الأربعاء 29 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الجزائرى أحمد طيباوى: التفاؤل بأحوالنا كعرب «تخدير» أو «تنويم»

الجزائرى أحمد طيباوى
الجزائرى أحمد طيباوى

- تتعاظم أزماتنا كعرب ويتعمق الضعف وندفع جراء ذلك أثمانًا فادحة

- الروائى يتعلم بالممارسة وبالكتابة والمحو وبالقراءة لتوسيع رؤيته

- الكتابة تحدٍ لأنها تبنى عالمًا موازيًا تصنعه من الخيال وخلاصة التجارب

- الجوائز مفيدة للفت الانتباه ومنح الاستحقاق رغم بعض مشاكلها وحساسياتها

الروائى الجزائرى أحمد طيباوى حكّاء ماهر، فهو ينظر إلى الواقع المعاش بتفاصيله العادية والدقيقة بنظرة فاحصة، ويعيد تشكيل كل ما تراه عيناه بشكل درامى وفلسفى وجمالى فى صورة أعمال روائية بديعة. 

وفى روايته الأحدث «الحب عربة مهترئة»، يحلل «طيباوى» فكرة الاختيارات الإنسانية، بشكل يجعل القارئ يقيس ما طرحه على اختياراته وقراراته وخطواته فى الحياة، فيعيد تقييم ما فعله ويعيد توجيه ذاته وحياته.

عن روايته الجديدة، ورؤيته عن الهوية، وأثر «العشرية السوداء» فى أعماله، والمشهد الأدبى فى الجزائر، أجرت «حرف» الحوار التالى مع أحمد طيباوى.

■ قلت إن «الحب عربة مهترئة» رواية لجيل الاختيارات المحدودة. هلّا أوضحت لنا الأمر أكثر بدءًا من فكرة الرواية وعنوانها وما قصدته من هذا الوصف؟

- نحن جيل الاختيار الوحيد المتاح، هذه عبارة وردت على لسان البطل فى الرواية، ليس حكمًا قطعيًا نتفق عليه جميعًا على كل حال، فالسياقات تحكم نظرتنا. حاولت فى هذه الرواية جعل فكرة الحتمية التى قد تكون مزيفة، وحالة من العجز والقصور وضعنا أنفسنا بداخلها، قابلة للنقاش، إذ يحاول بطل روايتى فى ظرف صحى صعب يمر به أن يستعيد حياته السابقة- بشىء من الأسى والحنين- ويفكر بناء على ما مضى أن القادم منها ليس بالضرورة أن يكون امتدادًا لما سبق وعلى منواله.. الأقرباء، أصدقاء العمل، الأشياء المواقف.. عمل على مراجعة ذلك كله. ويتوقع سيناريوهات قادمة يمكن أن يسير مستقبله وفقها.

هو نص يتعلق بإعادة التفكير الشامل فى الذات وفى الآخرين من حولنا، وفى الاختيارات التى اتخذناها ونحن نغالط قلوبنا وعقولنا أنه لم يكن أمامنا غيرها، حتمية مصطنعة تعفينا من عناء التفكير الطويل وخوض تجارب الحياة كاملة، فلا نكون مكبّلين بالخوف، ولنعيش الحب- لا أوهامه- بطريقة تجعل لوجودنا جمالًا ومعنى.

■ البطل يستعيد حياته السابقة واختياراته وكل ما مر به إثر تجربة المرض.. هل كان للمرض تأثير فى هذه المراجعة؟ وهل كانت المراجعة حتمية ما لم يخُض تجربة المرض؟

- يفترض أن الإنسان يتعلم من المحن التى تمر عليه، يزداد قناعة وإيمانًا بالسبيل التى اختارها، أو تكون ضاغطة حد أن يفهم أو يصل لمستوى من النضج بفعلها يقوده لاختيارات أفضل. والأفضل هنا نسبى جدًا.. هذه حال بطل روايتى. هى باختصار رواية حاولت فيها التجريب فى الشكل والمضمون، عن فكرة الحتمية، عن جدوى التأمل ومراجعة الذات حول العواطف المجانية التى يمنحها البعض للآخرين فتعود عليهم بالوبال، والأقدار التى تصنع مصائرنا.

