الخميس 14 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

من كتاب «شهادة البابا.. الدولة.. الكنيسة.. الإرهاب» يصدر قريبًا

رجـل النبـوءات.. الأنبا تواضروس الثانى.. عطية الله

البابا تواضروس
البابا تواضروس

- وفاة شقيقته إيمان لا تزال حتى الآن تشكل وجعًا كبيرًا فى قلبه.. وقد عانت من مرض السرطان قبل موتها

- رغم مسيرته الدراسية المميزة ورغم انتظامه فى عمله بالمصنع الحكومى إلا أن نداء الرهبنة لم يفارقه

- فى المرحلة الجامعية توسعت مدارك البابا تواضروس الثانى السياسية

- لا ينسى البابا الخطأ الكبير للرئيس السادات عندما وقف معاديًا المجتمع المصرى كله وأصدر قرارًا بالقبض على -  1536 من رموز المجتمع المصرى وعزل البابا شنودة الثالث

- الملمح الأساسى فى رحلة البابا منذ دخوله عالم الرهبنة هو حبه للتعليم ورعايته الأطفال والشباب وحرصه عليهم

قررت «الأم» اصطحاب طفلها «وجيه صبحى باقى سليمان» الذى لم يبلغ من العمر عشرة أعوام إلى الكنيسة بمدينة دمنهور بمحافظة البحيرة. 

كانت تريد ترسيمه شماسًا. 

وقف فى الطابور بين الأطفال الذين يستعدون لطقس الترسيم، وفجأة أخرجه كبير الشمامسة من الطابور، قال له: أنت غريب.. ولست من أهالى دمنهور. 

تبعثر قلب الطفل الصغير، وتحطم قلب الأم التى اصطحبت ولدها- وهى تبكى- إلى البيت، وعندما عاد الوالد ووجدها على حالتها من الحزن الذى كاد يفطر قلبها خفف عنها ما تلاقيه، ولما عرف منها سبب حزنها، قال لها وهو يبتسم: لا تحزنى.. فمن يعلم الغيب؟... غدًا يرسمونه أسقفًا. 

لم يكن «الأب صبحى باقى» يقرأ كف الغيب.

وجد زوجته حزينة فحاول التخفيف عنها، لكنه لم يكن يعلم أنه يضع على جبين طفله الصغير نبوءة كان الزمان وحده كفيلًا بتحقيقها.

حدث هذا فى العام 1962، وبعد ما يقرب من خمسين عامًا وفى العام 2012 أصبح الطفل «وجيه صبحى» هو «البابا تواضروس الثانى» بابا الإسكندرية بطريرك الكرازة المرقسية. 

وما بين العامين تكونت شخصية البابا الذى كانت الحياة تعده لدوره الروحى والتاريخى، فلم تبخل عليه بالدروس وآيات الحكمة والمواقف الفارقة والفاصلة. 

ولد البابا تواضروس الثانى فى ٤ نوفمبر ١٩٥٢. 

كان والده يعمل مهندس مساحة، فقاده قدره إلى أن يتنقل بين أكثر من مدينة مصرية، وكأنه يريد أن يعرفه على ربوع الوطن الذى سيكون راعيًا لمواطنيه المسيحيين فيه، وكان أن احتفظ البابا فى ذاكرته بمشاهد حية من المدن التى عبر خلالها، وأصبح له فيها معارف وأصدقاء. 

المدينة الأولى كانت «المنصورة» التى ولد فيها. 

لم يكن والده من أهل الكهنوت، لكنه كان ينتمى إلى أسرة كهنوتية. 

فمن أشقاء والده: المتنيح القمص أنطونيوس باقى، الذى خدم بالزقازيق ثم الولايات المتحدة الأمريكية، والقمص يوحنا باقى، كاهن كنيسة مار مرقس بمصر الجديدة، وابن عمه القمص أنطونيوس محب باقى، بالزقازيق، وابن عمته القمص يوحنا زكريا كاهن فى الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة. 

أما الأم سامية نسيم استفانوس التى ولدت قى قرية من قرى منطقة البرارى بجوار دير القديسة دميانة بالدقهلية، فكانت كبيرة أشقائها، بما منحها فرصة أن تقوم بدور الأم فى حياة أشقائها الستة، وهو ما كان له دور فى صقل شخصيتها ونسجها على نول الشخصيات القوية القيادية القادرة على تصريف الأمور، ومواجهة الشدائد بروح وثابة غير هيابة. 

جرى التعارف بين المهندس «صبحى باقى» وزوجته السيدة «سامية نسيم» عن طريق أحد أشقائها الذى ارتبط معه بعلاقة صداقة. 

تم الزواج فى جو من المحبة والتفاهم وكانت ثمرته الأولى هى الطفل «وجيه»، ولحقته بعد ثلاث سنوات شقيقته «هدى» التى تخرجت فى كلية الهندسة، وبعد أحد عشر عامًا استقبلت الأسرة الابنة الصغرى «إيمان» التى تخرجت فى كلية الزراعة، لكنها توفيت مبكرًا فى العام ٢٠٠٨، فلم يقسم لها القدر أن تشهد جلوس أخيها الكبير على كرسى البابوية. 

كان البابا تواضروس يحب شقيقته «إيمان» حبًا خاصًا وخالصًا، ولا تزال وفاتها تشكل وجعًا كبيرًا فى قلبه. 

قبل وفاتها بسنوات عانت إيمان آلام الإصابة بمرض السرطان. 

كانت تحمل روحًا محلقة فى الحياة، بعد تخرجها فى كلية الزراعة التحقت بالعمل فى أكثر من شركة، وحققت فيها جميعًا نجاحًا شهد لها به الجميع، واختارت أن تتزوج وتستقر فى أسيوط. 

عندما توفيت كان البابا تواضروس فى زيارة لأحد الآباء الأساقفة فى الولايات المتحدة الأمريكية، وعرف بخبر وفاتها وهو هناك، فعاد على الفور وهو يعانى إحساسه بفراق الأخت التى مرت بتجربة مرض عانت منه كثيرًا. 

ذكريات البابا تواضروس فى مدينة المنصورة التى عاش فيها الخمس سنوات الأولى من عمره، ترتبط أكثر بقرية «دميانة» التى كان يعيش فيها جده «نسيم استفانوس»، وجدته السيدة «جميانة»، وفيها قبر والديه الآن. 

فى «دميانة» كانت الخطوة الروحية الأولى للبابا تواضروس الثانى. 

هناك حيث يقع دير «القديسة دميانة» كان يرافق أهله وأقاربه وهم ذاهبون وعائدون من الدير، لم يكن وقتها يعرف معنى الدير ولا حقيقة ما يدور فيه، لكن عقله تعلق به، لا تزال مشاهد الصلوات راسخة فى ذهنه لا تغادره، وقد ارتبط بذكرى خاصة لهذا الدير تحديدًا، فقد كانت مدرسة والدته داخله. 

