مرصد ثقافى
تقليد متبع منذ سنوات يعود إلى القرن الماضى تقوم به خلال شهر ديسمبر معظم الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المختلفة، وهو استطلاع رأى بعض المشاهير والنخب الثقافية والفنية والأكاديمية، فيما يتعلق بأهم الكتب التى قرأوها خلال العام الذى أوشك على الانصرام فى مجالات معرفية أو كتب إبداعية. فكرة هذا التقليد جميلة وإيجابية، وتستهدف لفت نظر القراء إلى كتب هامة وجادة قد لا ينتبه إليها الكثيرون.
لكن على الأغلب تأتى الإجابات التى يدلى بها هؤلاء على هيئة مجاملات لكتب أصدقاء أو بعض المقربين منهم، تكون قد نُشرت خلال العام موضوع استطلاع الرأي. كما أن بعض مَن يُسألون يستدعى عناوين كتب عفو الخاطر، أو تقفز إلى ذهنه أسماء كتب لأولئك الناشطين فى الدعاية لأعمالهم بوسائل التواصل الاجتماعي. وسرعان ما يأتى العام الجديد وينفض المولد، ليصبح الأمر مجرد عادة وجب تكرارها، وطقس إعلامى محبب مثل معظم الطقوس التى ابتدعها المصريون منذ آلاف السنين.
الغريب، ورغم مرور سنوات طويلة على وجود مثل هذا الطقس، أنه لم يتم استطلاع رأى واحد، أو رصد مؤسسى أو غير مؤسسى يتعلق بما قرأه الناس العاديون بعيدًا عن النخب والمشاهير خلال عام واحد. أناس هم طلبة أو موظفون أو ربات بيوت أو غيرهم من فئات المجتمع المختلفة، ليُعرف من خلال ذلك ما الذى قرأه المجتمع المصرى بمختلف فئاته القارئة خلال عام، وليتم استنباط مؤشرات واتجاهات تتعلق باهتمامات الناس الثقافية وسيرورة الأفكار داخل المجتمع ومدى تأثير الثقافة فى المنظومة القيمية السائدة لدى الناس، والعديد من المؤشرات الهامة الأخرى ذات الطابع السوسيولوجى ومعرفة طبيعة التحولات داخل المجتمع.
فى مصر، ومنذ سنوات بعيدة، تُبنى الآراء ووجهات النظر على أساس من التجارب الشخصية والانطباع الذاتى، حتى لدى أولئك الذين حصلوا على تعليم متقدم، أو حازوا قدرًا من الثقافة لا بأس به. وقد ساعد على ذلك التعليم النقلى وليس التعليم النقدى المستبعد منهجيًا. فيُشاع مثلًا أن الأجيال الجديدة لا تقرأ، أو أن الناس باتوا يقرأون الرواية ولا يقرأون القصص أو الشعر، أو أن الكتب الفلسفية أو الكتب الفكرية لا يوجد إقبال على قراءتها. وكلها آراء قائمة على ملاحظات وانطباعات شخصية ولا تدعمها إحصاءات أو أرقام، وفى أفضل الأحوال تعتمد على ما يروجه بعض أصحاب دور النشر الخاصة، والذين يفضلون نشر الروايات التى زادت جوائزها، لأنهم يقتسمون قيمة هذه الجوائز مع أصحاب الروايات. والحقيقة أن عادات القراءة فى مصر قد تجعل نسخة واحدة من كتاب فكرى، أو ربما شعرى، مقروءًا من قِبل عدد كبير من الناس بسبب عادة الإعارة وارتفاع أسعار الكتب. فليس عدد النسخ المبيعة هو المعيار الحقيقى للقراءة الخاصة بكتاب من الكتب.
أظن أننا بحاجة إلى مرصد ثقافى متخصص وقائم على أسس علمية، تكون مهمته رصد الاهتمامات الثقافية للناس، وعلى رأسها القراءة، وتحليلها خلال فترة ثقافية محددة. فهناك من بات يقرأ الكتب الإلكترونية وهناك من يظل يقرأ الكتاب الورقي. وهناك احتياج حقيقى لتحليل اتجاهات القراءة من قِبل متخصصين فى حقول معرفية مختلفة للوصول إلى نتائج ومؤشرات تتعلق بالحالة الثقافية للمجتمع المصرى خلال فترة زمنية محددة.
ووجود مرصد ثقافى إنما هو مشروع ضخم يحتاج خبرات وكفاءات ليست بقليلة مثلما يحتاج إلى ميزانية خاصة. ولذلك، فأظن أن وزارة الثقافة يجب أن تكون منوطة بمشروع من هذا النوع لأنها ستكون المستفيد الأول من هذا المرصد المقام على أساس علمى. فهو سوف يُرشد النشر فى مؤسساتها المختلفة القائمة بالنشر كهيئة قصور الثقافة والهيئة العامة للكتاب، ولسوف يجعلها تعيد النظر فى العديد من أنشطتها المختلفة. والمستفيد الأكبر من كل ذلك هو مال الدولة الذى يُنفق على العمل الثقافى، بما لا يتناسب مع مردود هذا العمل. وليس المقصود هنا المردود المالى، فالثقافة نشاط خدمى بالأساس، خصوصًا فى البلدان الفقيرة التى تحتاج الثقافة بشدة لبناء الإنسان وجدانيًا وروحانيًا وعقلانيًا، مما يدفع بعجلة التنمية. والعائد المستهدف من إنشاء مثل هذا المرصد الثقافى سيكون بمثابة دراسة للجدوى الثقافية من وراء أى نشاط ثقافى مثلما هو الحال مع المشروعات الاقتصادية، حيث هناك دراسة للجدوى الاقتصادية. وهذه الجدوى الثقافية ستتعلق بأنشطة الوزارة أو بتلك المبادرات المجتمعية الأهلية.
فى مصر الآن ثقافة على السطح وثقافة تحت السطح. هناك الجلى وهناك الخفي. هناك اهتمامات لأجيال من الشباب تتعلق بثقافة جادة وإيجابية جدًا بالنسبة للمجتمع. وهناك إنتاج ثقافى يحتاج إلى رصد وكشف وإظهار ومن يقدمه للناس والتعريف به. وهناك غثاثة ثقافية مؤثرة لا تظهر على السطح أيضًا. والمجتمع بحاجة إلى معرفة كل هذا عبر مرصد مقترح، ليعرف وينقد ويميز ويختار السمين ويستبعد الغث.