■ هل لأبطال روايتك ظل فى الواقع؟ وإلى أى مدى يستمد الكاتب إبداعه من الواقع ومن الخيال؟

- السرد كما أفهمه إعادة إنتاج للواقع جزئيًا أو بشكل كلى، بعيدًا عن التسجيل والنقل المباشر. للخيال دوره فى عملية إعادة إنتاج أو تشكيل الحياة من جديد فى النصوص وعبر الحكى، وكذلك للأثر النفسى للتجارب التى عاشها الكاتب أو عايشها آخرون وسمعوا عنها.. إن تجارب الواقع والقراءة تشكلان ما يصنع إطارًا للروائى، أقصد هنا تحديدًا الرؤية، رؤيته للحياة وللبشر وللأشياء وللمكان وللزمان والمشاعر وللأفكار والسلوك.. أى عناصر الرواية كافة.

■ كيف طورت الشخصيات فى الرواية خصوصًا فيما يتعلق بصراعاتهم الداخلية والخارجية؟ وهل هناك شخصية معينة تجد نفسك مرتبطًا بها بشكل خاص؟ ولماذا؟

- نعم يوجد صراع بين الفرد وذاته، وبين الشخصيات فى المتن، غير أن ذلك مما يترك للقارئ الكريم أن يكتشفه بنفسه وليس من شأن الكاتب أن يفصل فيه. بالنسبة للشق الثانى من سؤالك وهو الأهم برأيى، فالإجابة نعم، يحتاج الروائى للتفاعل مع شخصياته، إذ يتماهى معها أحيانًا ويحاسبها ويكشفها فى أحيان أخرى، بعد الانتهاء من كتابة الرواية تبقى هذه الشخصية أو تلك عالقة فى أذهاننا مدة، وفى داخلنا بعض الترسبات والشوائب منها، من رواية لأخرى، ونكون قادرين أكثر على وضع المسافات، التجاوز لشخصياتنا السردية، نعدم أو نهدم النماذج التى قمنا ببنائها ليتاح لنا نحت أخرى. فى النهاية، داخل الروايات الكثير من الشخصيات فيها ذات الكاتب موزعة أو مبعثرة بينها، وفى نفس الكاتب الكثير من شخصياته السردية.

■ إلى أى مدى تعكس أعمالك السردية مشهد المجتمع الجزائرى؟

- أنا أكتب باسمى ووفق ما أراه، يمكنك القول إن أعمالى تعكس بعضًا من المجتمع كما أراه أنا.. والذاتية والتحيز لا بد حاضران مهما وضعت مسافات بينى وبين شخصياتى، وهو أمر أحرص عليه دائمًا، لكن هذا من طبيعة الأدب والفن.

■ من أول أعمالك الإبداعية وصولًا لأحدثها.. ما الذى اكتسبته فى تقنيات الكتابة السردية؟ وكيف طورتها؟ وما أبرز التحديات التى واجهتها خلال هذه الرحلة؟

- يتعلم الروائى بالممارسة، بالكتابة والمحو، بالقراءة لتوسيع رؤيته.. الرهان دائمًا ليس حول ما يجب قوله، بل بكيف تقول ما تريد أن تقوله، وبما تتضمنه روايات كاتب ما من محمولات إنسانية وفكرية. من جانب الأفكار والجانب الفنى، تمر السنوات، وتدرك كم تغيرت عما كنت عليه فى بداية مشوارك. على أن شيئًا واحدًا يجب أن يرافقك من البداية حتى النهاية، ذلك الخوف والترقب وأنت تنكب على الكتابة فى كل مرة. عندما أكتب، أحب أن أتعلم المشى فى طرق مختلفة، التشابهات مع ما سبق أو مع الآخرين موجودة دائمًا، لكن أحاول أن أشبه نفسى أكثر. الكتابة بحد ذاتها تحدٍ، إذ تبنى عالمًا موازيًا فى كل رواية، تصنعه من مادة الخيال وخلاصة التجارب وثمار القراءة والتأمل.

