المظلوم.. رحلة البحث عن الريس حفنى
- حجبت «قصة زواجه» من سيدة عرباوية احترامًا لرغبة أسرته
على أعتاب الصبا فى شقة صغيرة محدوفة بشارع الشهيد عبدالمنعم رياض فى مدينة سوهاج كنت أعيش مع عدد من أبناء قريتى والقرى المجاورة.. جئنا ندرس فى المدينة بقروش قليلة وأحلام تطول السماء.
كانت الغرف فقيرة جدًا.. مجرد «سراير سفارى» وشوية كبايات قزاز فى المطبخ ووابور بشرايط عشان الأكل والشاى والذى منه.
لا توجد فى تلك البلاد البعيدة وسائل للمتعة بالنسبة لطلاب فى ثانوى.. فقط سينما أوبرا، التى تعرض ثلاثة أفلام فى بروجرام واحد كل يوم إثنين، وأهمها أفلام نادية الجندى، وسينما قصر الثقافة وسينما الحرية.. السينمات الثلاث لم تعد موجودة الآن.
وبجوا السينما ساحة للعب كرة القدم .. ولا شىء آخر.. فماذا نفعل؟!
كان الكاسيت هو متعتنا الأكبر.. كل يوم شريط يحضره أحدنا ويعزم الكل فى الشقة على سماعه من بعد العشا ولحد الفجر..
كانت شرائط الشيخ إمام المهربة وألبومات منير والحجار هى المتعة بعينها.. وساعات ميادة الحناوى.. وهذا هو ما اعتدناه طيلة سنوات.
فى يوم طويل بارد من ليالى شتاء الصعيد فاجأنا «حسام همام» بأن أخرج «شريطًا» لم نتبين اسمه وحايلنا حتى نعرف.. لكنه اختال علينا مزهوًا «ده اللى ماحدش فيكم سمعه قبل كده» ودارت بكرات الشريط فى الكاسيت القديم وخروشته معتادة مع تلك الألبومات المجهولة.. وبدأ الصوت يتسلل إلينا
«متولى لما شاف الصورة
بقى ذليل ونفسه مكسورة
وقام سريع راح للكومندان
يقول أنا مش بخد العشر والجزا
أنا إن عملت غلط أتجازى
أمانة يا بيه ادينى أجازة»
لم نتعرف على صوت المغنى.. جميل.. لكننا لم نعرفه.. فقط عرفنا أن «جرجا» هى بطل القصة، وأن زميلنا فى الغرفة المجاورة، والذى «طق الشرار» من عيونه فجأة.. اعتبر ما فعله حسام «إهانة» .. وقامت الخناقة التى كانت تنتهى بنا فى القسم.
مين شفيقة ومين متولى.. ومين حفنى أحمد حسن ده.. لم أكن أعرف وقتها.. تجاهلت رواية حادثة الشرف التى جرت بقرية مجاورة لقريتى وخطفنى حفنى، ورحت أتلقف هداياه من شريط إلى آخر.. ميدان العتبة حيث «شرايط الكاسيت المضروبة» لعشرات من مطربى مصر الكبار والصغار .. لكننى أبحث عن حفنى.
سألت جدى.. وقد كان مفتونًا بالغناء الشعبى إن كان قد شاهد ذلك الرجل فى أفراح بلدنا.. فلم يدلنى سوى على «جابر أبوحسين» ومن بعده فتحى الهوارى وبنات مازن والشيخ محمد اليمنى والتونى والعجوز.. سمعتهم جميعًا.. لكن ظل عم جابر أبوحسين وحفنى يسيطران على حواسى.
