الجمعة 27 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الإمام الغائب.. عن عزلة الزعيم الاختيارية

حرف

- لماذا لا تبدأ وزارة الثقافة من الآن فى تأسيس متحف يكون نموذجًا نحافظ من خلاله على كل ما يتعلق بالفنان الكبير ويصبح مزارًا لمن يريدون أن يتعرفوا على تاريخه وإسهامه الكبير فى حياتنا الفنية والثقافية والسياسية؟

لأكثر من ستين عامًا لم يتوقف عادل إمام عن العمل. 

لأكثر من ستين عامًا يمارس المهنة التى وهب نفسه لها.. وأنعم الله عليه بها، فأحبها وأعطاها عمره كله، فقدمت له مجدًا وخلودًا يليق به. 

لأكثر من ستين عامًا وهو يدهشنا ويبكينا ويفرحنا ويحزننا ويغازلنا ويعرينا ويكشفنا أمام أنفسنا. 

لأكثر من ستين عامًا وهو يواجه خصومًا، ويخوض معارك، يعتصم بجمهوره، يجعله مرجعيته العليا والنهائية. 

منذ أربع سنوات، وبعد أن انتهى من تصوير مسلسله الأخير «فالنتينو» قرر أن يستريح. 

لم يكن وهو يقف أمام الكاميرا فى كامل لياقته، حذف ابنه رامى مخرج العمل مشاهد كثيرة رأى أن والده لن يكون قادرًا عليه، لم يحقق النجاح الذى لاقاه فى مسلسلاته وأفلامه السابقة، فعرف أنه لا بد أن يتوقف، قرر أن يخرج من على المسرح قبل أن يسدل عليه الستار وهو يقف أمام جمهوره. 

لم يمنح الله عادل إمام موهبة خارقة فى فن التمثيل فقط، ولكن وفقه لأن يكون قادرًا على تسويق نفسه، فذكاؤه الاجتماعى لا حدود له، يعرف متى يتحدث، ومتى يصمت، متى يتقدم، ومتى يتراجع.. وعندما وجد أنه لن يكون رقم واحد فى معادلة الفن العربى انسحب إلى ما يمكننا اعتباره وادى الراحة. 

خطأ عادل إمام أنه وهو يغادر الأرض التى كان ملكًا عليها، لم يقل شيئًا لأحد، لم ينبهنا إلى أنها المرة الأخيرة التى سنراه فيها، لم يخبرنا بأنه قرر الاحتجاب مكتفيًا بما قدمه وأبدعه، فكان طبيعيًا أن ننسج حوله الحكايات، ونقدم التفسيرات، ونلعب لعبة الاحتمالات. 

كان يمكن لعادل إمام أن يريحنا من عبث علامات الاستفهام حوله. 

لكنه فيما يبدو قرر أن ينسحب بطريقة تضيف ملامح جديدة إلى أسطورته، فقد اختفى وكأنه «الإمام الغائب»، واختار لنا أن نقف أمام السرداب فى انتظار عودته التى لن تحدث أبدًا، نتلمس من طيفه تجليًا عز علينا به، وتركنا نبحث فى أرشيف أدواره عن ونس نعتقد أنه يمكن أن يبدد وحشتنا له، دون أن يعرف أننا كنا وما زلنا ننتظره ليطل علينا. 

وحده عادل إمام- ومن خلفه أسرته الصغيرة- من يعرف أنه ذهب ولن يعود، شق طريقه الأخير قانعًا بما قدمه، ومقتنعًا بأنه أدى ما عليه، ومتشفعًا بما منحنا إياه من بهجة ووعى أننا يمكن أن نسامحه على قراره، ولا نضغط عليه أبدًا، حتى لو كنا نفعل ذلك لنستعيده لأنه يخصنا، فهو شريك أيامنا وأحلامنا وانتصاراتنا وانكساراتنا.. وكل ما نعتقد أننا نملكه، حتى لو كان وهمًا وسرابًا. 

