وجوه وقضايا.. على عطا: احتراف الأدب «لا يغنى ولا يسمن من جوع»

- أنا بعيد تمامًا عن الجوائز.. تقدمت لكثير منها ولم يحالفنى الحظ
- انتمائى الأول إلى الشعر ولا يمكن أبدًا أن «يُهجر»
- أنتظر صدور روايتى الثالثة وديوانى الرابع.. قريبًا
- مستقبل الفكر والفن والأدب يكاد يكون مُظلِمًا
عن تلك الخبايا التى تحجب الكثير من متون الإبداع الثقافى والفكرى والمعرفى، يحفر الكاتب الصحفى والشاعر والروائى على عطا، من خلاله كتابه الأحدث: «وجوه وقضايا»، الصادر عن دار «بيت الحكمة» للصناعات الثقافية، فى 250 صفحة من القطع الكبير.
يتوقف «عطا»، فى كتابه الجديد، عند إنجازات العشرات من رجال الفكر العرب والمصريين، متناولًا قضايا حجب المعرفة ومسارات الآخرين عن أعين وذائقة ووعى النقاد والمتابعين لحركات النشر فى عالمينا العربى والمصرى.
يستعرض تلك الإنجازات الفارقة فى عوالم الفكر عند كل من المفكر إدوارد سعيد، والدكتور أحمد مرسى، ثم يعرج على العديد من العناوين الإبداعية الفارقة للكاتبة هايدى عبداللطيف، قبل أن يتطرق إلى شاعرية أحمد شوقى، ومتون ميرال الطحاوى، والتراث عند جابر عصفور، وإشكالية الشر فى عالم نجيب محفوظ الروائى، وعوالم ومسارات فكر الدكتور شاكر عبدالحميد، وغيرها الكثير.
فى السطور الآتية، تحاور «حرف» الشاعر والروائى والكاتب الصحفى على عطا، عن كتابه الجديد: «وجوه وقضايا»، للاقتراب أكثر من فكر رجل يعمل فى المجال الثقافى منذ 35 عامًا، قدم خلالها الكثير من الإسهامات، فى الرواية والشعر والكتابة الصحفية.
■ فى كتابك «وجوه وكتب وقضايا» تتوقف عند العديد من الشخصيات فى مصر والعالم العربى.. لماذا هذا الكتاب فى هذا التوقيت؟
- المقالات التى يجمعها هذا الكتاب، الذى تشرفت بصدوره عن دار نشر متميزة هى «بيت الحكمة»، تعبر فى مجملها عن محبة للكتاب فى شكله التقليدى، الذى بات مهددًا من جانب الصيغة الإلكترونية المستجدة، والتى أرى أنها مهما انتشرت فإنها لن تقضى على الشكل الذى صار مألوفًا منذ قرون عديدة فى مختلف أنحاء العالم العامر بثقافات شتى، وتلك المحبة تشمل بالطبع مؤلفى الكتب ومترجميها وناشريها وقراءها.
والاحتفاء باتساع رقعة مثل هذه الأعمال، هنا فى مصر وفى عدد من الدول العربية، ومن جانب دور نشر خاصة، واجب ينبغى أداؤه، ليس من جانبى أنا وغيرى من المحررين الثقافيين فحسب، بل أيضًا، وهذا هو الأهم، من حكوماتنا العربية، طالما أنه على رأس أهدافها النهوض بأوطانها، وتعزيز الصلات الثقافية مع غيرها من الأوطان، شرقًا وغربًا، وشمالًا وجنوبًا، مع مراعاة أولوية الاهتمام بثقافات محيطنا الإفريقى غير العربى، الذى ينتج إبداعًا وفكرًا بلغات عدة.
■ طرقتَ العديد من الأبواب والنوافذ والمسارت لكُتَّاب كثيرين فى الكتاب.. لماذا توقفت عند هذه الأسماء تحديدًا؟
- لأنها أثرتْ الآداب والفنون، سواء على المستوى المحلى أو على نطاق أوسع عربيًا وعالميًا.
فى الكتاب مراجعات لكتب تناولت إبراهيم ناجى ووجيه غالى وجابر عصفور وإدوارد سعيد وألبير قصيرى والشاعر الفنان أحمد مرسى. والأخير بالذات لن نجد صعوبة فى ملاحظة تقديره عالميًا، فيما هو غير مقدَّر على نحو لائق به مبدعًا وناقدًا فى بلده مصر.
