الخميس 14 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المتهافتون.. سقوط المثقفين فى فخ الشائعات من البردويل إلى سانت كاترين

افتتاحية العدد الرابع
افتتاحية العدد الرابع والأربعين

- معظم الشائعات تخرج من صفحات وحسابات عدد من المثقفين المعتبرين الذين يثق فيهم الناس

المفروض أنه كاتب كبير، شاعر وسيناريست ومؤلف أغان، له جمهور عريض يثق فيه، حساباته على شبكات التواصل الاجتماعى متخمة بالمتابعين، جمهوره ينتظر رأيه بشغف، يتعاملون معه كما لو أنه أوتى الحكمة من أطرافها.. ومع ذلك تجده ينشر معلومة لقيطة فيتداولها متابعوه دون مراجعة.. ثقة فيه. 

والمفروض أنه باحث كبير، له فى البحث العلمى علامات، حاصل على جوائز دولية، يجرب حظه أحيانًا فى كتابة الروايات، يلازم حساباته على شبكات التواصل الاجتماعى لا يكاد يفارقها ليلًا ولا نهارًا، يكتب فى صحف شتى.. ومع ذلك يخترع واقعة ويحتفى بها، فيندفع من يصدقونه ويشاركون الواقعة على حساباتهم... وعندما تنفى الجهة التى افترى عليها بما قاله.. لا يلتفت. 

والمفروض أنها كاتبة وإعلامية وروائية ناشئة، وزعيمة فى أوقات الفراغ.. ومع ذلك بجرأة تصل إلى حد التبجح تنشر كل ما تقابله فى طريقها دون تدقيق، يأخذ الآخرون عنها دون أن يراجعوا ما تنشره فيقعوا فى شر أعمالهم. 

يمكننى أن أعدد لك مئات بل آلاف النماذج والأمثلة التى تسلك هذا المسلك يوميًا، فتفسد ضمن ما تفسد على الناس حياتهم، فما ينشرونه يشيع حالة من الإحباط والاكتئاب، فهم يتجاهلون ما يحدث على الأرض من أخبار إيجابية، ويهتمون بكل ما يسىء ويعكر أمزجة الناس، اعتقادًا منهم أنهم بذلك يلعبون دورًا فى نشر الوعى وبث اليقظة وإحياء العقول الغافلة وإنعاش القلوب الميتة.. رغم أن ما يقومون به لا علاقة له، لا بالوعى ولا باليقظة. 

يحلو للمثقفين فى مصر أن يتعاطوا عبارة نجيب محفوظ الخالدة «آفة حارتنا النسيان». 

لكنهم لا ينتبهون إلى أن آفة حارتنا أصبحت التهافت. 

فى المعاجم اللغوية يأتى التهافت بأكثر من معنى. 

فتهافت الجدار أى تساقط قطعة قطعة. 

وتهافت الثوب أى قدم وبلى. 

وتهافت الأعصاب أى انهيارها واضطراب صاحبها. 

وتهافت القوم أى أنهم يتساقطون أمواتًا وصرعى. 

وتهافتت الآراء يعنى نقض بعضها بعضها. 

وتساقطت الحجج أى تساقطت حول بعضها تناقضًا وضعفًا. 

وفى تراثنا كتاب الإمام أبى حامد الغزالى «تهافت الفلاسفة»، الذى يعتبره البعض ضربة كبرى، لما وصفه البعض باستكبار الفلاسفة وادعائهم التوصل إلى الحقيقة فى المسائل الغيبية بعقولهم، فقد ذهب الغزالى فى كتابه إلى فشل الفلسفة فى إيجاد جواب لطبيعة الخالق، وصرح بأنه يجب أن تبقى موضوعات الفلسفة فى المسائل القابلة للقياس والملاحظة، مثل الطب والرياضيات والفلك، واعتبر الغزالى أن محاولة الفلاسفة لإدراك شىء غير قابل للإدراك بحواس الإنسان منافيًا لمفهوم الفلسفة أساسًا. 

ومن باب المعارضة كتب «ابن رشد» كتابه «تهافت التهافت»، الذى رد به على تهافت الغزالى، ويمثل ردة الفعل الفلسفية على الهجمة القوية على الفلسفة ومحاولة هدمها. 

ورغم أن ما يحدث على الأرض الآن فى مصر لا علاقة له بمعانى المعاجم اللغوية، ولا بجدل «تهافت الفلاسفة» ثم «تهافت التهافت»، إلا أننى لا أستطيع تجاهل ما يمكنها أن تعيننا به لفهم ما يحدث من حالة تصل إلى حد العبث. 