اختار عادل إمام العزلة.. وكما قرر أن يصيغ حياته كما يريد، قرر أن تكون عزلته كما يشاء، لا يريد أن يزعجه أحد أبدًا، ولا يرغب فى أن يقلقه أحد، وكل ما يتمناه أن يقضى أيامه كما يتمنى بين أحفاده، الذين لم يأخذوا حقهم منه ولم يحصل على حقه فيهم. 

عزلة عادل إمام اختيارية.. لا شك فى ذلك أبدًا. 

لكنها وبلا شك أيضًا عزلة إجبارية، فلم يعد النجم العابر للأجيال قادرًا على أن يقدم لجمهوره ما تعود عليه منه، لم يعد فى لياقته الفنية ولا الذهنية الكاملة، ولذلك اختار أن يطبق حكمة العظماء فى كل زمان، فأن يسأل الناس لماذا لا يمثل عادل إمام أفضل كثيرًا من أن يسألوا: لماذا يمثل؟ 

كان نجله رامى يتحدث، وجد نفسه فى مواجهة السؤال المتجدد عن ظهور أبيه. 

قال كلامًا دبلوماسيًا، فقد توقف النجم الكبير عن العمل، لأنه لا يجد جديدًا يقدمه، فقد قدم كل شىء. 

تطور السؤال بشكل منطقى: هل لو وجد عادل إمام دورًا جديدًا لم يقدمه من قبل يمكن أن يخرج من عزلته؟ 

وتطورت الإجابة لتتناسب مع منطق السؤال، فهى لا تحتاج إلى تفكير، فلو أن هناك دورًا جديدًا فما المانع من أن يقدمه عادل؟ 

ولأننا كمن يتحجج بأى شىء، ويتلكك حتى يحصل على ما يريد، فقد اعتبرنا ما قاله رامى إشارة ولو عابرة لعودة النجم الذى نفتقده، كما نفتقد كل شىء جميل وأصيل وحقيقى. 

لقد خضت بالقرب من بحر عزلة عادل إمام قليلًا، عندما قلت إنه لن يعود إلى الفن مرة أخرى، لديه من الأسباب ما يجبره على ذلك، وأعرف كثيرًا مما تحاول أسرته إخفاءه، وأتفهم مبرراتهم لعدم ظهوره فى فعاليات تكريمه، ورفض المشاركة فى أى عمل وثائقى عنه، والاكتفاء بتسريب صورة هنا أو تسجيل صوتى هناك، ليقولوا للجميع إنه لا يزال موجودًا. 

ولأن وجود عادل إمام بهذه الطريقة لا يكفينا، فإننا نحاول أن نبحث عن مخرج لكسر حالة الحصار المفروضة عليه، رغم معرفتنا بأنه لن يخرج أبدًا، لأنه لا يقدر على ذلك. 

لن أناقش أسرة عادل إمام فيما تفعله فى كل ما يخصه، فهذا من حقها وحدها، فلا لوم ولا عتاب، ولن نلتفت إلى كثير مما يقال ويتردد عنه وعنهم. 

ليس من حقنا أن نفرض عليهم ما نريده، رغم أن جمهور النجم الكبير يعتبر أن له فيه ربما أكثر مما لأسرته، فالفنان فى كل مكان وليس فى مصر فقط لمحبيه حق لهم. 

لكن من حقنا أن نتحفظ على ما يصرحون به عنه، وأن نضع علامات استفهام حول الإشارات الغامضة التى تصدر عنهم فيما يخصه، وما يرتبط باحتمالية عودته، وهم أكثر من يعرفون بأن شيئًا من ذلك لن يحدث.. لا اليوم ولا غدًا. 

من حق عادل إمام أن ينعم بعزلته.. ولا أقول تقاعده، فالفنان لا يتقاعد أبدًا، فأعماله موجودة وباقية واكتشافه متجدد مع كل فيلم يعرض له، وكل مسلسل نشاهده. 

