الجمعة 27 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

المثقف العفوى.. سمير درويش: أنفقت من جيبى 100 ألف جنيه فى 5 سنوات على مجلة «ميريت»

سمير درويش
سمير درويش

- أنا مثقف عضوى.. وأصدرت 26 كتابًا استنزفت فيها عمرى

- لم أرد على الادعاءات بخصوص «ميريت» لأنى لا أنجرف وراء «العاطلين عن الإبداع»

- تعلمت من محمد حسنين هيكل ألا أهدر وقتى فى سجالات «خايبة»

- الرواية التاريخية ليست رواية بل تسهم فى تزييف الأحداث

ليس مبدعًا فقط، فهو يصف نفسه بـ«المثقف العضوى»، أى الذى يمارس عملًا إداريًا ثقافيًا على أرض الواقع يفيد به المجتمع. هو أيضًا ليس شاعرًا فقط، ويقترب من إصدار عمله الروائى الثالث، بعد 19 ديوانًا شعريًا. كما أنه ليس أديبًا فقط، بل عقلية جدلية تشتبك مع الموروث والثوابت والأفكار التقليدية فى الدين والثقافة والكتابة الإبداعية.

إنه الشاعر والروائى سمير درويش، الذى سبق وترأس تحرير مجلة «الثقافة الجديدة»، ومجلة «ميريت» الإلكترونية، التى توقف إصدارها بسبب عراقيل إدارية، وخاض معارك ثقافية حول «قصيدة النثر»، ومستقبل الشعر التقليدى وغيره من الأنواع الأدبية، ويستعد حاليًا لنشر روايته الجديدة بعنوان «ليس بعيدًا عن رأس الرجل.. عزيزة ويونس»، عن دار «بتانة» للنشر والتوزيع.

«حرف» تحاور سمير درويش فى السطور التالية، حول روايته الجديدة، والجدل المثار عن فترة رئاسته لمجلة «مريت»، إلى جانب آرائه فى الجوائز الأدبية و«قصيدة النثر»، وغيرها من الموضوعات المهمة الأخرى.

 سمير درويش يشارك فى مناقشة حول ديوان «الوقت خارج الوحدة»  للشاعرة د. نجاة على

■ تُصدر قريبًا روايتك الثالثة «ليس بعيدًا عن رأس الرجل» لكنك ما زلت تُلقب بالشاعر.. فما الذى تمثله الأعمال السردية فى مشروعك الأدبى؟

- مشروعى الأدبى الأول والكبير هو الشعر، أصدرت حتى الآن ١٩ ديوانًا، أولها «قطوفها وسيوفى» عام ١٩٩١، وهى تجربة طويلة نسبيًّا بدأتْ بالقصيدة التفعيلة التى أصدرتُ فيها ٣ دواوين، قبل أن أنتقل إلى «قصيدة النثر» بحثًا عن جماليات مختلفة وطرق جديدة لصناعة الدهشة، كما حاولت تطوير تجربتى عبر عدة محطات، وأسهمت بجهد- ولو قليل، ومع أقرانى- فى إضافة اقتراحات بنائية إلى هذا النوع الجديد.

لكننى مشروع مثقف عضوى أيضًا، فقد شاركت بالعمل فى- وإدارة- بعض المؤسسات الثقافية، مثل اتحاد الكتاب والإدارة العامة لثقافة الجيزة والاتحاد العام للأدباء والكتاب العرب ومعرض القاهرة الدولى للكتاب، كما شاركت فى فعاليات ومؤتمرات ثقافية داخل مصر وخارجها، كما كتبت- وهذا هو المهم- مقالات ثقافية فى الفكر الثقافى والدينى والسياسى والنقد الأدبى، طبعًا بقدر ما استطعت.

من نفس المنظور أيضًا- أقصد عبء التجريب والاشتباك مع الواقع- كتبت روايتين فى بداية الألفية، صدرتا عامى ٢٠٠٤ و٢٠٠٦، ثم عُدت لأكتب روايتى الثالثة «ليس بعيدًا عن رأس الرجل- عزيزة ويونس»، عندما اتخذت القرار الصعب بإيقاف مجلة ميريت الثقافية، وجدت أننى أريد أن أكتب عن أشياء شاركت فيها وأجلت الحديث عنها سنوات، كما أن توقف المجلة حررنى، وأعطانى وقتًا كافيًا للقراءة والكتابة.

أنا لست بعيدًا عن السرد منذ بداياتى، لكننى أكتبه لأستريح، وأتأمل، وأحكى.

