فورور.. الروائى العراقى نزار عبدالستار: مريم فخر الدين ملهمتى
- لا أسرد التاريخ وإنما أستحضر روح الزمن لأروى قصتى.. والقارئ المصرى من مقاييس النجاح
- الجوائز لا تعد مؤشرًا حقيقيًا لجودة الأعمال الأدبية وهى حوافز لسوق النشر
لم يغادر الروائى نزار عبدالستار (1967) العراق. ظل لصيقًا بالوطن خلال التقلبات الهائلة التى مرت بها بلاد الرافدين. وعلى الرغم من ذلك، تتسع عدسة صاحب رواية «ترتر» لتشمل معالجة قضايا إنسانية، تمس البشر على اختلاف بلدانهم ومشاربهم.
وفى روايته الأحدث «فورور» الصادرة من دار هاشيت أنطوان نوفل فى بيروت، يتعقب عبدالستار ضمن حكايته، مسار فورور تنقل بين شخصيات مختلفة، من بينهم الفنانة المصرية الراحلة مريم فخر الدين، متخذًا من ذاك المسار، مرآة تعكس أحوال البلاد والعباد، وترسم فى الوقت عينه شبكة علاقات معقدة وذكية وحساسة، تشكل فى منقضاها، شجرة الحكاية، بجذورها وجذعها وفروعها المتداخلة..
«حرف» حاورت الروائى العراقى، فإلى نص الحوار:
■ قلت إن إعجابك بمريم فخر الدين وتفاصيل مظهرها فى أحد الأفلام كان ومضة الشرارة الأولى لكتابة روايتك «فورور».. حدثنا عن ذلك.
- كنت بعمر ١٠ سنوات عندما أخذنى أبى إلى سينما إشبيليا فى شارع الدواسة بمدينة الموصل. كانت قد مضت ٥ أيام على وفاة عبدالحليم حافظ حين قررت إدارة سينما إشبيليا إلغاء برنامجها وتخصيص أسبوع عرض لكل فيلم من أفلام عبدالحليم حافظ. كانت تلك المرة الأولى التى أدخل فيها إلى سينما. يومها عرض فيلم حكاية حب الذى أنتج سنة ١٩٥٩ وأخرجه حلمى حليم وهو من بطولة عبدالحليم حافظ ومريم فخر الدين. لم أنس تلك الليلة أبدًا وبقيت أغنية بتلومونى ليه عالقة بوجدانى مع بكاء الجمهور وهتافاته الموجوعة فى صالة السينما والتى تظهر فيها مريم فخر الدين مرتدية الفورور. كبرت وأنا متعلق بتلك الهيبة الأرستقراطية. امرأة فاتنة وأنيقة تقف بكل جلالها مرتدية الفورور الجميل. عاشت هذه الصورة طويلًا فى أعماقى مقترنة بالشكل المثالى للمرأة الحلم ويوم شاهدت برنامج «ممنوع من العرض» عن حياة مريم فخر الدين وجدت الماكير محمد عشوب يختم قصته قائلًا إن مريم فخر الدين باعت الفورور الذى تظهر به فى أغنية بتلومونى ليه لشخص كويتى بسعر ١٦٠٠ جنيه لحظتها لمعت فى رأسى فكرة الرواية.
■ من خلال رحلة الفورور وتنقله بين شخصيات مختلفة تنبنى عوالم روايتك.. كيف يمكن للكاتب أن يطعّم «الحكاية» بما يتخللها من «أفكار وقضايا»؟
- تركيب الأحداث فى أى عمل روائى يتصل بمهارات المخيلة والقدرة السردية وتوفر مزايا جاذبة مثل اللغة والأسلوب والخبرة الاحترافية، لكن فى أى عمل مهما كانت كثافته ساحرة لابد من وجود ثيمة يشتغل عليها الروائى ويقدمها للقارئ، باعتبارها المغزى أو التجربة الإنسانية الخاصة التى تعطى للرواية روحها. أحيانًا يكون الحدث أو الحدوتة معيارًا باهرًا وجاذبًا ويمكن للرواية الاكتفاء به إلا أننى لا أؤمن بالهيكل بمعزل عن القيمة لذلك دائمًا ما يكون العمل متكيفًا مع ثيمته، وفى رواية فورور كان الفقد بكل أنواعه الإنسانية هو المحرك الأساس فوحيدة جميل فقدت الفورور فى القاهرة بعد أن أعارته لمريم فخر الدين كى تصور أغنية بتلومونى ليه مع عبدالحليم حافظ وينتقل الفورور ليكون ملكًا لسياسى كويتى ومنه إلى السيدة جيهان السادات التى تهديه بدورها للشهبانو فرح بهلوى. هذا الامتلاك الشرعى لا يلغى عائدية الفورور لوحيدة جميل مونولوجست كباريه «مولان روج» إلا أن المقاربة هنا تكون صعبة إذا ما قورنت وحيدة جميل بزوجة شاه إيران.