من حقه أن يستمتع بخلوته.. بعد أن ظل لعقود يمنحنا البهجة على حساب أعصابه ووقته، فالفنان يحترق من أجل إسعاد جمهوره، وعادل ظل يحترق بلا انقطاع لستين عامًا لم يتوقف فيها عن العمل. 

كل ما أتمناه للنجم الكبير هو أن ينعم الله عليه بأيام سعيدة يجد فيها راحته نفسيًا وجسديًا، وإذا أردنا تكريم عادل إمام فعلينا أن نجتهد فى أمرين. 

الأول أن نكف عن إزعاجه.. أن نتوقف عن السؤال عن عودته التى أصبحت مستحيلة، وإذا احتج أحد من أسرته بأنهم يواجهون أسئلة دائمة عن هذه العودة، فيمكنهم ببساطة أن يتوقفوا عن الرد تمامًا، فلا أحد يفرض عليهم أن يقولوا ما لا يريدون، ولا شىء يضطرهم إلى أن يطلقوا تصريحات يمسكون فيها بالعصا من المنتصف. 

الثانى أن نجتهد من الآن لإقامة متحف كبير يليق باسم وتاريخ عادل إمام. 

لقد تعودنا أن نكرم عظماءنا بعد أن يرحلوا، ربما استجابة لحكمة أجدادنا العرب القديمة: إذا أردت أن تكرم.. فمت. 

لماذا لا نكسر هذه القاعدة؟

لماذا لا نستبق الأحداث؟

أعرف أن الأعمار بيد الله، لكن عادل إمام لا يزال بيننا، فلماذا لا تقوم وزارة الثقافة من الآن فى تأسيس متحف يكون نموذجًا، نحافظ من خلاله على كل ما يتعلق بالفنان الكبير، ويصبح مزارًا لمن يريدون أن يتعرفوا على تاريخه وإسهامه الكبير فى حياتنا الفنية والثقافية والسياسية. 

هذه ليست أمنية، ولكنها فكرة، أتمنى على الجميع أن يتعاونوا من أجل تحقيقها، وأعتقد أن أسرة عادل إمام لن تبخل على مثل هذا العمل القومى بكل ما لديها، ففى هذه النقطة بالذات لا يمكن أن يقولوا إن والدهم ملكهم وحدهم، ولكنه ملكنا نحن أيضًا. 

لقد كان من طالع سعدنا أن نعيش عصر عادل إمام. 

رأينا مسيرته أمامنا تتعاقب فصولها، ومن حق من سيأتون بعدنا أن يعرفوه ويتعرفوا عليه، ويسعدوا هم أيضًا بأن مصر لديها فنان استطاع أن يصنع من نفسه أسطورة، خاض مئات المعارك ولم يخضع، أضحكنا وأبكانا ووقف إلى جوارنا فى أحزاننا وأفراحنا دون أن يطلب منا شيئًا، فقد قدم ما يسعده.. وكان هذا يكفيه. 

كتبت منذ سنوات- دون تجاوز أو جرأة على الله- أعتقد أن الله سيدخل عادل إمام الجنة من غير حساب، لأن الله يحب من يسعدون الناس.. وعادل أسعدنا بكل ما يستطيع. 

خرجت طيور الظلام تهاجمنى وتعيب علىّ أننى قلت ما قلته، واتهمونى بأننى أسلك مسلك من يحتكرون الجنة والنار باسم الله، ولم يلتفتوا إلى أننى لم أقع فى هذا المأزق.. فقد قلت: أعتقد.. ولا أحد يحاسب أحدًا على اعتقاده إلا الله. 

اليوم أقول إننى أتمنى على الله أن يمنح عادل إمام ما يستحقه، فى أيامه التى يعيشها الآن فى عزلته، فينعم عليه بالراحة والسكينة والطمأنينة والسلام.. وعندما يلقاه ينزله المنزل الذى يحبه.. قولوا جميعًا: آمين... آمين يارب العالمين.