■ تجربتك مع مجلة «ميريت» كبيرة ومليئة بالتفاصيل.. هل يمكنك أن تُحدثنا عن نشأتها وظروف إصدارها ثم توقفها؟

- جميل أنك سألتنى عن «ميريت الثقافية»، فهى فرصة أن أحكى حكايتها.. أنت تعرف أننى قليل الكلام ولا أدخل طرفًا فى سجالات، خاصة إذا كان طرفها الآخر من أولئك الذين قال عنهم الدكتور طه حسين إنهم لا يعملون ويسوؤهم أن يعمل الناس.

حكاية «ميريت» تبدأ من لحظة استقالتى الطوعية وبكامل إرادتى ووعيى من رئاسة تحرير مجلة الثقافة الجديدة، قبل موعد انتهاء مدتى بـ١٥ شهرًا، فعندما وجدت أن المضايقات الإدارية لن تجعلنى سعيدًا وأنا أعمل، كتبت استقالة من عشر كلمات دون إبداء أسباب، حتى لا يظن أحد أننى أستقيل وأريد من يقول لى لا تفعل! وقتها فكرت فى تأسيس مجلة شهرية إلكترونية تكون صوت التنويريين فى كل الدول الناطقة بالعربية، وخارجها إن أمكن، من ناحية لأن العالم كله يتجه نحو الإصدارات الإلكترونية، ومن ناحية أخرى حتى أتمكن من رفع سقف الحرية دون قيود المؤسسات الحكومية. 

المشكلة كانت فى أمرين: تكاليف إعداد المنتج، طبعًا مع الوضع فى الاعتبار أننا متطوعون، نعمل بدون أجر، والثانى عدم التمكن من دفع مكافآت نشر للكتاب والشعراء.

■ لذلك لجأت إلى دار ميريت لتحمل نفقات الإصدار؟

- نعم.. فى البداية بحثت عن دار نشر تستطيع أن تتحمل جزءًا من العبء، لكن دارين على الأقل اعتذرتا، فعرضت الأمر على الناشر محمد هاشم- عن طريق الروائيين محمد داود والراحل حمدى أبوجليل- فتحمس للفكرة، واتفقنا أن يدفع المبلغ الزهيد الذى تتقاضاه المنفذة الفنية- العنصر الوحيد الذى يعمل بأجر رمزى جدًّا، وهى شريك أساسى فى فريقنا- لكنه لم يواظب بعد العدد الأول أو الثانى، فكنا نجمع هذا المبلغ من أموالنا الخاصة: سارة الإسكافى وعادل سميح وأنا.

بعد عام وشهرين تقريبًا من بداية إصدار المجلة داهمنا وباء «كورونا»، وبالتالى اعتكف الجميع فى بيوتهم، ولم يعد بمقدور الزميلين مواصلة المساهمة، إلى جانب أن المنفذة اضطرت للاعتذار، فبحثنا عن بديل بثلاثة أضعاف الأجر، فاضطررت إلى تحمل العبء المالى وحدى، خاصة أننى انتقلت للاستقرار فى نيويورك، وأصبحت لا أحتاج معاشى الضئيل، فأنفقت منه ما يقرب من مائة ألف جنيه على المجلة فى السنوات الخمس.

حاولت وقتها أن أضع مجلس التحرير فى صورة أزمة مبلغ صغير نعجز عن الوفاء به، لم يتحمس أحد فقررت حل مجلس التحرير، الذى يكتفى أعضاؤه بقراءة أسمائهم فى الترويسة، ولا يشاركون بأفكارهم فى حل أزمة صغيرة كتلك، والاكتفاء بهيئة التحرير التى تقلصت هى الأخرى حتى أصبحتُ وحيدًا، أنجز هذا العمل الضخم بمفردى، من أول اقتراح الموضوعات وتكليف الكتّاب والباحثين، حتى الإشراف على تنفيذ الماكيت، وإرسال العدد للمهتمين بكل الطرق، وإرسال الأخبار للصحفيين، ثم إعداد بوسترات لتنشر على جروب المجلة على «فيسبوك» بشكل يومى. أليس عملًا مرهقًا؟

■ لم يتطوع أحد من المثقفين لحل الأزمة؟

- الأمانة تقتضى أن أشير إلى أن زملاء عرضوا علىّ المساهمة ماليًّا: سأذكر هنا أسماء الدكتور أحمد نبوى والدكتور شريف صالح ووليد علاء الدين، لكننى رفضت ذلك بشكل قطعى، فلست الشخص الذى يقبل أموالًا من أى شخص أو أى جهة، إلى جانب أننى أصدر المجلة لأشبع رغبتى فى فعل شىء مهم وتأدية رسالة أراها سامية، فإن عجزت فلست مطالبًا بشىء أمام أحد، وهو ما حدث بالفعل بداية هذا العام، حين أوقفت الإصدار عندما وجدت أن العمل أصبح مرهقًا.

