الخميس 13 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

جهاد الرنتيسى: تاريخ فلسطين «ناقص ومُضلَلَ».. ولم يُكتب بعد

جهاد الرنتيسى
جهاد الرنتيسى

 - رواياتى لمن يخشون الوقوف أمام المرايا أو يتحسسون من «نشر الغسيل»

 -أحاول التعبير عن واقعنا بعيدًا عن الصورة المستهلكة للبطل والضحية

 -  لا أخشى اتهامى بـ«خيانة» موروثنا الأدبى فخيانة الزيف لدىّ فضيلة

منذ الحرف الأول الذى خطه فى مشروعه الإبداعى، ظهر للجميع أننا أمام كتابة مختلفة، كتابة «عميقة لا تكتفى بالمشى على سطح الماء»، وتحاول الاقتراب إلى الواقع الفلسطينى بقدر ما يمكنها، بعيدًا عن «الصورة المستهلكة للبطل والضحية».

هو فى ذلك لا يخشى اتهامه بـ«خيانة» الموروث الأدبى الفلسطينى، ويواجه بقلمه الرشيق أولئك الذين «يواجهون صعوبة فى الوقوف أمام المرايا»، أو «يتحسسون من نشر الغسيل»، منطلقًا من إيمان عميق لديه بأن «خيانة الزيف فضيلة».

إنه الروائى الفلسطينى جهاد الرنتيسى، الذى يقف بين الحقيقى والمتخيل، كاتبًا يمتشق قلمه كسلاح، فى كل أعماله الروائية، آخرها رواية «شامة سوداء أسفل العنق»، التى لا يكتفى فيها بسرد الحكايات، بل يفتح أبواب الجدل حول الهوية والذاكرة.

تعد «شامة سوداء أسفل العنق» تتمة «ثلاثية روائية» لـ«الرنتيسى»، تضم أيضًا «بقايا رغوة» و«خبايا الرماد»، وفيها يخرج من عباءة السردية الفلسطينية التقليدية، ليقدم حكايات لا تحتفى بالملاحم والبطولات، بل تنبش فى الأعماق الخفية للإنسان الفلسطينى، بأسلوب مختلف ونظرة جريئة

فى الحوار التالى مع «حرف»، يكشف جهاد الرنتيسى عن أسباب اختياره الابتعاد عن الأسطورة، وكيف يتناغم هذا النهج مع واقعنا اليوم، وغيرها من ملامح تجربته الإبداعية التى قلبت السرد الفلسطينى رأسًا على عقب.

■ الرواية الفلسطينية لم ترجع فى تاريخ فلسطين أبعد من زمن «النكبة».. لماذا هذا الاتجاه، رغم أهمية العودة إلى تاريخ أبعد لتأكيد تجذر الفلسطينيين فى أرضهم منذ آلاف السنين؟

- يحيلنا هذا السؤال إلى جملة من الأسئلة والتعريفات المُختلَف عليها عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الرواية الفلسطينية، هل هى التى يكتبها الفلسطينى المنحدر من مكونات مجتمع ما قبل النكبة؟ أم التى تتناول القضية الفلسطينية وتداعياتها؟ وما أول رواية فلسطينية من الأساس؟

إذا أخذنا التعريف الأول للرواية الفلسطينية، وهو تعريف دارج لا أميل إليه، سنجد أنفسنا أمام ٣ روايات تمثل بدايات الرواية الفلسطينية هى: «مفلح الغسانى» لنجيب نصار و«مذكرات دجاجة» لموسى الحسينى، الصادرة عن «دار المعارف» فى القاهرة بتقديم كتبه طه حسين، وأولى روايات جبرا إيرهيم جبرا «صراخ فى ليل طويل». 

الروايات الثلاث سابقة لـ«النكبة»، وتظهر فيها بعض ملامح الحياة الفلسطينية. وفى وقت لاحق التفت الشهيد غسان كنفانى إلى مناخات ثورة ١٩٣٦، فى روايته «العاشق»، التى لم تكتمل، ثم جاءت رواية «قناديل ملك الجليل» لـ«إبراهيم نصر الله»، التى يمتد زمنها بين القرنين الـ١٧ و١٨، ما يعنى أن رواية «ما قبل النكبة» حاضرة فى المشهد، وإن كانت بشكل خجول.