أعجبتنى لعبة «الجناس» التى يلعبها فى حروف الكلام.. لم أكن أعرف أنها تسمى المتلوتى، وشرحها لى الشاعر والأكاديمى الكبير د. صلاح الراوى فيما نحن نحاول اكتشاف أسرار الفلكلور من رواد وأساتذة المعهد العالى للفنون الشعبية.. وسألت عن حفنى مجددًا فلم يدلنى أحد على طريقه.. فقط عرفت أنه كان يعيش فى الإسكندرية.. وأنه تزوج من المطربة الشهيرة «روح الفؤاد» صاحبة الأغنية الرائجة عن عروس البحر «سوق بينا يا أسطى على الكورنيش.. ناكل دره ونشرب منجا».. وكلما سافرت إلى هناك بحثت عنه وعن حفنى فلم أعثر على أى دليل.. فانصرفت إلى ما أنا فيه حتى عام ٢٠٠١، حيث التقيت الشاعر جمال بخيت فى إحدى السهرات وبدأ الكلام عن الشعر والغناء حتى وصلنا لحفنى، ففاجأنى بقوله «تعرف إن فؤاد حداد قال لى.. أنا ما سمعتش أجمل من متلوت حفنى».. واندهشت وكيف وصل إلى الإمام فؤاد حداد من الأصل، وأخبرنى بخيت أن الإذاعة المصرية كانت تقدم شفيقة ومتولى أثناء وجود حداد فى سجن الواحات وكانت متعته فى وقتها.
«عاتبنى.. يمكن انا مظلوم»
وفجأة النجم محمد محيى.. وقد كان فى عز نجوميته ورواج تجربته يصدر ألبومًا اسمه «مظلوم» والأغنية الرئيسية فيه من كلمات الريس حفنى.. ونجحت الأغنية بشكل مذهل خاصة أن محيى أعاد توزيعها بلحن جديد وبطريقتين مختلفتين فى نفس الألبوم.. وطاردنى الكليب الذى أخرجته فيدرا لشهور لتعيد إلى رأسى مجددًا فكرة البحث عن حفنى.
«الطريق إلى بنى مر»
سنوات أخرى مضت حتى دعانى الكاتب حلمى النمنم، وزير الثقافة الأسبق، لزيارة إحدى قرى أسيوط فى فعالية ثقافية تقيمها الوزارة فى الجبل الغربى.. ومن ضمن جدول الزيارة المرور ببيت جمال عبدالناصر فى بنى مر.. وذهبت إلى هناك وفى رأسى أن أجد أحدًا من أقارب حفنى.. فقد ذكر الكثيرون من المتابعين والمؤرخين للأسف أنه من تلك القرية لأنه غنى لجمال عبدالناصر.. ووقعت أنا نفسى فى ذلك الفخ عندما وضعت فصلًا فى كتاب «نهاوند أسطوات الغناء الشعبى عن حفنى».. لكن أحد الزملاء أخبرنى أنه من «العقالية» قنا وليس «عقال أسيوط» وكل علاقته بعبدالناصر أنه ارتبط به وغنى له فى فترة الستينيات، وأن حفنى ذكر بنى مر فى إحدى أغنياته..
«وصبرت ع الحلوة وع المرة
ما تنازلش أبدًا ولا مرة
تعيش يا فارس بنى مرة
يا بطل العروبة يا جمال»
وللأسف لم أجد أى دليل على أى وجود لعائلة حفنى فى «بنى مر» ولا فى أسيوط بحالها.. فكان أن رحت أفتش من عقود ألبوماته مع منتجيه عسى أن أجد فيها ما يشير إلى عنوانه.. وكان أن وجدت الحاج جمال الغالى أحد حفظة تراث حفنى، الذى فاجأنى أنه من سوهاج من «العوكلية» فى مركز البلينا، وأنه يعرف أبناء حفنى، وبدأت رحلة مختلفة تمامًا.
«المتحدة تستعيد حفنى»
انشغلت لفترة مؤجلًا فكرة السفر للبلينا إلى أى زيارة عائلية لقريتى بالمرة.. حتى هاتفنى الزميل شريف سعيد رئيس قطاع الوثائقى بالشركة المتحدة طالبًا مشاركتى فى كتابه فيلم عن «أغنية النصر»، وأثناء حوارنا حدثنا فى مواضيع شتى ومن بينها رغبته فى إحياء سيرة رموز التراث الشعبى فى مصر باعتبارهم رأس حربة فى معركة الحفاظ على الهوية، فذكرت له عددًا من الأسماء من بينها حفنى، وكان أن أخبرنى بأنه جاهز لتصوير فيلم عنه فور كتابته.
تواصلت مع كثيرين فى البلينا والإسكندرية حتى عثرت على أسرته.. وحددنا موعدًا للتصوير مع ٢٥ ضيفًا من مناح مختلفة كلها تصب فى طريق الريس «حفنى أحمد الصاوى» وكان هذا هو اسمه الذى لا نعرفه.