■ لماذا لم تبحث عن مؤسسة ترعى المجلة؟

- حقيقة لا أخفيك أننى كنت أتمنى أن ترعاها أى مؤسسة مصرية، رسمية أو خاصة، كهيئة الكتاب مثلًا أو هيئة قصور الثقافة أو المجلس الأعلى للثقافة، وكنت سأسعد أن أواصل العمل متطوِّعًا خصوصًا أن مكافأتى الشهرية كرئيس تحرير مجلة الثقافة الجديدة كانت ٥٠٤ جنيهات و١١ قرشًا ولم أشتكِ! لكن أحدًا لم يتواصل معى، وأنا بالطبع لا أتواصل مع أحد، اكتفيت بتقدير كل النصائح التى تلقيتها من الزملاء بالبحث عن رعاة ممولين، وأخبرتهم جميعًا بأننى شاطر فى صنع المجلات، لكننى لست الشخص المناسب لتسويقها.

أريدك أن تعرف- أخيرًا- أننى فخور بتجربة مجلة مريت الثقافية، وأعتبرها تجربة رائدة وغير مسبوقة، ومن الصعب تقليدها فى المستقبل القريب، لأنها مجلة شهرية صدرت أول يوم فى كل شهر بانتظام حديدى طوال خمس سنوات، متوسط عدد صفحاتها ٢٨٠ صفحة «إجمالى ١٦٨٠٠ صفحة»، وهو ما تعجز عنه مؤسسات كبرى بتمويل مفتوح، بالإضافة إلى أننا تعاوننا مع ما يزيد على ١٦٠٠ كاتب وشاعر من مصر والدول الناطقة بالعربية، وفتحنا الباب أمام كل الآراء مهما اختلفنا معها ما دامت تلتزم بالمنهج العلمى. كل هذا فعلناه بجنيهات جمعناها من جيوبنا ومعاشاتنا، ومن يملك دليلًا غير هذا الكلام فليظهره.

■ طالما الأمر كذلك.. لماذا لا ترد على الادعاءات حول المجلة؟

- تعلمت عدة أشياء من الكاتب الكبير محمد حسنين هيكل، أهمها ألا أهدر وقتى فى سجالات «خايبة» لا طائل من ورائها، فوقتى أثمن من أن أضيعه فى كلام فارغ ومهاترات.. أنا شخص جاد وعملى ونزق، لا أجلس على المقاهى ولا أستملح النميمة ولا أسعى وراء شىء وليست لدىَّ شبكة علاقات عامة، أصدرت ٢٦ كتابًا استنزفت عمرى كله، ولدىَّ مشاريع أخرى أعمل عليها، وأدرت عدة مواقع ثقافية كبرى، ورأست تحرير مجلتين ثقافيتين أصدرت منهما ١٠٧ أعداد، لو تخليت عن تواضعى يمكن أن أقول إنهما الأهم فى مجالهما، أيضًا ربيت رجلين كبيرين- سهيل وسيف- أعتز بصداقتهما، من حقهما علىّ ألا أتدنى، وألا أنجرف وراء العاطلين عن العمل والإبداع.. ثم قبل كل ذلك وبعده فالكلام المجانى سهل، وأى شخص يستطيع أن يقول ما يشاء!

سنة ١٩٩٩ ذهبت إلى الشاعر الكبير الراحل محمد إبراهيم أبوسنة فى مكتبه بالإذاعة، لأُجرى معه حوارًا، قال لى- ضمن ما قال- إن شعراء السبعينيات فى سجالهم معه يملكون سلاحًا قويًّا- وربما قال عنيفًا- هو سلاح الكلمة غير المسئولة، كانوا شبابًا مندفعين لا يزالون- وكان مديرًا للبرنامج الثقافى- يستطيعون أن يطيِّروا الكلام فى الهواء، بينما يستخدم اللغة بحساب المسئول، ويبحث عن كل مفردة بعناية.

■ هل ترى أن هناك عبئًا يقع على شعراء قصيدة النثر لعدم حصولها على جوائز؟

- لا؛ لأسباب كثيرة: فأولًا انتهى زمن عزلة قصيدة النثر، فلم يعد الشاعر يحتاج إلى الدفاع عنها، ولم يعد الناقد يحتاج إلى تقديم واسع لتبريرها حين يكتب عن أحد نماذجها. ثانيًا لأن الغبن يقع على الشعر كله، الموزون والنثرى دون تفرقة، فلن تجد جوائز كبرى للشعر كجائزة البوكر العربية أو كتارا، وإن وجدت فـ«مسابقات» موجهة تقليدية تدفع باتجاه الشعر القديم جدًّا، بحيث تكون أفضل كلما كنت جاهليًّا. 