■ فزت بجائزة نجيب محفوظ عن روايتك «السيد لا أحد».. ما الذى تعنيه لك هذه الجائزة تحديدًا والجوائز الأدبية بشكل عام؟

- الجوائز ليست بدعة فى الأدب، فهى موجودة فى كل المجالات تقريبًا، العلوم والرياضة والفنون والمسرح وغيرها، وأعتبرها مفيدة للفت الانتباه ومنح الاستحقاق للكاتب رغم بعض مشاكلها والحساسيات التى تثيرها أحيانًا. على الصعيد الشخصى أسعدتنى جائزة نجيب محفوظ للأدب كثيرًا، فهى تحمل اسم كاتب عظيم، وأعطتنى دفعًا قويًا وثقة إيجابية فيما أكتبه، وفى المقابل إحساسًا بالمسئولية. ما يجدر بالكاتب أن يسعى إليه هو أن يكتب روايات تحترم عقل القارئ وذائقته، وتكون مساحة تقاطع بينى وبين آخرين، تحقق لهم المتعة والإقناع.

■ ماذا قرأت من الأدب المصرى؟ ولمن؟

- سأذكر لك آخر ما قرأت مما كُتب فى مصر: رواية لمحمد المنسى قنديل عنوانها «يوم غائم فى البر الغربى»، وأخرى لعادل أسعد الميرى أحسبها أقرب لسيرة ذاتية وكانت بعنوان «كل أحذيتى الضيقة».. وهما روايتان فائقتا المتعة والإبداع. وقبلهما قرأت لكثيرين، فى الأدب وفى غير الأدب، مثل التاريخ والاجتماع والسيرة الذاتية وكذا فى الاقتصاد، لأن تخصصى فى إدارة الأعمال. والقائمة طويلة تضم: نجيب محفوظ، وطه حسين، وأحمد أمين، والمازنى، ويوسف إدريس وغيرهم كثيرون.

■ ضعنا معك فى صورة المشهد الأدبى الجزائرى.

- يمكننى أن أتحدث عن الرواية، إذ لدينا سهولة نسبية فى النشر، مع ملاحظة أن الكم غالب على الكيف. توجد أقلام جيدة ونصوص تصدر جديرة بالقراءة والاحتفاء، وبعضها أثبت نفسه حتى عربيًا وتجاوز كونه محليًا وحسب. يواجه البعض ضعف صناعة النشر رغم التهافت الكبير على ممارستها بالتعاون مع ناشرين عرب، أو اللجوء للنشر المشترك بين دار عربية وأخرى جزائرية لضمان توفر الرواية. 

والجزائر مثلها مثل باقى البلاد العربية، ليست الرواية رافدًا كبيرًا للوعى العام، عدد النسخ التى تُقرأ مهما بلغت تبقى محدودة، والتأثير الأكبر له مصادر أخرى.. مثل وسائط التواصل الاجتماعى، ومنصات المحتوى، والدراما، وغيرها. 

■ ذكرت أن فضاءنا العربى مأزوم فى أغلب توجهاته الاجتماعية والثقافية.. هلّا وضحت الأمر أكثر؟

- أضيف التوجهات السياسية خاصة.. عطفًا على إجابتى عن أول سؤال وجهته لى فيما يخص جيل الاختيارات المحدودة، نحن فى مواجهة الجدار مباشرة.. لا أدعو لبث التشاؤم، لكن التأمل الموضوعى الشامل والعميق لأحوالنا كعرب لا يمكن أن نخرج منه بنتائج سارّة. 

التفاؤل فى مثل حالتنا هذه الأيام تخدير أو تنويم.. تتعاظم الأزمات ويتعمق الضعف وندفع جراء ذلك أثمانًا أكثر فداحة. إذ لا أنظمة ديمقراطية حقيقية «المجالس المنتخبة مجرد واجهات أو ديكور، القرارات المهمة تُتخذ فى الغرف المظلمة، لا اقتصادات مزدهرة تعد بالرفاه وتكافؤ الفرص، وهناك الغلاء والبطالة والديون، لا إشعاع ثقافيًا، ولا فنون أو آداب نواجه بها العولمة، لا مهابة بين الدول كما يحدث هذه الأيام، لا توافق أدنى حول الدين والمذاهب. فمن أين يأتى التفاؤل إلا إذا كان عن بلادة أو انعدام الحس بالمسئولية؟

■ صدرت لك ست روايات مقابل مجموعة قصصية واحدة.. أيعكس هذا انحيازًا للرواية وزمنها؟

- ليس بالضرورة أن يكون ذلك انحيازًا لزمن الرواية، إذ لكل فن أدبى حضوره وقيمته ومتلقوه. أعتقد أن الأمر يتعلق باختيارات إبداعية محضة، وأنا بدأت بكتابة الرواية فى الأصل. 