ما يفعله عدد كبير من المثقفين المصريين الآن ليس إلا عملية هدم للمجتمع، يتهافتون بمعنى أنهم يتساقطون صرعى فى سوق الشائعات، وما يدهشك أنهم لا يرددون هذه الشائعات فقط بل يختلقونها اختلاقًا، وهو اختلاق ابن الجهل الشديد الذى تعانى منه النخبة المثقفة المصرية. 

لقد فضحت الأيام الماضية خيبة هذه النخبة وهزالها، وتضافرت الوقائع التى تؤكد ذلك. 

الواقعة الأولى كانت نشر حسابات عديدة على السوشيال ميديا، ومنها حسابات معتبرة، لمقطع فيديو للحظة عبور سفينة إسرائيلية ترفع العلمين المصرى والإسرائيلى بالمجرى الملاحى لقناة السويس، البعض التقط صورة من الفيديو ونشرها مستقلة، لتبدأ موجات الندب العام، وتعليقات الحسرة، وبكائيات الندم وتمنى الموت قبل أن يشاهدوا هذا الفيديو أو يروا هذه الصورة أمامهم. 

بدأت القصة تُنسج على مهل، وبدأ التلسين على الدولة المصرية، التى كذبت على الناس عندما قالت إنه لا يوجد أى تعاون عسكرى مع إسرائيل من أى نوع، فها هو التعاون فى أكبر صوره، سفينة إسرائيلية تعبر قناة السويس فى عز الحرب على غزة، فكيف تقولون إنه لا يوجد تعاون؟ 

ضع جانبًا البيان الرسمى الذى صدر عن هيئة قناة السويس، الذى أكدت فيه أنها ملتزمة بتطبيق الاتفاقيات الدولية التى تكفل حرية الملاحة البحرية للسفن العابرة للقناة، سواء كانت سفنًا تجارية أو حربية دون تمييز لجنسية السفينة. 

الهيئة أشارت كذلك إلى أنها فيما تفعله تلتزم باتفاقية القسطنطينية التى وقعت عام ١٨٨٨، والتى رسمت الملامح الأساسية لطبيعة التعامل الدولى لقناة السويس، وحفظت حق جميع الدول فى الاستفادة من هذا المرفق العالمى. 

وتأمل معى حالة التهافت التى وجدنا فيها أنفسنا على هامش هذه الواقعة. 

فعندما ساق من يدعون الغضب حجتهم بأن مصر تسمح للسفينة الإسرائيلية بالمرور وقت إبادة غزة، وبذلك فإن مصر شريكة فى هذه الإبادة الجماعية، كما أنها لا تراعى مقتضيات الأمن القومى، ثم إن رفع العلم المصرى إلى جانب العلم الإسرائيلى إهانة كبرى لا يجب أن نتسامح مع من فعل ذلك. 

انقض من يعرفون القوانين واللوائح والأصول الدولية المرعية على هذه الحجج. 

فرفع العلم المصرى إلى جوار العلم الإسرائيلى لا يشكل أى إهانة، ولكن ما تم التعارف عليه أن عادة السفن عند الدخول أو الخروج من قناة أو مضيق أو ميناء أجنبى وأثناء وجودها كدليل على الاحترام والالتزام بالقواعد والقوانين لتلك الدولة ترفع علم الدولة التى تدير المجرى الملاحى، كما أن رفع العلم المصرى إشارة إلى أن السفينة العابرة لا تحمل أى نوايا أو خطط عدائية لها، والنهاية أن ما حدث لا يوجد لا مدلول سياسى ولا عسكرى له.. والأهم أنه لا يعنى أى شراكة من أى نوع. 

التهافت ظهر بأعلى صوره، عندما استرد المتزعمون موجة الغضب، فقالوا إن اتفاقية القسطنطينية لا تلزمنا، لأننا لم نكن من الأطراف التى وقعت عليها، وأن الاتفاقيات الدولية تقول أيضًا إنه يجب منع السفن الحربية العابرة، إذا كانت تمثل خطرًا على الأمن القومى المصرى، وإسرائيل تشكل تهديدًا وخطرًا على الأمن القومى طوال الوقت، وعليه فكان يجب منع السفينة. 

تهافت يصل بنا إلى منتهى العبث، حجج متبادلة، ولا أحد يريد أن يقتنع، أو يلتزم بالقانون وحجج العقل والمنطق. 

الذين دفعوا بأن اتفاقية القسطنطينية لا تلزمنا، ومن بينهم إعلامى مفروض أنه كان كبيرًا ومؤثرًا، لا يعرفون أن الاتفاقية كان لها جذر مصرى فى العام ١٨٥٦ عندما أقرت مصر حرية الملاحة فى القناة بشكل محايد لجميع السفن مهما كان حجم الصراعات بينها طالما أن مصر ليست طرفًا فيها. 