كان دير القديسة دميانة فى الأصل كنيسة دشنها البابا «إلكسندروس» البابا الـ١٩ فى تاريخ الكنيسة القبطية، كتذكار لرئيس الملائكة ميخائيل ورسم لها أسقفًا، وفى القرن الرابع الميلادى قدمت الإمبراطورة «هيلانة» إلى برارى بلقاس، وشيدت بهذه الكنيسة مقبرة خاصة للقديسة دميانة وإلى جوارها بنت مقابر للأربعين عذراء، وشيدت فوق هذه المقابر كنيسة. 

وفى عهد البابا «خائيل الأول» البابا الـ٤٦ فى تاريخ الكنيسة القبطية أعيد بناء الدير من جديد، وعندما تولى الأنبا بيشوى رئاسته قام بترسيم ٢٥ راهبة فى ٢٤ ديسمبر ١٩٧٨، وفى ٢٠ فبراير ١٩٧٩ اعترف المجمع المقدس به ديرًا للراهبات، وقد وصل عدد الراهبات به الآن إلى أكثر من ٣٠٠ راهبة. 

 

زار البابا تواضروس الثانى دير القديسة «دميانة» أكثر من مرة. 

المرة الأولى كانت فى مارس ٢٠١٥ وكانت هذه أول زيارة لمسقط رأسه، وقام خلالها بترسيم عدد من الراهبات بالدير. 

أراد البابا أن يجعل لهذه الزيارة طبيعة خاصة، قضى ليلة تسبحة وقداس مع الأمهات الراهبات، وترك نفسه لذكريات طفولته التى تجددت وهو فى المكان الذى عرف فيه لأول مرة ماذا يعنى الدير، بل رأى وهو غارق فى صلواته مشاهده وهو يزور الدير مع أقاربه. 

المرة الثانية كانت فى أكتوبر ٢٠١٨ بعد وفاة الأنبا بيشوى رئيس الدير 

كان الأنبا بيشوى قد تنيح فى مطلع أكتوبر ٢٠١٨ ووقتها كان البابا تواضروس الثانى فى زيارة رعوية بالولايات المتحدة الأمريكية، وأرسل من هناك كلمة مسجلة ألقيت فى أثناء صلاة الجناز داخل الكنيسة الكبيرة بالدير. 

بعد عودته قرر البابا أن يزور الدير، وكانت زيارة مفاجئة لم يعلم بها أحد، حيث تواصل المقر البابوى بالدير قبل وصول البابا بساعة وأخبرهم بشأن الزيارة، وعندما وصل البابا توجه مباشرة إلى قبر الأنبا بيشوى ليطل عليه، ويصلى من أجله. 

بعد زيارة قبر الأنبا بيشوى جلس مع الآباء والراهبات لمدة ٣٥ دقيقة، ثم غادر الدير بعد ذلك. 

المرة الثالثة كانت فى مايو ٢٠٢٢ وكانت بمناسبة الاحتفال بعيد دخول العائلة المقدسة إلى مصر، وخلال هذه الزيارة شارك البابا فى عشية عيد دخول العائلة المقدسة إلى أرض مصر، وشاركه الأنبا ماركوس أسقف دمياط وكفرالشيخ ورئيس دير القديسة دميانة بالبرارى، وعدد كبير من الأساقفة والكهنة. 

لم تكن هذه الزيارات أبدًا مجرد زيارات بروتوكولية أو من باب أداء البابا لواجباته الرعوية، بل كانت فى جانب منها زيارات روحية ونفسية، فمهما كبرنا ومهما تشعبت بنا الطرق فإننا نحمل سنوات طفولتنا فى قلوبنا.. لا نغادرها ولا تغادرنا. 

ولأن الله كتب على الأب الترحال، فقد انتقل الابن مع الأسرة إلى سوهاج وظل هناك حتى انتهى من السنة الثالثة الابتدائية. 

تجربة الطفل «وجيه صبحى» فى سوهاج كانت مختلفة. 

دخل فيها مدرسة «عبدالله وهبى» الابتدائية، وقضى بها ثلاث سنوات. 

وخطا خطوته الثانية فى طريقه الروحية، ففى الكنيسة هناك عرف «الأب شنودة» الذى يمكننا اعتباره أستاذه الأول، فقد كان أول كاهن يعرفه ويدرك دوره وما يفعله. 

فى سوهاج مر البابا بتجربة علمته كيف يبدد خوفه ويتخلص منه. 

كل يوم وهو فى طريقه من بيته إلى مدرسة «عبدالله وهبى» كان يمر بسجن سوهاج العمومى، كان يرى الحراس والأسوار العالية والباب المغلق على مَن فيه، وهو ما أخافه بشدة. 

فى أحد الأيام عاد من المدرسة باكيًا، أخذته والدته فى حضنها تخفف عنه رجفته التى وجدته عليها، ولما عرف والده سبب بكائه حاول أن يخفف عنه ما يعانيه، لكنه لم يجد ما يقوله له، حتى اقترح عليه أصدقاؤه أن يصطحب طفله ويزور السجن. 

ورغم أن هذا لم يكن متاحًا، فإن الأب الذى كان راعيًا صالحًا لأولاده اصطحب طفليه وجيه وهدى، وأمام السجن شرح للحراس الأمر، تفهموا ما يقوله، فسمحوا له أن يدخل إلى السجن ويتفقده مع ولديه. 

دخل «وجيه» إلى السجن ولعب معه الحراس وأكل معهم والتقط الأب له صورة بالألوان وهو يقف إلى جوار شقيقته «هدى» ليوثق لهما هذه اللحظة. 

تعلم الطفل «وجيه صبحى» يومها درسًا مهمًا، فهناك أشياء كثيرة فى الحياة يمكن أن تخيفنا، لكننا يمكن أن نبدد هذا الخوف بمواجهته، وهو ما سار عليه طوال حياته، فكل ما يخشاه.. يقتحمه فيبدده. 

ظل البابا تواضروس يحتفظ بذكرياته فى سوهاج طوال حياته، فقد تعلم فيها الكثير، وهو ما ظهر فى زيارته الرعوية الأولى لها فى يناير ٢٠٢٠. 

فى هذه الزيارة زار البابا إيبارشيات سوهاج وتشمل «طهطا وطما والبلينا وأخميم»، وافتتح مدارس عيون مصر «سان جورج» بدائرة مركز سوهاج، والتقى الآباء الكهنة فى اجتماع عام بمقر مطرانية الأقباط الأرثوزكس بسوهاج، وزار كنيسة السيدة العذراء بجرجا، وعقد لقاءً عامًا مع شعب مطرانية البلينا، ودشن عددًا من الكنائس، وقام بعظة فى مطرانية أخميم، وشارك فى قداس وتدشين بمدينة طما والتقى مع الرهبان فى أديرة العذراء مريم بأخميم والأنبا شنودة الغربى والأنبا بيشاى. 