وفرت المتحدة فريق عمل محترفًا بقيادة المخرج المبدع خالد النساج، وانطلقنا إلى العوكلية آخر قرية على حدود سوهاج مع قنا فى حضن الجبل الغربى.. واستقبلنا آل حفنى بكرم وحفاوة ليست غريبة على أحفاد «إيزيس»، ولمدة يومين وفر لنا آل حمد فى الساحل قبلى وأهل العوكلية والحاج مكافح عبدالرحمن والحاج عمر عطا والمخرج أشرف عبدالحميد والزميل حشمت العدوى كل ما نحتاج إليه، بما فيه فرقة المطرب الشعبى رجب الصاوى، أحد تلاميذ حفنى الذين أعادوا صياغة أعماله فى شكل جديد.
لمدة ٣٦ ساعة لم ينم أى من أفراد الفريق والكل يكتشف عالمًا مبهرًا منحنا إياه ذلك الرجل الأُمى الذى لم يتعلم القراءة والكتابة، لكنه استطاع وهو مجرد عامل بناء أن يخترق عالم القاهرة والإسكندرية ويصل إلى أسماع عبدالناصر، الذى منحه فرصة أن يصل إلى العالم كله عبر الإذاعة المصرية وحفلات أضواء المدينة.
نفس ما لقيناه من احتفاء بسيرة حفنى وعالمه فى سوهاج.. وجدناه فى الإسكندرية حيث سهل لنا الزميل محمد فؤاد، المستشار الإعلامى لمحافظة الإسكندرية، فرصة دخول حوارى وأزقة الإسكندرية التى عاش فيهاه حفنى معظم سنوات حياته. حيث تزوج وأنجب وغنى وفرح وعلا ثم سقط منكسرًا بعد رحيل ناصر، حتى أعاد صلاح جاهين مواله الأشهر فى فيلم شفيقة ومتولى فعاد حفنى فى محاولة أقرب للاعتذار عن مواله الأول بموال جديد اسمه «ليه نظلم شفيقة» لكنه لم ينجح فانزوى راحلًا بعد رحلة مرض قصيرة.. ليعود مجددًا بعد أكثر من ربع قرن عبر صوت محمد محيى وحمزة نمرة ومنصات التواصل الاجتماعى التى راحت تستعيد مقاطع من أكثر من ألف موال، وأغنية قدمها هذا الرجل الذى امتلك صوتًا نادرًا حسب عدد من المتخصصين الكبار فى عالم الموسيقى.
«اكتشاف .. على هامش الرحلة»
لا أدعى أننا قدمنا حفنى الذى ترونه فى الفيلم الذى يحمل اسمه كل ما يستحق.. حجبت «قصة زواجه» من سيدة عرباوية ومن المطربة روح الفؤاد احترامًا لرغبة أسرته من ناحية ولكونها ليست الغرض والغاية.. الهدف هو «اقتناص» محفزات استعادة بعض ملامحنا التى تشكَّل عبر منممات متعددة «صورة وروح مصر».
على هامش الرحلة، وفيما كنا نقوم بتصوير أحد الأهالى أثناء تخميره للطين النى، وفيما التف حولنا عشرات من الأهالى ظنًا منهم أننا من «الحى» أو من رجال الإزالات وقف رجل عجوز فى الثمانين من عمره يتابع.. ويسأل عما نفعله، فأخبره زميلنا أحمد العربى، المنتج الفنى، فكان أن قال «أبويا هوه اللى علم حفنى الغنا».. وفى لحظتها أسر لى العربى بما قال الرجل.. وعندما بدأت محاورته اكتشفنا أنه «شاعر شعبى قوال» لا تقل ارتجالاته عن ارتجالات حفنى نفسه وتفوق مهارات الكثيرين ممن يتسيدون ساحة «تصنيع وتعليب الأغانى».. ليصبح هذا الرجل «عم العربى قاسم» هو الدليل الذى منحنا إياه حفنى أحمد حسن مجددًا عن «الكنز» الذى يختبئ تحت ظل كل نخلة فى غيطان مصر.. مصر العصية الفتية الولادة التى لن تتوقف أبدًا عن «المنح» و«البناء» والغناء.