المادة ١٤ من اتفاقية العام ١٨٥٦ نصت على أن القناة البحرية الكبرى مفتوحة على الدوام بوصفها ممرًا محايدًا لكل سفينة. 

فى العام ١٨٨٢ احتلت إنجلترا مصر، وأصبح لها النفوذ الأكبر والتصرف فى شئون القناة، وكان من بين ما فعلته فى العام ١٨٨٣ أنها رفعت حصتها فى مجلس إدارة القناة، وأنشأت لها مكتبًا فى لندن، كما لفرنسا مكتب فى باريس. 

اعترضت فرنسا على ما قامت به إنجلترا فى القناة، ونتيجة التشاحن بينهما، تقدمت لندن باقتراح نظام لإدارة القناة يرضى جميع الأطراف، ووقعت إنجلترا وفرنسا فى مارس ١٨٨٥ معاهدة دولية تنظم المرور فى القناة. 

الصورة الأخيرة كانت فى أكتوبر ١٨٨٨، عندما وقعت ٩ دول على اتفاقية من ١٧ مادة تنظم مرور السفن فى القناة، والمادة التى تهمنا هنا، هى: تكون قناة السويس البحرية على الدوام حرة مفتوحة فى زمن السلم والحرب لكل سفينة تجارية أو حربية دون تمييز بين جنسياتها.

فى هذا الوقت كانت مصر تحت سيادة الدولة العثمانية، التى وقعت على الاتفاقية ممثلة لمصر، وهو ما يجعل العمل بالاتفاقية ملزمًا، فمصر لا تعيش فى فراغ. 

ليس هذا دفاعًا عن حق إسرائيل أو غيرها فى المرور فى القناة وقت السلم أو وقت الحرب، ولكننا نتحدث عن قواعد عامة، حتى لو كانت إسرائيل وقت توقيع المعاهدة لم تظهر إلى الوجود من رحم الشر الذى قذف بها فى وجوهنا. 

التدليس وصل مداه عندما ادعت اللجان الإلكترونية معروفة المنبع والهوى أن مصر منعت السفن القطرية من المرور فى قناة السويس وقت الأزمة التى بدأت معها فى العام ٢٠١٣، وبمراجعة الوقائع وجدنا أنه لم يحدث شىء من هذا على الإطلاق، ولم تقدم مصر على مثل هذه الخطوة لا مع قطر ولا مع غيرها، لكن للأسف الشديد هناك من يستمع ويردد الكلام ويحاول أن يقنعنا بصحة موقفه. 

ولمزيد من التدليس دفع المدلسون بصورة ليست دقيقة ولا صحيحة، لسفينة لم تعبر قناة السويس خلال الأيام الماضية، وهو ما حاول لقيط هارب أن يروجه. 

وطبقًا لمن بحثوا ودققوا فإن الصورة تعود إلى العام ١٩٩٨ وهى لفرقاطة بريطانية مرت فى قناة السويس يوم الجمعة ٢٠ فبراير ١٩٩٨، وكان عبورها على خلفية احتمال هجوم أمريكى على العراق فى ذلك الوقت، وكان هتاف المصريين الذى ظهر فى الفيديو بـ«الله أكبر» اعتراضًا طبيعيًا وفطريًا على ضرب العراق، رغم أن من كانوا يحكمون العراق هم من تسببوا بحماقتهم فى استدعاء هذه الفرقاطات والسفن الحربية. 

ما يدهشك أكثر أن الذين روجوا للصورة ونشروها كذبًا وإفكًا وتدليسًا لم يعتذروا، ولم يعترفوا بخطئهم، اكتفى بعضهم بحذف الصورة، وكأن شيئًا لم يكن، فعلوا ذلك دون حياء ولا خجل، والغريب أنهم يواصلون النشر على صفحاتهم ببراءة شديدة. 

أفهم أن يفعلها اللقيط الهارب الذى يصدر نفسه على أنه زعيم وطنى كبير، رغم أنه ليس إلا منتفع ومستنفع وكريه وحاقد ومدلس من صغره، فهو يخدم أجندة أسياده الذين يدفعون له بسخاء ليعيش خارج مصر، وإن لم يفعل ذلك فيمكن أن يموت من الجوع، لكن ما الذى يدفع من يعيشون بيننا إلى ترويج هذا الغثاء؟ إلا إذا كانوا متهافتين وجهلة ويعانون من مشكلات حادة فى وعيهم وإدراكهم ومعرفتهم بالدور الذى يجب أن يقوموا به فى مجتمعهم. 

الواقعة الثانية كانت فيما تردد عن طرد رهبان دير سانت كاترين وإخلائه تمامًا لأغراض استثمارية، رأيت حالة من التداعى الشديد على هامش إطلاق هذه الشائعة، التى لو كان أتعب من روجوها أنفسهم بعض الشىء لوصلوا إلى الحقيقة بسهولة.

