثل ما يقرب من ثلث الأوهام التى يعانى منها المرضى الذين يتم تشخيصهم بالذهان غير العاطفى. 

وفيما يصل إلى ٦٠٪ من المصابين بالهوس ثنائى القطب، يمكن أن تسبب أوهام العظمة ضررًا محتملًا فى مجالات الحياة المتعددة، بما فى ذلك الجسدية والجنسية والاجتماعية والمهنية والعاطفية، ومع ذلك يمكن أن تحمل مثل هذه المعتقدات معنى إيجابيًا كبيرًا للفرد. 

وفى دراسة أجريت من خلال الخدمة الصحية الوطنية فى المملكة المتحدة «NHS» على المرضى الذين لديهم تجارب حالية أو سابقة من أوهام العظمة، أشارت تأملاتهم إلى أن العظمة يمكن أن توفر شعورًا بالهدف أو الانتماء أو الهوية الذاتية، أو تعطى معنى للأحداث غير العادية أو الصعبة.

المشكلة ليست فيمن يعانون من أوهام العظمة، لكن فيمن يتعاطى معهم بجدية ويتبعهم فى بعض الأحيان، وهنا نسمى الأمر بالضلالات المشتركة. 

وأشهر ضلالات العظمة فى مصر والعالم العربى هو أن يدعى الشخص أنه «المهدى المنتظر»، أو أنه ولى صاحب كرامات رغم عدم تطبيقه الشرع والعلم، أو أن لديه الملايين من المعجبات ويستطيع السيطرة على عقولهن. 

وعن نفسى شاهدت وتحدثت مع أكثر من مائة مهدى منتظر من مختلف الأعمار والثقافات والجنسيات، منهم أستاذ الجامعة ومنهم البائع المتجول.

يفسر عالم الطب النفسى السويسرى «يوجين بليولر» أوهام العظمة بأنه فى كثير من الأحيان يكون الوهم بالعظمة ثانويًا من الوهم الاضطهادى عندما يفشل إسقاط الذنب «الوهم الاضطهادى» فى تحقيق التوازن بين الرغبات الداخلية والواقع الخارجى، وقد يحدث وهم العظمة كإيفاء للرغبة المكبوتة، بينما يتناقض الواقع الخارجى مع الشعور بالذنب المتوقع فى العالم الخارجى.

وهم العظمة هو محاولة من العقل الباطن لتحقيق نجاحات بعيدة عن الواقع، وهو يتبع ويرتبط بوهم الاضطهاد، تشعر أولًا بأنك مضطهد، ولكى ترضى نفسك وتتخلص من شعور الاضطهاد تبرر لنفسك أنك مضطهد بسبب أهميتك، وبسبب خوف الآخرين من قدراتك.

أما بالنسبة للشق القانونى المتعلق بالضلالات والأوهام، فقد بدأت مجموعة متنامية من الأبحاث فى تسليط الضوء على الصعوبة التى يواجهها الأطباء فى التمييز بين المعتقدات الوهمية والمعتقدات التآمرية. 

وقد فحصت هذه الدراسات التى استخدمت أساليب متعددة كيف استطاع ١٩٨ متخصصًا فى الصحة العقلية الشرعية فى كندا والولايات المتحدة التمييز بين المعتقدات الوهمية والمعتقدات التآمرية.

أظهرت النتائج أن المعتقدات الفردية والجامدة والمزعجة تنبئ بشكل كبير بتشخيص اضطراب ذهانى، فى حين أن المعتقدات المشتركة التى تتسم بالجمود والضيق المنخفض- المتوسط تنبئ بشكل كبير بتحديد المعتقدات التآمرية.

والخلاصة أننا نحتاج إلى وعى أكثر لفهم الضلالات والأوهام، وخاصة أوهام العظمة، لأنها لها تأثير كبير على مجريات حياتنا وعلى العلاقات التى تربط بين المشاهير وبين المعجبين بهم أو المريدين لهم.