قدَر الشاعر أنه يكتب للشعر فقط، لا للوجاهة ولا للجوائز، بل إنه يضطر فى كثير من الأحيان إلى أن يدفع لدور النشر لكى تنشر دواوينه، فى مقابل إقبالها على نشر الروايات والبحث عنها. الشاعر يكتب ليستمتع، وليفرِّغ طاقته وينفث همومه، لا يستطيع الشاعر أن يتوقف عن كتابة الشعر، لذلك لا أثق كثيرًا فى صدق موهبة من يتوقف عشرين عامًا مثلًا ثم يعود، لأن الشعر الحقيقى لا ينتظر الشاعر حتى يفرغ من شواغله الحياتية.

ما أريد أن أقوله إن هذه طبيعة «الشعر» بالمطلق، بكل ألوانه، لذلك لا تستطيع أن تقول الآن، فى هذه اللحظة، إن قصيدة النثر مظلومة دون غيرها باعتبارها قصيدة نثر، لأن لدينا الآن جيلًا من الشعراء لا يعرف التفعيلة أصلًا، وبالتالى جيل من القراء والمستمعين أيضًا لا ينشغل بتقطيع الكلمات والوقوف عند حروف متشابهة فى نهايات الأبيات.

■ كيف ترى اتجاه الشعراء والقاصين فى السنوات الأخيرة نحو كتابة الرواية؟ هل للجوائز ذات القيم المادية الكبيرة دخل فى هذا؟

- بالتأكيد لا أستطيع نفى العامل المادى فى هذه الظاهرة، فالمال ضرورى والصيت الذى يصيبه الكاتب من حصوله على جائزة مهمة من الممكن أن يغير مساره ومسيرته.. لكننى أود أن ألفت إلى أن الشاعر يسهل عليه كتابة الأنواع الأدبية الأخرى: القصة والرواية والمسرح والسيناريو، لأن الشعر هو أعلى درجات التعامل مع اللغة، والقدرة على تشكيلها، وقول ما يريد قوله فى أقل عدد ممكن من الكلمات.

الشعر ليس وسيلة حكى أو فضفضة، لذلك حين يحتاج الشاعر إلى البوح يجد أن الرواية أنسب، كما أنه لا يتخلى عن الشعر تمامًا حين يكتبها، فيمكنك أن تلتقط قصائد نثرية من صفحات الرواية، بل إن أحد الروائيين كان يكتب عدة صفحات متتالية موزونة على بحر المتدارك، وهو البحر الذى كتب به صلاح عبدالصبور مسرحياته الشعرية.

لكن القلق ليس من اتجاه الشاعر إلى كتابة الرواية من أجل الجوائز، بل من الجوائز نفسها التى تدفع الكُتَّاب إلى اتجاه معين دون غيره، على سبيل المثال ذهبت جائزة البوكر «الجائزة العالمية للرواية العربية» إلى الروايات التاريخية عدة دورات متتالية، ما حدا بكثيرين أن يندفعوا وراء هذا النوع طمعًا فى الجائزة، وأنا لا أرى أن الرواية التاريخية رواية أصلًا، لأن حجم التسجيل فيها ونقل الأحداث من كتب التاريخ كبير، كما أن لصق حياة اجتماعية منتحلة للشخصيات التاريخية-مثل الرؤساء والخلفاء وقادة الجيوش.. إلخ- يحرِّف التاريخ عن مساره، وينتج تاريخًا مزيفًا على المدى البعيد، ولا ينتج روايات عظيمة بالضرورة.

■ هل نحتاج إلى جائزة قوية فى مصر؟

- نعم.. أرى أن لمصر دورًا مهمًّا غائبًا- مع الأسف- فى إنشاء جائزتين وليس واحدة.. جائزة كبرى للشعر وأخرى للسرد، قيمة كل منهما مليون جنيه، أى ما يعادل 20 ألف دولار، وهو مبلغ ليس كبيرًا الآن. ستكون هذه الجائزة أقيم من كل الجوائز العربية ذات القيم المالية المضاعفة؛ بالنظر إلى القيمة الثقافية والتاريخية لمصر، ونستطيع أن نصنع بها صخبًا ثقافيًّا بالإعلان عن لجان تحكيم لها ثقلها، وإعلان قائمة طويلة وأخرى قصيرة، ثم حفل تسليم يحضره كبار المثقفين والسياسيين.. أظن أن هذا سيكون حدثًا مهمًّا، وأهدى الاقتراح إلى وزير الثقافة الحالى لعله يجد وقتًا لقراءته والنظر فيه.