الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

كيف تصنع فيلمًا دعائيًا ممتعًا؟

صراع فى النيل
صراع فى النيل

تحتاج الأفكار الجديدة للدعاية لنشرها بين الجماهير، وهذا ليس وليد الحداثة، ولكنه مرتبط بوجود الإنسان ورغبته الدائمة فى التغيير، ونشر أفكاره فى المجتمع الذى يعيش فيه.

السينما من أكثر الفنون الحديثة تأثيرًا فى الإنسان المعاصر، حيث الصورة وما تحمله من قدرة على الإقناع والتغلغل فى لا وعى المتلقى، وحينما تم التأكد من هذا التأثير لجأت إليها الحكومات والمؤسسات لبث أفكارها للجماهير.

فالأفلام الهوليوودية مثلًا تقدم المقاتل الأمريكى الصنديد القادر على هزيمة الأشرار وتحقيق العدل، وتقدم المجتمع الأمريكى بأنه المجتمع المثالى للإنسان. 

الأفلام الدعائية تحتاج لميزان حساس فى إنتاجها وعين تتمتع بحس فنى قوى لتقديم عمل فنى حقيقى، حتى لا يتحول من الفيلم لخطبة زاعقة تنفر الجمهور.

من أفضل وأكمل الأفلام الدعائية التى أنتجت فى السينما المصرية فيلم «صراع فى النيل»، الذى تم إنتاجه سنة ١٩٥٩ عن قصة وسيناريو وحوار لعلى الزرقانى- الذى يحتاج لإعادة دراسة أعماله- وإخراج عاطف سالم، فمن خلال صراع الخير والشر بين المعلم أبوسفيان الذى يخاف على ثروته من عملية الإحلال والتجديد التى يقوم بها مجاهد ومحسب لشراء صندل نهرى جديد على أعماله، وثروته، قدم الفيلم الدعاية لثورة ١٩٥٢ ومشروعها الأعظم السد العالى، من خلال الحوار الدائر بين رجال القرية والأموال التى جمعوها وقرارهم ببيع مركب «عروس النيل» لشراء الصندل الحديث، لأنه بعد تنفيذ مشروع السد العالى لن تصبح المراكب القديمة قادرة على الإبحار فى النهر.

هنا، ومن خلال الحوار، دعاية غير مباشرة لثورة يوليو، ولأهمية مشروع السد وما سيتبعه من خيرات، وكيف أن الأيام المقبلة تحتاج لخبرات الشباب وقدرتهم على التجديد ومواكبتهم التطور. 

اسم المركب القديم «عروس النيل» إشارة مهمة للتخلص من القديم لصالح الجديد، وهو وإن كان قادرًا على السير فى النيل وأداء مهامه إلا أنه غير قادر على مواكبة العصر وتطوراته.

قدم الفيلم أيضًا، بشكل غير مباشر، الفنون الشعبية فى مصر، بدءًا من مشهد الافتتاح وحلقة التحطيب فى ساحة معبد الكرنك، مرورًا بالفنون الشعبية فى الموالد، من رقص وأراجوز ونشان وغيرها من عروض الموالد الشعبية، التى تتشابه فى ربوع مصر. واستعرض الآثار فى الأقصر ببساطة من خلال الأحداث، ليقدم صورة خالدة عن منطقة الآثار المفتوحة بالأقصر، بخلاف ما قدمه من صورة بصرية عميقة للحياة فى النهر خلال تلك الحقبة وقبل إنشاء السد.

قدم الفيلم كل أشكال الدعاية السياسية والسياحية دون عبارات رنانة أو كلام مباشر، وأفرد المساحة الكبرى فى الفيلم للدراما والصورة، ليقدم عملًا يشعر المشاهد بالمتعة فى كل مرة يشاهده، ولا يمل من مشاهدته.

على الجانب الآخر، قدم نفس المخرج فيلمًا دعائيًا مباشرًا عن مشروع السد العالى أيضًا، سنة ١٩٦٣، بعنوان «الحقيقة العارية»، لم يحافظ فيه على كل ما سبق، بل كان فيلمًا مباشرًا فجًا، عن فكرة لإبراهيم الوردانى، وسيناريو وحوار محمد عثمان، من خلال أحداث مفتعلة ولقطات تسجيلية، وإن كانت هامة على مستوى التأريخ للعمل فى مشروع السد العالى، إلا أنها مقحمة على أحداث الفيلم، الذى تعتبر أحداثه كلها مفتعلة وغير منطقية.

الفرق بين الفيلمين، وإن كانا لنفس المخرج، هو الكتابة الواعية والفهم الحقيقى لمفهوم السينما، وفكرة أن يكون العمل صالحًا لكل العصور. ففيلم «صراع فى النيل» يحتل المرتبة رقم ٨٦ فى قائمة أهم ١٠٠ فيلم مصرى، أما «الحقيقة العارية» فلا يتذكره أحد، فهو شبيه بإعلانات السلع التى ينتهى دورها بانتهاء زمانها، وتحتاج لإعلان ودعاية جديدة تناسب المستهلك الجديد.