لالتقاطتك وجاهتها وأهميتها، لكن أفترض ألا يفوتنا أن «النكبة» كانت بداية لتحولات ما زالت تحتفظ بديمومتها، تعبث بمصير المنطقة وشعوبها، وتتحدد الاصطفافات السياسية بناء على إفرازاتها، وتتناسل بفعلها المنعطفات الحادة وتلقى ظلالها على العالم.

لا يغيب عنا أيضًا إغراء التحولات للروائيين، وقلة حضور الرواية فى فلسطين قبل «النكبة» مقارنة بالشعر الشعبى، الذى اجتهد فى تقديم صورة عن الحياة فى الزمن العثمانى وسنوات الانتداب البريطانى.

■ هل يمكن أن يكون الاهتمام المفرط بـ«ما بعد النكبة» سببًا فى إضعاف السردية التاريخية للفلسطينيين قبل الاحتلال؟

- تاريخ الفلسطينيين لم يُكتب بعد، روايتهم ناقصة، مُضلَلَة فى كثير من الأحيان، لا تخلو من التشوهات التى أشار لها البعض بشكل عابر فى دراساتهم وشهاداتهم. لدى تفسيرى لتشوهاتها وخجل الإشارات، وأرى أن زمن «ما قبل النكبة» لم يكن الغائب الوحيد، فهناك حيوات لاحقة وتجارب وتشظيات فى فلسطين والشتات تبحث عمن يلتقطها.

■ إذا أُتيح لك التركيز فى عملك المقبل على فترة «ما قبل النكبة»، ما الجانب الذى تود تسليط الضوء عليه تحديدًا؟ ولماذا؟

- تغرينى بنية المجتمع الفلسطينى قبل الحرب العالمية الثانية، مناخات صراع العائلات على الزعامة، ضيق أفق الزعامات، انقلاب بعضهم على «ثورة الفلاحين» عام ١٩٣٦، سعيهم لإجهاضها، ودورهم فى تصفيتها.

«نكبة» الفلسطينيين سبقت الإعلان عن قيام دولة الكيان الصهيونى، ظهرت دراسات قليلة عن تلك الفترة، تناول بعضها شهادات الذين عاشوا فى ذلك الزمن، لكن ذلك لا يعفينا من تناولها فنيًا.

 

■ بدأت ثلاثيتك بـ«بقايا رغوة» التى تُعتبر رواية تجريبية.. هل كانت محاولة لكسر القوالب التقليدية، أم انعكاسًا لرؤية جديدة للكتابة؟

- لم تأتِ أدواتى من فراغ، تجربتى امتداد لتجارب أساتذتى من الروائيين، بدءًا من يوسف إدريس، مرورًا بصنع الله إبراهيم وإبراهيم عبدالمجيد وغسان كنفانى وإسماعيل فهد إسماعيل، وغيرهم من العرب والعالميين الذين تأثرت بإبداعاتهم.

وجدت فى تشظيات الفلسطينى، والرهان على وعى القارئ، ما يستدعى الخروج عن نمطيات الكتابة، وتجاوز استسهال التلقين، على أمل التأسيس لكتابة مختلفة، تغوص فى عمق الظواهر ولا تكتفى بالمشى على سطح الماء. أعتقد أن هناك حاجة لتكرار المحاولة، إحداث تغيير فى الشكل، وإعطاء جرعة أكبر من الجرأة للمضمون.

■ فى هذه الرواية تعامل أفراد الجماعة الفلسطينية المستقرة فى الكويت مع تهجير جديد بعد الغزو العراقى، إلى أى مدى يعبر ذلك عن إحساس الفلسطينيين الدائم بالتهجير والتشرد بغض النظر عن المكان؟

- كان وجودنا فى الكويت قبل الدخول العراقى من أشكال الشتات، اتسع بعد «النكبة» وما أفرزته من ظروف اقتصادية ومعيشية بائسة على ضفتى نهر الأردن، تضخم مع «النكسة» ليتحول إلى واحد من مجتمعات اللجوء الفلسطينى، قد يختلف فى بعض التفاصيل الهامشية عن الوجود فى أماكن أخرى مثل الأردن ولبنان وسوريا، لكن الجوهر واحد.