الدير كانت له ممتلكاته وأراضيه المعروفة والمحددة للجميع، لكن حدث كما يحدث دائمًا أن يتوسع رهبان الدير ويمدوا سيطرتهم على أراض مجاورة للدير، وهو ما حدث مع ٢٩ قطعة من أراضى الدولة. 

دفع ذلك محافظ جنوب سيناء السابق خالد فودة إلى رفع دعوى قضائية ضد الدير لتسترد الدولة قطع الأراضى الـ٢٩، أى أن الأمر مجرد نزاع قضائى، انتهى لصالح الدولة، لم يذهب أحد بالقوة لإخراج الرهبان من الأراضى التى ليست لهم، ولم يلجأ أحد لأى شكل من أشكال العنف. 

لكن الجهل والمرض دفعا البعض؛ سعيًا إلى إدانة الدولة بأى شكل، لتصوير الأمر على أنه محاولة لهدم الدير على رءوس أصحابه، وطردهم منه شر طردة، رغم أن الأمر لا علاقة له بالدير ولا أراضيه القانونية. 

الخبر المتهافت الذى نشر فى أحد المواقع الصغيرة، كان سببًا فى هذا اللغط بشكل كبير. 

فقط كتب الموقع المجهول نصًا: بعد ١٥٨٣ سنة بدأت الحكومة المصرية فى مقاضاة رئيس دير سانت كاترين أمام المحكمة؛ لطرده هو وكل القائمين على الدير وتسليمه وما عليه من مبان للدولة المصرية واعتبار هذه المبانى تعويضًا عن استغلال المكان المدة الطويلة الماضية. 

الحكاية لها أصل لا شك فى ذلك، لكن تصوير الأمر بهذه الصورة لم يكن له أى أصل، وتصدير الأمر على أن الدولة تحركت بعد ١٥٨٣ عامًا كلام فراغ، فحدود الدير معروفة ومحددة، لكن خلال السنوات الماضية تم تجاوزها، وهو ما دفع الدولة لأن تحافظ على أراضيها، وهو أمر أعتقد أنه من المفروض أنه لا يغضب أحدًا، اللهم إلا هؤلاء الذين لا يريدون أن يكون للدولة وجود من الأساس، وهؤلاء نعرف أهدافهم وما يخططون له. 

الواقعة الثالثة كانت الترويج الكبير لبيع بحيرة البردويل إلى مستثمرين إماراتيين، ورغم سخافة الحديث عن بيع الأصول المصرية، ورغم أن هناك أكثر من شائعة تم ترويجها فى هذا السياق وتم الرد عليها وتفنيدها، إلا أنه لا يزال هناك من يصدق وينصب سرادقات البكاء، وكأننا أصبحنا أمة بلا عقل. 

لقد كشفت الدولة عن خطتها الكاملة لتطوير وتحديث بحيرة البردويل، وهو كلام ليس جديدًا على الإطلاق، فهناك خطة بدأت منذ سنوات لتطوير وتحديث البحيرات والجزر الموجودة فى النيل، لكن أصبحت هناك حالة من الحساسية المطلقة تجاه الاستثمار، وهى حساسية ناتجة عن عدم معرفة أو لنقل عن جهل شديد بما يحدث على الأرض. 

وقد تقول إننى متجاوز فى حق المثقفين، فلماذا أدينهم فيما يحدث، رغم أن فئات عديدة من الشعب المصرى تروج هذا الكلام وتتبناه وتدافع عنه؟ 

سأقول لك ببساطة إن لومى وعتابى، وربما تجاوزى فى حق المثقفين يأتى لسببين: 

الأول أن معظم هذه الشائعات تخرج من صفحات وحسابات عدد من المثقفين المعتبرين الذين يثق فيهم الناس، وهو ما يكسب هذه الشائعات مصداقية من نوع ما، فيكون انتشارها أسرع وعلى أوسع نطاق. 

والثانى أن المثقفين أنفسهم يتخلون عن دورهم فى الشرح والتوضيح والتفسير والتحليل؛ ليحموا الناس من سخافات الشائعات، وهو تخل فى معظم الأحيان متعمد ومقصود، لأنهم لا يريدون إزعاجًا أو مواجهة لجان إرهابية تسعى إلى إرباك المشهد سعيًا إلى إرباك الدولة كلها. 

ما نأسف له حقًا هو أن آفتنا الكبرى أصبحت التهافت الكبير.

وهو تهافت يأخذ فى طريقه الأخضر واليابس.

فهل نفيق؟ .. أتمنى ذلك.