وفى يوليو ٢٠٢٤ التقى البابا وفدًا من جامعة سوهاج برئاسة الدكتور حسان النعمانى، رئيس الجامعة، فى المقر البابوى بالقاهرة. 

وفى هذا اللقاء الذى حضره بعض طلاب الجامعة تحدث البابا عما يربطه بمحافظ سوهاج، قال لهم إنه يعتز بمحافظة سوهاج التى أمضى فيها جزءًا من طفولته، وأوصى الطلاب بأن يتحلوا بروح المحبة والتسامح والجد والاجتهاد. 

ومن سوهاج إلى دمنهور اكتملت رحلة ترحال البابا. 

فى العام ١٩٦١ أصبح الطفل «وجيه صبحى» تلميذًا فى مدرسة الأقباط الخيرية للبنين. 

وإذا كنت تؤمن بالإشارات، فحتمًا ستتوقف أمام هذه المدرسة التى تغير اسمها بعد ذلك بسنوات وأصبح «المحبة»، فقد درس بها «البابا كيرلس السادس والبابا شنودة الثالث»، فلم يكن غريبًا أن يدرس بها البابا تواضروس الثانى. 

لم تكن هذه هى الإشارة الوحيدة، فقد كانت ناظرة المدرسة عندما درس فيها الطفل «وجيه» هى السيدة «شفيقة يوسف عطا الله» شقيقة البابا كيرلس. 

فى هذه الفترة كان أثر الوالد على ابنه وجيه كبيرًا وطاغيًا. 

أخذ بيده فى البداية إلى عالم السياسة برفق. 

كان الرئيس عبدالناصر فى قمة مجده وزهوه، الإذاعة تذيع الأغانى الوطنية، والصحف تتابع خطواته، وفى طفولته تعرف البابا تواضروس على الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل. 

صور متنوعة للبابا فى طفولته وشبابه

كان والده يأتى بجريدة الأهرام كل جمعة، ويطلب من وجيه أن يقرأ مقال الأستاذ هيكل «بصراحة»، ويوجهه إلى أن يضع خطًا تحت الجمل والعبارات التى لا يفهمها حتى يشرحها له، وكانت هذه المقالات مدخلًا مهمًا من مداخله لإتقان القراءة.

يحكى البابا ما جرى، يقول: كان والدى يطلب منى أن أفتح جريدة الأهرام على مقال الأستاذ «هيكل»، وفى نفس الوقت أستمع إلى المذيع «جلال معوض» وهو يقرأ المقال فى الإذاعة، ويجعلنى أمسك قلمًا وأقرأ معه، فتعلمت قراءة الصحف ومعرفة الكلمات التى لا أعرفها. 

بعد سنوات طويلة جلس البابا تواضروس مع الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل.

فى مارس ٢٠١٤ التقى البابا محمد حسنين هيكل فى المقر البابوى، واستمرت الزيارة التى جاءت بطلب من «هيكل» ما يقرب من نصف الساعة. 

خلال الجلسة التى وصفها الطرفان بأنها كانت ودية، تحدث «هيكل» عن البابا كيرلس السادس والبابا شنودة الثالث، وأشاد بدورهما الوطنى. 

أصدرت الكنيسة بيانًا رسميًا عن الزيارة أشارت فيه إلى أنها كانت زيارة محبة ومودة، وقالت عن هيكل: نحن نعرفه بالطبع من خلال كتاباته على صفحات الأهرام منذ عشرات السنين، والأستاذ «هيكل» قاموس للمعرفة ومحلل قوى للأحداث، سواء كانت مصرية أم عالمية، وتمحور الحديث خلال الجلسة حول الكنيسة وتاريخها. 

ونقل بيان الكنيسة عن البابا تواضروس قوله: تناولنا فى لقائنا الحديث عن مصر وتاريخها والأوضاع الراهنة، كما تحدثنا كثيرًا حول تاريخ البطاركة وخص الأستاذ هيكل البابا كيرلس السادس والبابا شنودة الثالث بالذكر، كما تطرق الحديث إلى تاريخ بناء الكاتدرائية المرقسية باعتبار أن عمرها قارب النصف قرن من الزمان، كما تطرقنا لأحاديث عائلية حيث حدثنا الأستاذ هيكل عن أسرته. 

وعندما زار البابا تواضروس مؤسسة الأهرام العريقة فى يناير ٢٠١٨ لافتتاح متحف الأهرام «تاريخ الوطن» تحدث عن هذه الذكريات، قال: أنا أعتز بجريدة الأهرام وقد تعلمت من صفحاتها الكثير، فجزء من بنائى الفكرى كان من خلالها، وكان والدى يعطينى دروسًا منها، وقد تعلمت من مقالات كبار الكتاب مثل زكى نجيب محمود التى كنت أقرأها وألخصها وأدرسها، وكذلك توفيق الحكيم ونجيب محفوظ. 

وفى نوفمبر ٢٠١٩ عندما كان البابا تواضروس الثانى يفتتح المكتبة البابوية المركزية بدير الأنبا بيشوى بوادى النطرون قال إنه ضم إلى المكتبة كتبًا للأستاذ محمد حسنين هيكل، وسأل حضور حفل الافتتاح: ويمكن أن تقولوا لى ولماذا وضعت كتب الأستاذ هيكل فى هذه المكتبة؟ وأجاب عن سؤاله: لأن فى كتبه حاجات عن الكنيسة القبطية وأشهرها فى كتاب «خريف الغضب» الذى تحدث فيه عن الأزمة التى وقعت بين البابا شنودة الثالث والرئيس السادات. 

من بين ما كان يحرص عليه الأب «صبحى باقى» فى هذه الفترة أيضًا كان اصطحاب ابنه «وجيه» إلى الكنيسة صباح كل يوم جمعة، وهو ما يمكننا أن نعتبره الخطوة الثالثة فى حياته الروحية. 

كان الطفل وجيه متعلقًا بوالده، ولهذا كانت وفاته فى ٣ يونيو ١٩٦٧ حدثًا عاصفًا فى حياته، ليس لأنه افتقد الأب والصديق فقط، ولكن لأنه أصبح مسئولًا عن والدته التى توفى عنها زوجها وهى فى الرابعة والثلاثين من عمرها وعن شقيقتيه «هدى وإيمان» على الأقل من الناحية النفسية. 

قررت الأرملة الشابة أن تمنح حياتها وعمرها كله لأبنائها، انحازت لهم عندما اختاروا أن يظلوا فى دمنهور بعد وفاة الوالد، فقد كان هناك اقتراح أن ينتقل الجميع إلى المنصورة حيث مسقط رأس الأم وحيث عائلتها أيضًا. 

فى المرحلة الثانوية بدأت ملامح خريطة حياة البابا تتضح. 