بادر الشهيد غسان كنفانى، الذى عاش هناك فترة من حياته، بالتقاط طرف الخيط، وطرح فكرته فى رائعته «رجال فى الشمس»، وإن ظل حضور الحياة الاجتماعية والسياسية للفلسطينيين خجولًا فى تلك الرواية.

قدم محمد الأسعد وفاروق وادى مساهمات مهمة فى رصد ذلك الوجود. وجاء الخروج الكبير ما بعد عام ١٩٩٠ ليشكل منعطفًا فى حياة الفلسطينيين هناك، التى مالت إلى الاستقرار فى بعض سنواتها دون أن تدركه.

لم تكن مغادرة ذلك البلد بداية شتات بقدر رحلة أخرى فى الرحيل، كنت بصدد الكتابة عنها فى حينها. لكن الظروف اضطرتنى للصبر قرابة الـ٣٠ عامًا، ما أتاح لى التعامل مع الحدث وإفرازاته برؤية أكثر نضجًا وشمولية. وكان ما قدمته محاولة لسد ثغرات فى رواية تجربة الشتات الفلسطينى الناقصة، فرغم كل ما كُتب عنها، ما زال هناك ما يستحق القول.

■ الجزء الثانى من الثلاثية «خبايا الرماد» تُظهر الانشقاقات السياسية التى شهدتها حركة «فتح» فى دول الخليج.. كيف تعكس الرواية الصراع الداخلى فى الحركة، على مستوى الأفراد أو الجماعات؟

- حركة «فتح» جزء من التاريخ السياسى الفلسطينى، تشكلت فى تلك الدول قبل استقلالها عن البريطانيين، وضمت شرائح وتيارات سياسية مختلفة، تعامل معها القطب القومى جمال عبدالناصر بقدر كبير من الحذر، ولم تحظ بقبول حركة القوميين العرب فى بداياتها.

ونتيجة لهذه الظروف كانت الصراعات الداخلية حتمية فى حركة «فتح»، وتحولت فيما بعد إلى انشقاقات انعكست على حياة الفلسطينيين فى مختلف أماكن وجودهم، بما فى ذلك الكويت، التى أتاحت للفلسطينيين هامشًا واسعًا للحركة.

كانت «فتح» وغيرها من الفصائل جزءًا من الحياة اليومية لمشتتين ربطوا مصائرهم بمصير قضيتهم، ما اقتضى تناول هذه الصراعات فى الرواية، وتطلب بحثًا فى التفاصيل التى لم تكن مكشوفة حتى وقت قريب، والاستماع للذين كانوا فاعلين وتعرضوا للتهميش.

المتداول عن الزوابع السياسية التى هبت على التجربة الفلسطينية لا يتجاوز الظاهر من قمة جبل الجليد، لذا كان لا بد من البحث فى الطبقات السفلى، لرسم صورة أقرب إلى الواقع، وتحطيم القوالب الجاهزة فى الرواية الفلسطينية، والابتعاد عن الصورة المستهلكة للبطل والضحية.

■ هل يمكننا فهم هذه الانقسامات بوصفها جزءًا من الإشكالية التاريخية الفلسطينية منذ بداية مشروع الثورة الفلسطينية؟

- الانقسام تعبير عن التنوع، موجود فى مختلف المجتمعات البشرية بفعل اختلاف المصالح، وتباينات النظرة للذات والعالم، والفلسطينى ليس استثناء. إذا تعاملنا مع المسألة من منظور قُطرى، لا يوجد نظام رسمى عربى أو غير عربى دون معارضة.

«فتح» تُمسك بزمام سلطة منظمة التحرير منذ ستينيات القرن الماضى، وأدوات السلطة التى أعقبت توقيع اتفاق أوسلو. بالتالى من الطبيعى أن تواجه معارضات، وتشهد انقسامات وصراعات داخلية. لكن قلق الشارع العربى على قضية الشعب الفلسطينى يحول دون رؤيته المشهد من هذه الزاوية.

■ هل تعكس الرواية الخوف المستمر من ضياع الهوية الفلسطينية، وتشير إلى فراغ ما قد يخلفه غياب وحدة الشعب الفلسطينى فى مواجهة التحديات السياسية؟

- لم ينزل الفلسطينى بمظلة على الكوكب لكى أخشى على هويته من الذوبان، هو جزء من أمة لها حضارتها وحضورها، ورغم كل ما لحق بها من الهزائم والانكسارات، ما زالت قادرة على الاشتباك مع مشروع استعمارى عنصرى يستهدف شعوبها.