■ تدور أحداث الرواية فى بلدان مختلفة وفترات زمنية متباعدة.. هل ترى أن على الروائى أن يكون «باحثًا ودارسًا» ليتمكن من غزل الرافد المعرفى بنسيج روايته؟
- الرافد المعرفى هو الجوهر والأهم فأنا لا أريد لروايتى أن تكون حدوتة جميلة وسط الموضة التى تتعاقب على سوق الرواية. لابد من تقديم عوالم ومعرفيات يراها المتلقى ثرية ومدهشة وهنا أركز دائمًا على البيئة الخارجية من خلال البحث والتقصى وانتخاب ما يشكل منطقة معرفية بعيدة وغامضة تكون جديدة على الفن الروائى وذات صلة بهمومنا الوجودية، والأهم من كل هذا أن تكون ذات صلة بعوالمى وتكوينى الحياتى. أعد ذلك جرأة ومغامرة جاذبة. فى رواية فورور دخلت فى عالم مزادات الفن وقدمت مفهومًا مغايرًا عن الواجهات البراقة لهذه السوق وقبل فورور دخلت فى عوالم شركة الهند الشرقية البريطانية فى رواية «الأدميرال لا يحب الشاى» وكيف تتحكم الشركات الكبرى بمصيرنا البشرى. أحرص دائمًا على أن تكون روايتى القادمة غير متوقعة وتحمل تجربة كتابية جديدة، فضلًا عن عوالمها المعرفية المغايرة.
■ فى روايتك ترتر انطلقت من نقطة «سكة حديد بغداد برلين» وبنيت عليها عالم الرواية.. كيف ترى العلاقة بين الواقعى والمتخيل فى صنعة الكتابة؟.
- هى علاقة جذرية فكل ما حولنا هو تاريخ وأحداث منزوعة الحقيقة وهنا يأتى دور الروائى الذى يؤثث للفكرة ويربط الخيوط ويعيد بناء التاريخ بالمخيلة. إنه الجوهر الأكيد والصحيح لفن الرواية. أنا لا أسرد التاريخ وإنما أستحضر روح الزمن وأروى قصتى. فى قاهرة نجيب محفوظ هناك قوالب بارعة التشكيل لما يمكن الادعاء أنها الحقيقة ولكن قطعًا أن الثلاثية وبداية ونهاية وزقاق المدق هى مخيلة روائى، وبالتالى سيتحول هذا المنجز بعد قرون ليكون بديلًا عن القاهرة الحقيقية.. هذا ما تفعله الرواية بنا.
■ هل هجرت كتابة القصة القصيرة التى كانت بدايتك الأدبية؟
- لم أفعل.. كل مافى الأمر أننى أنفذ مخططات أعمال روائية وضعت أفكارها قبل فترة طويلة وفى نيتى العودة إلى القصة القصيرة من خلال مجموعة تتكون من ٢٠ قصة أنجزت ٤ منها.
■ لك ملاحظات ومآخذ على الجيل الحالى من الكتاب العراقيين الشباب.. هلّا شرحت لنا وجهة نظرك؟
- تفتقر روايات الجيل الحالى إلى أبسط معايير الفن وهى فى أفضل حالاتها ريبورتاجات صحفية ممطوطة. كما أن هذا الجيل على قطيعة تامة مع الفن الروائى نفسه وبالتالى هى أعمال يمكن تصنيفها بالكتابات الخواطرية الهجينة.. الرواية علم وفن وعلى الجيل الحالى التمسك بقواعد صنعة الرواية لا استسهالها.
■ حصلت على عدة جوائز أدبية.. كيف ترى الجوائز فى عالمنا العربى وهل هى فعلًا معيار صادق ومؤشر حقيقى على الأعمال الجيدة؟
- الجوائز لا تعد مؤشرًا حقيقيًا لجودة الأعمال الأدبية وهى حوافز لسوق النشر ولها أغراض مختلفة ومع هذا تعد ظاهرة مرغوبة تدعم التأليف وتخلق حركة إيجابية.
■ تنشر منذ سنوات فى بيروت رغم إقامتك الدائمة فى العراق.. لماذا؟
- بيروت لها خبرة كبيرة فى صناعة الكتاب والترويج وحركتها فاعلة، فضلًا عن كونها سوقًا للطباعة ودار هاشيت أنطوان التى أطبع فيها كتبى هى دار مرموقة ومن كبريات دور النشر العربية وتهتم جدًا بالكتاب والكاتب، فضلًا عن الشفافية التى تمتاز بها هذه الدار ومصداقيتها العميقة وعلاقتى بالدار مبنية على الود والاحترام، لذلك أجدنى فى المكان الصحيح.
■ هل من رسالة تحب أن توجهها للقارئ المصرى؟
- مصر بلد الحضارة والثقافة والإبداع وبالتالى أنا ككاتب أجد نفسى جزءًا من نسيج هذه الثقافة ومنتميًا إليها، فهى مهد القصة والرواية وأنا أنظر للقارئ المصرى بكثير من التقدير وأى إشادة أتلقاها منه تدفعنى إلى الزهو. القارئ المصرى مقياس نجاح.
■ كيف ترى الفارق بين كتابة القصة وكتابة الرواية؟
- الذين يكتبون القصة ويذهبون إلى الرواية تكون أعمالهم أكثر رشاقة وأشد تكثيفًا. القصة القصيرة تتطلب عقلية ديناميكية وتحتاج إلى ذكاء حاد وحواس مدربة على التفاصيل الدقيقة وهذا الأمر يعين فى مجال الرواية لمنع الترهل وشد الحلقات وصولًا إلى بناء دقيق الهندسة. هناك تداخلات عديدة لكن الأسلم من وجهة نظرى هو إعطاء مسافة فاصلة بين القصة والرواية لأن عقل القصة يختلف عن ذلك الذى ينتج الرواية، فكما أن هناك فوائد للقصة فى الرواية هناك أضرار للرواية فى القصة. أنا مع المساحات القصيرة التى يكون التكنيك هو المهيمن فيها. لقد توقفت عن كتابة القصة القصيرة مدة 10 سنوات كى أتخلص من آثارها فى كتابة الرواية. الرواية الأولى لى كانت نوفيلا بعنوان «ليلة الملاك» وكانت متأثرة بالمبنى القصصى لكننى تخلصت من هذا الأثر بعد ذلك.