كان يتردد على مدارس الأحد، وبعد أن كان تلميذًا فيها أصبح خادمًا، وبدأ خدمته فى كنيسة الملاك الأثرية مع الأب ميخائيل جرجس الذى كان أب اعترافه. 

وخلال هذه الفترة وقع فى يد البابا كتاب «بستان الرهبان» الذى كان نافذته الكبرى على حياة الرهبان، وليس بعيدًا أن هذا الكتاب تحديدًا- قرأه البابا فى ليلة واحدة بعد استعارته من مكتبة مدرسته عمر مكرم الثانوية- كان عاملًا مهمًا فى دفع البابا دفعًا إلى أن يترك الحياة المدنية ويدخل إلى الدير تاركًا وراءه كل ما قد يشغل شابًا يحمل بين يديه مستقبلًا باهرًا. 

الكتاب الذى قرأته أنا أكثر من مرة هو أشهر الكتب فى التراث المسيحى المصرى، ويضم قصص حياة وأقوال وتجارب وخبرات وجهادات ما يقرب من ألفى راهب وناسك عبر ثلاثة قرون، وقد حذرنى كثيرون من قراءته لأنه يحتاج إلى مرشد روحى يدلك على ما فيه دون الوقوع أحيانًا فى بعض الأقوال المتناقضة أو التجارب المتنافرة، لكننى أعترف بأننى خرجت منه بحالة غير الحالة التى دخلته بها، ولا يزال فى مكتبتى بين الكتب المقربة منى رغم أن هذا يثير دهشة الكثيرين من حولى. 

فى يناير ٢٠٢٠ كان البابا تواضروس الثانى يجتمع مع عدد من كهنة إيبارشيات سوهاج، وفى هذا الاجتماع أعلن عن أن الكنيسة أصدرت كتاب «بستان الكهنة» على غرار كتاب «بستان الرهبان»، وأنه أشرف على إعداده وجمع فيه عددًا من أقوال وخبرات عدد من الكهنة الأتقياء من تاريخ الكنيسة حتى القريب منه، وأنه كان قد عرض فكرة الكتاب على عدد من الآباء الكهنة، فعكفوا على البحث حتى انتهوا منه. 

وقال البابا لكهنة سوهاج إن الكتاب سيكون مفيدًا للتعامل فى الحياة الكنسية، وإنه مهم جدًا ومقسم لعشرة أبواب، ويضم العديد من التفاصيل الكثيرة على غرار «بستان الرهبان»، كما يضم أقوالًا عديدة لمجموعة كبيرة من الآباء الكهنة، وفى نهاية اللقاء قام بتوزيع نسخ من الكتاب على المجتمعين معه. 

وفى فبراير ٢٠٢٠ كتب البابا تواضروس الثانى مقاله الافتتاحى بمجلة الكرازة عن «بستان الكهنة». 

يقول البابا فى مقاله: من الكتب التراثية فى كنيستنا كتاب «بستان الرهبان»، وهو كتاب قديم وتم تجديد طباعته عدة مرات، ويحوى خلاصة الحياة الرهبانية والتلمذة الديرية من خلال قصص موجودة لشخصيات كثيرة تقدم نماذج وقدوة للحياة الرهبانية، وأيضًا أقوالهم وسيرهم ومواقف حياتهم التى استودعوها بالتلمذة الحقيقية فى أبنائهم الروحيين، حتى صاروا هم معلمى الرهبنة فى أصالتها وعمقها التاريخى. 

ويكشف البابا عن أنه على غرار هذا الكتاب الثمين قام آباء وخدام كنيسة مار مرقس القبطية الأرثوذكسية فى مصر الجديدة بالقاهرة بإعداد كتاب اسمه «بستان الكهنة»، حيث جمعوا فيه أقوال نحو سبعين من الشخصيات المباركة ما بين بطاركة ومطارنة وأساقفة وكهنة وشمامسة ورهبان، ثم قاموا بتبويب هذه الأقوال تحت عشرة أبواب. 

الباب الأول: العناية الإلهية.. معية الله وخلاصه وحمايته ومحبته ونعمته ورحمته وقوته. 

الباب الثانى: الحروب الروحية.. الخطية والأفكار واللسان والإدانة والذات والغضب. 

الباب الثالث: التجارب والضيقات.. أنواعها وبركاتها وأسبابها، وكيف نواجهها؟ وعمل الله معنا. 

الباب الرابع: الجهاد الروحى.. مراحل الجهاد، وكيف نجاهد فى مسيرة طويلة؟ 

الباب الخامس: وسائط النعمة.. الصلاة والتسبيح والمطانيات والكتاب المقدس والقراءة الروحية والخلوة والصوم والنسك. 

الباب السادس: الفضائل.. مثل المحبة وطول الأناة والتسامح والعطاء والفرح والسلام والشكر والحكمة والأمامة والتلمذة والتواضع. 

الباب السابع: الكنيسة والأسرار.. الممارسة الروحية والتقوية للأسرار الكنسية. 

الباب الثامن: الحياة الاجتماعية.. الأسرة المسيحية والحرية والنجاح والالتزام وقوة السلوك المسيحى. 

الباب التاسع: الخدمة والخادم.. معنى الخدمة والخادم الحقيقى ومسيرة التكريس الكامل. 

الباب العاشر: الحياة الأبدية.. السماء والوصول إليها، القديسون وغربة العالم. 

تم تدعيم الكتاب، كما يقول البابا، بجوار الأقوال المذكورة بمواقف وقصص من حياة الآباء ذات معانٍ روحية تقدم خبرات روحية عملية لمن يطالع الكتاب. 

ويشير البابا إلى أن الكتاب سيكون سندًا قويًا للكثيرين فى جهادهم الروحى وسلوكهم المستقيم وسط هذا العالم، كما سيكون مرشدًا ومرجعًا لحياة الأب الكاهن الذى يريد أن يعيش بركة الكهنوت وكرامته وتأثيره القوى فى نشأة وتربية ورعاية الأجيال، لأنه من تحت يد الكاهن فى كل كنيسة يخرج الإنسان الفاضل والتائب، ويخرج الخادم والخادمة والشماس والراهب والراهبة، والمركس والمكرسة، والكاهن والأسقف والبطريرك، كما يتخرج من تحت يديه كل أسرة حديثة تتكون فى مخافة المسيح، فالكاهن له دور قوى وفعال ومؤثر فى حياة المؤمنين فى كنيستنا المقدسة.

ويستشهد البابا بما قاله المسيح له المجد: إن الحصاد كثير ولكن الفعلة قليلون، ويؤكد أن المقصود هنا الكهنة الفعلة أى أصحاب التأثير الإيجابى فى حياة المؤمنين بنموذج حياتهم وقدوتهم وتعاليمهم الأمينة المخلصة. 