قد يكون الفلسطينى الأكثر تأثرًا بمخاطر وجود الكيان الذى يهدده ويهدد أشقاءه، لكنه غير معزول عن الأمة الحاضنة، رغم اتهامات التقصير. تاريخ الفلسطينيين حافل بالصراعات الداخلية منذ ثلاثينيات القرن الماضى، وجدت الصراعات ما يغذيها فى المحيط العربى، لكنها لا تهدد الهوية. الانقسام حالة صحية حافظت على بقاء القضية، وحَدّت من نجاح محاولات «قُطرنَتها»، وعزل نضالات الفلسطينيين عن المخزون النضالى العربى. 

■ المؤرخون عادةً يلتقطون اللحظات الأبرز فى تاريخ الشعوب. هل ترى «خبايا الرماد» فى موقع ينافس التاريخ الرسمى الفلسطينى؟

- أرى أهمية لتفكيك التاريخ الرسمى، خلخلة أركانه لإخراجه من دائرة السيطرة، والبحث عن المهمشين الذين غُيبوا لتقديم روايتهم، بمعنى أننى أتعامل مع الرواية الرسمية من موقع الاشتباك وليس المنافسة، أحاول إعادة صياغة التاريخ ليكون أكثر صدقًا وتمثيلًا لحياة الناس، ولا أدعى تقديم وثيقة تاريخية.

■ لماذا أهديت الرواية إلى غالب هلسا تحديدًا؟

- غالب هلسا نموذج للمثقف المشتبك، المؤمن بقدرة الفكرة على التغيير، المهيأ للمضى بعيدًا فى الدفاع عن فكرته، وقد يكون الأكثر جرأة فى نقده الحالة الفلسطينية. قلما تجدين هذه المواصفات فى مثقف عربى. كنت محظوظًا بالتعرف عليه عن قرب، خلال السنوات الأخيرة من حياته، وأراه الأكثر قربًا إلى الضمير.

■ فى الجزء الثالث من الثلاثية رواية «شامة سوداء أسفل العنق»، الذى صدر مؤخرًا، هل يمكن اعتبار تمزق «جواد الديك» بين الاختيارات المتاحة ورفضه الهرب علامة على تناقضات شخصيته أم على تحديات الواقع الفلسطينى؟

- لا يخلو الأمر من التناقضات التى تخلقها الظروف والمؤثرات الاجتماعية والسياسية وطبيعة التربية. «جواد الديك» ضحية التجاذبات وتشوهات المراحل، والإخفاق فى تحقيق الأحلام الكبرى. 

■ تركز على الخيبات والمشاعر الذاتية بدلًا من الملاحم السياسية فى الأعمال الثلاثة.. لماذا؟

- أسعى لإزالة الأوهام التى علقت بالذهن، وتنشيط الذاكرة فى مواجهة عمليات الخداع وغسل الأدمغة. النضال مفروض على الفلسطينى بحكم الأمر الواقع، ولم يكن ترفًا فى يوم من الأيام، ما يستدعى الحد من تشوهاته، والعمل على تجذيره. الثلاثية محاولة لإخراج المهمشين من دائرة النسيان، التى اتسعت لتتحول إلى ثقب أسود، ما استدعى الاشتباك مع الرواية النمطية، رغم الكُلف المترتبة على ذلك.

■ ألم تخش من اتهامك بـ«خيانة» الموروث الأدبى الفلسطينى الذى يركز على الملحمية والكفاح المسلح؟

- هناك من يواجه صعوبة فى الوقوف أمام المرايا، أو يتحسس من نشر الغسيل، وربما يشعر بضآلته أمام الشخصيات الحاضرة فى الروايات التى أكتبها. لكن وجود هذه الأنماط من التفكير والأداء لا يقلل من قناعتى بأن خيانة الزيف فضيلة. كنت مستعدًا لمواجهة التبعات حين بدأت مشروعى الروائى، وفى جميع الأحوال، لم أكن بعيدًا عن الحياة السياسية والثقافية الفلسطينية لكى تطالنى مثل هذه الاتهامات.