ربما يكون لدىّ قصص أخرى، لا أعلم. أجد فى الرواية ذلك الشمول الذى أبحث عنه، الصورة الكاملة أو المسار العام والتشابك بين البشر والزمان والمكان، بينما متعة القصة فى قنص اللحظة وتشكيلها سرديًا وفى التكثيف الفنى.

■ بِمَ تفسر ظاهرة انتشار الروايات التاريخية والإقبال عليها؟ وهل للجوائز دور فى دعمها خاصة أن العديد من هذه الروايات هى الأكثر حصدًا للجوائز؟

- ليس لدىّ تفسير خاص للأمر، ربما تكون اختيارات حرة تبناها البعض كتيمات لرواياتهم لصناعة التفرد أو البحث عن مساحات جديدة، بعد تشبع المدونة السردية العربية من الروايات الواقعية أو ذات اللغة الشعرية، كما قد تكون هروبًا أو خوفًا من مواجهة الواقع السياسى والاجتماعى والثقافى مما يجبر الروائى على التصريح برأيه على لسان شخصياته وهو يذهب للتاريخى ويزعم أن القارئ بإمكانه أن يجرى إسقاطًا على أحوال الحاضر. لا أتهم ولا أدين أحدًا، هذه مجرد تأويلات يتم تداولها فى الوسط الأدبى، وفى النهاية كل روائى حر إذا اختار التركيز على التاريخ فى كتاباته. يحتاج الأمر إلى تفكيك الماضى وإعادة استحضاره على نحو مختلف بما يخدم الغرض.. النجاح غير مضمون، كل كتابة هى تحدٍ بالأساس.

■ طرحت فى روايتك «باب الوادى» سؤال الهوية.. أى هوية تعنى؟

- الهوية ليست معطى جاهزًا أو ثابتًا، وأنا عندما أعالجها فى روايتى فأنا أقاربها- مقاربة- فى تحولاتها، تحولات المجتمع واتجاهاته المختلفة، وأحاول أن أرصد الذات الفردية والجماعية، باتخاذ نماذج منتقاة تعبر عما أراه وأريد قوله. 

والهوية ليست قضية ثابتة ومتجاوزة، أو محسومة بتحديد دستورى أو قانونى شرّعته أغلبية شعبية أو توافق نخب. هناك دائمًا أبعاد فلسفية وفكرية واجتماعية ونفسية، لها مظاهرها وأشكالها فى الواقع لمن يريد أن يرى لدى الفئات المكونة لأى مجتمع. لن يتوقف الإنسان أبدًا عن التساؤل والبحث ومحاولة الفهم لهويته، وجدير بالقول إن ذلك علامة صحية تعبر عن انتمائه لمجتمع حى، حيوى، واعٍ بتحولاته.

■  إلى أى مدى أثرت العشرية السوداء على الأدب الجزائرى بشكل عام وعلى ما كتبته أنت فى رواياتك؟

- أثرت لدرجة كبيرة، وتقريبًا ما من كاتب إلا وعالج أو تطرق لتلك الفترة العصيبة فى كتاباته، وظهر عندنا ما نسميه أدب الأزمة- رغم أن ما وقع ليس أقل من محنة أو مأساة مفجعة- بعضه أدب استعجالى وبعضه الآخر أكثر عمقًا وتبصرًا. بالنسبة لى، نعم تطرقت إليها فى أكثر من رواية، خاصة للآثار النفسية والاجتماعية لما بعد الأزمة، مثل «المقام العالى، وموت ناعم»، وحاولت فى كل مرة أن أقاربها بطريقة مغايرة، عند جيل أو فئة مختلفة. لم تكن فترة أليمة من تاريخ مجتمعنا وبلدنا مضت كأنها جرح عابر والسلام. لقد كنت دون العشرين، وأنا أعيش وأسمع أخبار تلك الأيام الرهيبة وشديدة الوطأة، بعد مرور فترات مماثلة، قد تكون الكتابة تشريحًا، إعادة إنتاج لتجارب المعاناة التى أثرت فينا وتخرج إلى العلن فى الخطاب وأشكال الإبداع، أو عودة لإخراج مخزون الحزن والفجيعة الذى هربنا منه أو لم نعشه كما يجب لنتخلص منه لاحقًا.