ويبعث البابا بتحية إلى الآباء والخدام الذين تعبوا بالحقيقة فى إعداد هذا البستان الذى كان يتوق له منذ زمن بعيد، فقد قدموا عملًا أمينًا لخدمة الكنيسة أجيالًا وأجيالًا، ولمنفعة الذين يبحثون عن الحياة الروحية الأصيلة وعن الخدمة الكهنوتية الأمينة. 

ويختم البابا مقاله بقوله: إننى أحسب أن هذا الكتاب الفريد سيكون بلا شك علامة فارقة فى تواصل الأجيال، وفى تسليم الوديعة الأمينة فى نقاء وإخلاص، وكما نصلى فى طلبات القداس «أعط بهاء للإكليروس»، سيكون هذا البستان وسيلة حقيقية فى حفظ هذا البهاء والنقاء، وتقديمه من خلال عمل الأب الكاهن مع كل رعية وفى كل كنيسة، إننى أدعو كل خادم وكل كاهن لاقتناء هذا الكتاب وقراءته بتأنٍ، ومطالعته باستمرار ليحفظ خدمته فى مسارها السليم، كما استودعه المسيح هذا الكهنوت المبارك من أجل رعيته فى كل مكان. 

لم يكن لـ«بستان الرهبان» أثر عابر فى حياة وتكوين البابا تواضروس الثانى إذن، ولكنه لعب دورًا كبيرًا فى تشكيله، وهو الدور الذى ظل باقيًا ومؤثرًا فى مسيرته الروحية، وهو ما دعاه إلى أن يوجه بإصدار كتاب على نهجه لمعرفته بقيمته وأهميته فى الحياة الروحية ليس لرجال الكهنوت فقط، ولكن فى حياة كل أبناء الكنيسة.

ما قام به البابا تواضروس يضع أيدينا، كذلك، على ملمح مهم من ملامح شخصيته، فهو مجدد حقيقى، كان يمكنه أن يكتفى بكتاب «بستان الرهبان» التراثى، يعيد طباعته بشكل واسع ويدعو الجميع إلى قراءته ودراسته، لكنه مع إيمانه الكبير بأهمية وقيمة الكتاب، قرر أن يكون مجددًا، أن تكون هناك نسخة جديدة من الكتاب تستوعب تجارب جديدة، وخبرات جديدة، وأقوالًا جديدة، لأن الحياة تتطور، ومؤكد أن رجال الكهنوت الجدد لديهم ما يمكن أن يضيفوه لهذا العمل التراثى العظيم. 

هذا الملمح تأكد فى نهج البابا ومنهجه فى العمل من أجل كل ما يخص الكنيسة، يؤمن بتراثها وما قدمته، لكنه يؤمن بضرورة التحديث والتطوير.. فالحياة تسير إلى الأمام دائمًا. 

كانت النقلة الروحية الكبيرة التى أحدثها «بستان الرهبان» فى حياة الطالب وجيه صبحى دافعًا لما هو أكثر، فأثناء دراسته بدأ خدمته بكنيسة رئيس الملائكة، بعد أن اجتاز فصول إعداد الخُدام، كما قام بتأسيس المكتبة الاستعارية فى الكنيسة. 

لعبت الأقدار دورًا كبيرًا فى المفارقات التى مرت بحياة البابا. 

فبعد نكسة ١٩٦٧ تابع وجيه صبحى الأنباء التى وردت إليه عن تجلى السيدة مريم العذراء فى كنيستها بالزيتون بالقاهرة، وهو الحدث الجلل الذى هز مصر كلها، وتابعه المسلمون والمسيحيون على السواء، رأى الجميع أن العذراء تجلت لتخفف عن كواهل المصريين عبء الهزيمة التى أتت على الأخضر واليابس. 

وتشاء الأقدار أن يتم الاحتفال بمرور خمسين عامًا- فى ٢٠١٨- على تجلى العذراء الكبير والبابا تواضروس يجلس على كرسى البطريركية. 

فى عظته بكنيسة الزيتون التى قدمها البابا فى الاحتفال بمرور نصف قرن على ذكرى التجلى، قال إن كل من شاهدوا ظهور العذراء مريم شعروا بسلام داخلى حقيقى فى عالم مضطرب، فهى نموذج رائع للإنسان الذى يتمتع بالسلام الداخلى، وقرأ آية من سفر النشيد «من هى المشرقة مثل الصباح، جميلة كالقمر، طاهرة كالشمس، مرهبة كجيش بألوية». 

وختم البابا عظته بقوله: الإيمان هو المصدر الرئيسى للسلام الداخلى رغم طغيان الأمور المادية هذه الأيام، والسيدة العذراء حصلت على السلام الداخلى من خدمتها للناس، فسلامك من إيمانك. 

أنهى البابا تواضروس دراسته الثانوية، وبدأ فى طريق جديد من طرق حياته، حصل على مجموع ٧٧ بالمائة فى الشهادة الثانوية، وقرر أن يدرس بكلية الصيدلة. 

ولم يكن هذا الاختيار بالصدفة، بل كان عن قناعة وخبرة وتجربة. 

فى تجربة مرض والده كان وجيه صبحى يتردد كثيرًا على الصيدلية ليجلب له الدواء بنفسه، وترسخ فى ذهنه أن الدواء هو مصدر الراحة، فقرر أن يكون مصدرًا لراحة الناس جميعًا، ولا يزال يذكر كلمة قالتها له إحدى جاراته عندما عرفت أنه التحق بكلية الصيدلة، قالت له: أنا أخاف من الدواء أكثر من الداء. 

لم تشكل هذه الكلمة منهج البابا تواضروس فى دراسته للصيدلة التى رفع خلالها شعارًا ثلاثيًا، هو «الصيدلة علم وفن وإنسانية»، ولكنها شكلت أيضًا منهجه فى الحياة، فهو ينظر فى الدواء لكل مشكلة تعترض حياته، ويحاول أن يكون دواؤه دقيقًا، حتى يكون مفيدًا، لأن الدواء إن لم يكن كذلك فإنه يتحول إلى أزمة. 

عندما تحدثت مع البابا قبل تسجيل شهادته على أحداث ٣٠ يونيو، لمست تأثير دراسته للصيدلة فى كلامه وفى طريقة تفكيره وفى صياغته لردوده على الأسئلة، فالذى أتقن تركيبات الدواء يعى جيدًا أن الحياة ليست بسيطة، ولكن هناك طوال الوقت عوامل كثيرة متداخلة، ودون معرفتنا بنسب هذه العوامل، فإن المعادلات التى تعترض طريقنا فى الحياة لا تكون دقيقة. 

فى المرحلة الجامعية توسعت مدارك البابا تواضروس الثانى السياسية. 

لقد شهد النكسة وعانى آثارها كما عانى المصريون جميعًا، وعندما جاءت حرب أكتوبر وحققنا فيها الانتصار الكبير تفاءل بالقادم خيرًا. 

وهنا يمكننا أن رسم خريطة العلاقة السياسية والنفسية التى ربطت بين البابا تواضروس والرئيس السادات، وأعتقد أن المساحة النفسية فيها أكبر وأبلغ أثرًا.

رأى البابا فى الرئيس السادات بطلًا قادرًا على قيادة الحرب وقادرًا على خداع العدو باقتدار شديد، كما رأى فيه القائد المنتصر القادر على صياغة السلام من منطقة القوة، وليس منطقة الضعف، ولكنه لم يستطع أن يغفر له قرارات كان لها أبلغ الأثر على حياة المصريين. 

فى المجال العام لم يتجاهل البابا الآثار القوية لقرارات الانفتاح الاقتصادى التى بدأ السادات فى تنفيذها، لم تكن الآثار الاقتصادية وحدها هى التى تشغله، بل توقف طويلًا أمام الآثار الاجتماعية والثقافية على الشخصية المصرية التى تأثرت بقوة واقتربت من مرحلة التفكك والانهيار. 

وفى المجال الخاص لا ينسى البابا الخطأ الكبير للرئيس السادات عندما وقف معاديًا المجتمع المصرى كله، وأصدر قرارًا بالقبض على ١٥٣٦ من رموز المجتمع المصرى وعزل البابا شنودة الثالث وتحديد إقامته، وهو ما ترك أثرًا سلبيًا لدى كل من سبق وأبدوا إعجابهم الشديد بما حققه السادات من إنجازات سياسية. 

بعد سنوات الدراسة بدأ البابا تواضروس خوض الحياة العملية. 

كان عليه أن يبدأ رحلة العمل، هو الذى أصبح مسئولًا عن أسرته بعد رحيل والده، فمن كلية الصيدلة إلى قرية «شرنوب»، حيث بدأ فى تنفيذ التكليف الحكومى، وفى الوقت نفسه واصل رحلة التعلم، فبعد تخرجه وعمله فى المصنع حصل على دبلومة فى الصيدلة الصناعية من كلية الصيدلة بجامعة الإسكندرية، ولأن ترتيبه كان الأول على زملاء الدبلومة الخمسة، فقد تم تعيينه مديرًا لأحد مصانع الأدوية الحكومية فى دمنهور. 

ظل وجيه صبحى يعمل فى هذا المصنع حتى أتم عشر سنوات وعشرة أشهر وعشرة أيام، لم يتركه إلا عندما تقدم باستقالته فى طريقه إلى الدير، ليبدأ حياته التى اختارها بعناية الله وتوجيهه. 

خلال رحلة العمل تعرض وجيه صبحى لاختبار كبير. 

بعد أن أنهى دراساته العليا وجد نفسه مطلوبًا للعمل فى إحدى الدول الخليجية بعقد عمل لمدة أربع سنوات، وهو ما كان يعنى نقلة مادية كبيرة فى حياته. 

كان إلى جوار عقد العمل منحة دراسية لمدة أربعة أشهر لزمالة هيئة الصحة العالمية بإنجلترا، وهو ما كان يعنى أنه سينفق من موارده على هذه الدراسة. 

وبعقلية الصيدلى جلس يقارن وجيه صبحى بين الفرصتين. 

أمسك بورقتين، الورقة الأولى كتب فى أعلاها: عقد العمل، وفى أعلى الورقة الثانية كتب: المنحة الدراسية، وقسم كل ورقة إلى نصفين بالطول، وبدأ يكتب مزايا وعيوب الفرصتين أمامه، ليجد نفسه مدفوعًا للموافقة على أن يسلك طريق المنحة الدراسية، فعقد العمل يمكن أن يتكرر، لكن المنحة الدراسية لا يمكن أن تتكرر بسهولة. 

رغم مسيرته الدراسية المميزة، ورغم انتظامه فى عمله بالمصنع الحكومى، إلا أن نداء الرهبنة لم يفارقه، بل لن أكون بعيدًا عن الواقع عندما أقول إن الأقدار كانت تعده ومبكرًا جدًا لمهمته الكبرى. 

هل يمكننا أن نعود مرة أخرى إلى العام ١٩٧١، وتحديدًا إلى اليوم الثانى عشر من شهر ديسمبر. 

كان وجيه صبحى لا يزال طالبًا فى السنة الأولى بكلية الصيدلة، وكان يتم فى هذا اليوم سيامة نيافة الأنبا باخوميوس أسقفًا للبحيرة ومطروح والخمس مدن الغربية. 

من هذه اللحظة دخل الأنبا باخوميوس إلى حياة البابا تواضروس. 

ظل ملازمًا له، تعلم على يديه، وعرف منه حكمة السنين وتجاربها وخبرتها، وفى سبتمبر ١٩٧٥ تمت سيامة وجيه شماسًا فى كنيسة رئيس الملائكة بدمنهور على يد الأنبا باخوميوس. 

فى يناير ٢٠٠٢ كان البابا تواضروس يشارك فى الاحتفال بمرور خمسين عامًا على ترسيم الأنبا باخوميوس أسقفًا، وهو الاحتفال الذى اعتبر البابا أن له مذاقًا خاصًا، فقد حبا الله البحيرة بنيافة الأنبا باخوميوس، الذى كان هدية أرسلها الله للناس يخدم بينهم بالروح والحق.

قبل هذا الاحتقال بأيام- ٣١ ديسمبر ٢٠٢١- كان البابا تواضروس قد كتب مقالًا مطولًا جعل منه افتتاحية مجلة الكرازة، وكان عنوانه فقط «الأنبا باخوميوس» وبدا منه المعرفة الدقيقة من البابا تواضروس الثانى بكل ما يخص ويتعلق بالأنبا باخوميوس. 

اختار البابا الكتابة عن الأنبا باخوميوس من خلال ثلاث زوايا. 

الأولى أنه قامة وطنية، فهو يحب الوطن، تعلم على أرضه فى كل مدارس البلاد وجامعاتها، وتخرج وعمل وخدم، وحب الوطن يلازمه فى كل وقت، وهو ما تجلى فى مواقف عديدة عبر الخمسين سنة الماضية، فقد حفظ السلام فى مواقف كثيرة، ويميل إلى الهدوء والعمل العاقل الرزين الذى يحفظ السلام. 

والثانية أنه قامة كنسية.. فالبحيرة فى بداية سيامته أسقفًا فى العام ١٩٧١ كانت جزءًا مضافًا إلى إيبارشية الغربية، وكان مطرانها السابق مقيمًا فى طنطا، وكان يتفقد البحيرة فى مرات قليلة جدًا، فقد كانت بالفعل نسيًا منسيًا والخدمة بها محدودة جدًا، لكن منذ وطأت قدماه أرض البحيرة بدأ عملًا حمل فيه الخبرة التى عمل بها، فقد سبق له العمل فى أول كنيسة امتدت خارج مصر وكانت فى الكويت عام ١٩٦٢، وكان وقتها شماسًا مكرسًا يحمل اسم سمير خير، وعندما التحق بالدير انتدبه البابا كيرلس السادس للخدمة فى السودان. 

يذكر البابا للأنبا باخوميوس أنه لم يكن ينسى أبدًا مَن خدمهم، والغريب أنه كان يحفظ أسماءهم، وعندما كان يقابل زواره من السودان، ومن بينهم أبناء الجيلين الثانى والثالث، كان يقول للواحد منهم أنت ابن فلان، أو أنت بنت فلانة، ويفسر البابا ذلك بأنه كان خادمًا أمينًا، والخادم الأمين يحفظ أسماء من خدمهم. 

وفى اعتزاز شديد يقول البابا: عندما حبانا الله بهذا الخادم فى إيبارشية البحيرة، بدأ عملًا متسعًا جدًا، ولم يكن العمل فى البحيرة وهى المركز، ولكن امتد إلى ربوع خدمته الجغرافية المتسعة التى نصفها فى مصر ونصفها خارج مصر. 

والثالثة أنه قامة حكيمة.. فعندما دخلت الكنيسة فى أزمة ١٩٨١ قبيل اغتيال الرئيس السادات، كانت الأمور فى أعلى درجات التوتر، وتم اختيار الأنبا باخوميوس ليكون أحد أعضاء اللجنة الخماسية التى تدير الكنيسة بعد عزل البابا شنودة الثالث، وخلال عمل اللجنة كان طوال الوقت صوتًا للحكمة والعقل فى حفظ سلام الكنيسة والوطن.

وعندما حدثت بعض المشكلات الكنسية فى أستراليا سنة ١٩٧٤ انتدبه البابا شنودة الثالث للذهاب إلى هناك- وكان لا يزال أسقفًا شابًا- ليحل المشكلة التى وصفها الجميع بأنها كانت صعبة، وبحكمته وهدوئه استطاع أن ينجح فى مهمته، ويشير البابا- دون تفاصيل بالطبع- إلى أن هذه المشكلة كان يمكن أن تؤثر بشدة على مستقبل عمل الكنيسة فى بلاد المهجر. 

وعندما اختارته العناية الإلهية أن يكون قائمقام خلال فترة حرجة للغاية فى تاريخ الوطن وتاريخ الكنيسة، استطاع بالروح وطول البال وبنوع من التعقل فى كل قرار وفى كل خدمة أن يحافظ على سلام الوطن والكنيسة، فهو ينادى دائمًا بأن صنع السلام أولوية أولى فى حياة الإنسان، وكما هو مكتوب «طوبى لصانعى السلام لأنهم أبناء الله يدعون». 

يحتل الأنبا باخوميوس فى حياة البابا تواضروس الثانى مكانة الأب والمرشد والصديق والرفيق، وأعتقد أن ما قالاه عما يربطهما أقل كثيرًا مما شكلا علاقتهما على مدار ما يزيد على نصف القرن. 

كانت خطوات البابا تواضروس الثانى إلى الرهبنة تتم على عين الأنبا باخوميوس، وكان نشاطه الكنيسى يتم برعايته. 

ففى العام ١٩٨١ التحق وجيه صبحى بالكلية الإكليريكية فى الإسكندرية وتخرج فيها فى العام ١٩٨٣ ببكالوريس العلوم اللاهوتية والكنيسية، وفى العام ١٩٨٤ قام بتأسيس معرض للكتب المسيحية أثناء الأنشطة الصيفية فى كنيسة رئيس الملائكة ميخائيل بدمنهور، وكان هدفه تشجيع خُدام التربية الكنسية على تأسيس مكتبات خاصة بهم. 

فى العام ١٩٨٤ اقترب البابا تواضروس خطوة واسعة من الرهبنة، فقد بدأ خدمته فى منطقة «كينج مريوط»، وخلالها كان يذهب مرة كل شهر ويقضى هناك يومين عادة ما كانا الخميس والجمعة لتأسيس الخدمة هناك. 

هناك ٣ تواريخ مهمة فى حياة البابا تواضروس الثانى. 

الأول هو ٢٠ أغسطس ١٩٨٦ عندما توجه إلى دير القديس الأنبا بيشوى بوادى النطرون طالبًا الرهبنة. 

والثانى هو ٢ أبريل ١٩٨٧ عندما ارتدى الملابس البيضاء وصار بالفعل طالب رهبنة. 

والثالث هو ٣١ يوليو ١٩٨٨ عندما تم ترسيمه راهبًا باسم الراهب «ثيؤدور الأنبا بيشوى» بيد البابا شنودة الثالث. 

السؤال الذى لا بد أن يكون ضروريًا هنا هو: هل كان دخول البابا تواضروس الثانى عالم الرهبنة أمرًا سهلًا؟ 

لقد كان وحيد والدته، وكان العمود الفقرى للبيت بعد رحيل والده، فكيف ترك البيت وراءه، وكيف تعاملت والدته مع الأمر؟ وكيف ترك عمله فى مصنع الأدوية الحكومى الذى حقق فيه نجاحات شهد بها الجميع؟ 

كان صعبًا على السيدة سامية استفانوس أن تترك ولدها الوحيد ليدخل إلى الدير، تنقطع علاقته بالعالم، يترك كل شىء وراءه ويذهب إلى الله، لكنها لم تمانع. 

قالت له: إذا كنت تريد الدير.. فعليك أن تفعل هذا فورًا ولا تأجله. 

كانت عونًا له بعد أن عرفت أن هذه رغبته.. وأدرك هو أن هذا قدره. 

عندما مات الوالد صبحى باقى سليمان كانن البابا تواضروس فى الخامسة عشرة من عمره، وعندما ماتت والدته فى ٢٩ مارس ٢٠١٤ كان فى العام الثانى والستين من حياته، وهو ما جعلها الأكبر أثرًا وتأثيرًا فى حياته. 

كان البكاء هو اللغة الأكثر صدقًا وتعبيرًا عن حال البابا وهو يودع والدته، عندما عرف الخبر شعر وكأنه عاد طفلًا صغيرًا هو الذى كان قد مضى عليه فى كرسى البطريركية ما يزيد على العامين بشهور قليلة، أغلق عليه باب قلايته وجلس يبكى فراق الحبيبة التى عانت فى سنواتها الأخيرة من قسوة الألم. 

لا يخلو حديث للبابا من إشارة إلى أمه، صاحبة تأثير طاغ عليه. 

كان يرى الدنيا بعينيها. 

فى العام ١٩٦٨ كان يسمع أخبار تجلى العذراء فى كنيستها بالزيتون، لم يره بنفسه، لكنه عبر عن علاقته الوثيقة بأمه على هذه المساحة، قال: رأيت تجلى العذراء فى عينى أمى.. كنا فرحين بهذا السلام الذى بعثته فى نفسها. 

وعندما نعرف أن هذه السيدة تعلمت كنسيًا فى دير القديسة دميانة وعاشت فى أجوائه الروحية فى طفولتها، فلن نتعجب من استيعابها المهمة الكبيرة التى نذر ابنها نفسه إليها، والمفارقة أنه بعد أن بدأ طريقه فى سلك الرهبنة كان يسمع من بعض آباء البحيرة الذين يزورونه فى الدير ما يشبه العتاب، كانوا يقولون له: ألن تعود إلى أمك، فى إشارة إلى صعوبة أن يكون الابن الوحيد للعائلة راهبًا، إلا أنه لم ينصت إلى ما قالوه، لأنه كان يعرف أن أمه كانت تدعو له أن يثبته الله على الطريق الذى اختاره. 

كان البابا قريبًا من أمه طوال حياته، لكن فى محنة مرضها اقترب أكثر. 

لمدة عامين كاملين كانت أم البابا تتلقى علاجها فى مستشفى القديس مار مرقس بمنطقة سيدى بشر بالإسكندرية، وخلالهما كان دائم التردد عليها دون أن يُشغل أحدًا بذلك، فقد اعتبر أن الأمر يخصه وحده، كان يدخل إلى غرفته وعندما يجد آخرين يقفون بجواره كان يطلب منهم راجيًا أن يتركوه معها وحده، وعندما أشارت بعض الصحف إلى مرضها وزيارته لها استاء بشدة.. فقد كان الأمر يخصه دون سواه. 

فى جنازتها اكتفى بالجلوس على كرسيه بالقرب من جسد أمه المسجى أمامه. 

لم يتحدث.. اكتفى بالبكاء. 

طلب من الأنبا باخوميوس أن يتحدث بالنيابة عنه، وبالفعل وقف أستاذه ومعلمه ورفيقه فى طريقه الروحى ليصف السيدة سامية نسيم إستفانوس بأنها تمثل الكنيسة الراعية لأبنائها.. لا تتركهم ولا تفرط فيهم، بل تهب نفسها لهم مهما كانت الظروف. 

الملمح الأساسى فى رحلة البابا تواضروس منذ دخوله عالم الرهبنة هو حبه للتعليم ورعايته الأطفال والشباب وحرصه عليهم، وهو ما نجده ملازمًا له فى كل محطاته ونقلاته. 

فى ٢٣ ديسمبر ١٩٨٩ تم ترسيمه قسًا، وفى ١٥ فبراير ١٩٩٠ انتقل إلى الخدمة فى إيبارشية البحيرة ومطروح كراهب وكاهن لخدمة الشباب والخدام والتربية الكنسية، وفى ١٥ يونيو ١٩٩٧ تم ترسيمه أسقفًا عامًا باسم «الأنبا تواضروس» للخدمة بإيبارشية البحيرة ومطروح والخمس مدن الغربية، ولم يكن اختياره لاسمه «الأنبا تواضروس» فيما يبدو مصادفة، بل جاء تعبيرًا عما سيكون بعد ذلك.. فمعنى الاسم هو عطية الله.. وقد كان عطية الله لنا بالفعل. 

خلال الفترة التى فصلت بين ترسيمه أسقفًا وتوليه منصب البطريرك، أعاد تشكيل فلسفته فى الرعاية والخدمة من جديد، فقد كانت عينه فى المقام الأول على الأطفال والشباب، وكان طبيعيًا أن يتولى فى العام ٢٠٠٥ لجنة خدمة الطفولة بالمجمع المقدس، وهى اللجنة التى انبثقت من اللجنة المجمعية للرعاية والخدمة. 

فى أحد لقاءاته التليفزيونية قال البابا عن اهتمامه الكبير بالأطفال: كنت أخدم الأطفال منذ صغرى، كنت أنظر فى وجوههم وأتخيل مستقبلهم، وأعتبر أنهم رسائل إلهية، فهم يحملون رسائل من ربنا، رسائل بساطة وفرح، وأوقات أجدهم يقولون عبارات لا نعرفها نحن الكبار، بل يجب أن نتعلم منها، كما أننى أشعر بسعادة كبيرة عندما أجلس مع الأطفال وأحكى لهم الحكايات.. أعتبر أن وقتى معهم هو فسحتى.. وهو أيضًا قمة سعادتى. 

ويلفت البابا الانتباه إلى فلسفته العميقة فى اهتمامه بالأطفال، فالإنسان يكون سعيدًا أو تعيسًا من طفولته، يقول: كلما كانت طفولة الإنسان سعيدة كانت حياته رائعة، وأعتقد أن من يعانون فى حياتهم، فى الغالب لم يحصلوا على نصيبهم الكافى فى طفولتهم. 

وكان لافتًا لى أيضًا أن يكون كتاب البابا تواضروس الأول وهو «هذا إيمانى.. حوار مسلسل فى قانون الإيمان» الذى صدر فى العام ١٩٩٠ موجهًا بالأساس إلى الشباب. 

فى مقدمة الطبعة الأحدث من الكتاب، كتب البابا مقدمة ألقى فيها الضوء على ما قالم به. 

يقول: صدر هذا الكتاب لأول مرة فى العام ١٩٩٠ فى مطرانية البحيرة ومطروح والخمس مدن الغربية، وتوالت طباعته بعد ذلك فى عدة إصدارات متنوعة، وهو موجه بالأساس إلى سن الشباب فى مرحلتى ثانوى والجامعة «١٨- ٢٥»، حيث تكثر الأسئلة والتساؤلات حول إيماننا الأقدس، ولذا جمعنا مئات من هذه الأسئلة ورتبناها منطقيا، وحسب عبارات قانون الإيمان، ووضعناها فى صورة حوارية مسلسلة فى ١٤٨ سؤالًا وجوابًا، وقد التزمنا الدقة والبساطة مع العمق، لنقدمها بشكل علمى ومناسب، لتكون مرجعًا شاملًا ومختصرًا فى آن واحد لكل شبابنا فى كل أسرة مسيحية، وأيضًا لتكون مفيدة لكل من يسألنا عن سبب الرجاء الذى فينا. 

سيرة البابا تقول إنه عاش طوال عمره وعينه على المستقبل، ولأن الأطفال والشباب هم وقود المستقبل، فقد نذر نفسه لتعليمهم وإرشادهم ولا يزال.

رحلة البابا تواضروس الثانى قبل أن يصل إلى كرسى البطريركية كانت رحلة تعلم، حصل على خبرات عديدة فى التعامل مع الأزمات وكيف يتصدى لها دون أن يثير ضجيجًا، فهو لا يسعى إلا إلى السلام.. والسلام فقط، وربما لهذا كان هو اختيار الله ليقود الكنيسة فى فترة هى الأصعب والأعقد فى تاريخ الوطن وتاريخ الكنيسة أيضًا.