على سبيل المثال، نجد أن الدكتورة سامية محرز، فى كتابها عن جدها الشاعر إبراهيم ناجى، الذى قدمته فى صورة زيارة حميمة لشاعر «الأطلال» وعوالمه المتشعبة، كانت حريصة على تصحيح كثير من المعلومات المتداولة، ومنها ما ذهب إليه بعض كتَّاب سيرة الشاعر الطبيب من أنه كتب الشعر متأثرًا بعلاقة عاطفية ربطتْه بجارة له، فضّلت عليه شخصًا آخر وتزوجته.
لا تنكر سامية محرز أن تلك الجارة كانت الملهمة الأولى لجدها. لكنها تنكر أنه كان يرغب فى الزواج منها، مستندة إلى قراءة معمّقة فى مذكراته أو تدويناته غير المنشورة، التى كتبها بالإنجليزية والعربية والفرنسية، فى الفترة من ١٩٤٤ إلى ١٩٤٩، وبحث «ميدانى» فى محيط تلك الجارة التى توفيت بعد «ناجى» بنحو ربع قرن.
■ ماذا عن كتاب «ألبير قصيرى والسخرية»؟
- أما كتاب «ألبير قصيرى والسخرية» بترجمة راوية صادق، فيخبرنا فيه مؤلفه بالفرنسية محمد شاهين بأن «قصيرى» لم يكن مزدوج اللغة، بل كان مزدوج اللسان، فهو كان يجعل الفرنسية تعمل بواسطة العربية، دون أن يكون فى وضع المنفى فى فرنسا، أو الخاضع للغة الفرنسية.
ويضيف: «هو يكاد لا يستطيع قراءة العربية، إذ إن لغته الأم المكتوبة أصبحت أجنبية، بالنسبة إليه، خصوصًا بعد خروجه من مصر، وهو على أى حال كان متمكنًا تمامًا من اللغة الفرنسية، وبدأ شغفه بالأدب الفرنسى عندما كان فى العاشرة من عمره، ومع ذلك نجد أن نصوصه حبلى بتعبيرات عربية، وتتخللها صور بودليرية، نسبة إلى شارل بودلير، ولكن بنكهة مصرية».

■ ما الكتب الأخرى التى تضمنها الكتاب؟
- نستطيع أن نلاحظ وجه الناقد الأكاديمى الراحل الدكتور شاكر عبدالحميد وألمه الذاتى، فى أحد كتبه الأخيرة: «الدخان واللهب: الإبداع والاضطراب النفسى»، والذى يقول فيه: «لا أعرف ما الذى دفعنى تحديدًا لكتابة هذا الكتاب. هل كآبة ما قد اعتملت فى أعماقى بسبب بعض الظروف العامة أو الخاصة فدفعتنى إلى محاولة فهم بعض تلك الأسرار الغامضة التى قضيت حياتى محاولًا أن أفهمها دون جدوى؟ أم رغبة فقط فى أن أكون موجودًا على الحافة، أو أن أبتعد عنها، أن أكتفى بالنظر دون أن يُنظر إلىَّ؟ ربما كنت أحاول أيضًا أن أنظر إلى تلك الأعماق المخيفة التى تواجهنا جميعًا، على أنحاء شتى، وبدرجات مختلفة، فى هذه الدنيا، كما واجهها آخرون فى أماكن أخرى وعصور أخرى، وتراوحوا بين تلك القمم وهذه السفوح».
■ قدمت نفسك كمثقف رؤى وشاعر وروائى منذ أكثر من ٣ عقود.. إلى أى المسارات تنتمى وتجد نفسك؟
- أجد نفسى فى جميع تلك المسارات، وأعتز بكونى وجدت لنفسى موطئ قدم فى كل منها. الصحافة استأثرت بالاهتمام الأكبر، لكنها بدأت تتوارى لصالح الإبداع منذ غياب جريدة «الحياة»، التى عملت فى مكتبها بالقاهرة لنحو ٣٠ عامًا، ومكتبها فى الرياض لنحو ٣ سنوات، وبعد تقاعدى رسميًا من العمل فى وكالة أنباء الشرق الأوسط.
وسعدت بأن جمعت بعض جهدى الصحفى فى كتابين، الأول هو «وجوه وكتب وقضايا فى زحام عوالم افتراضية»، والثانى «ظلال السرد بين مرآةٍ للذات ونافذةٍ على الآخر»، وسيصدر قريبًا عن الهيئة المصرية العامة للكتاب، بمشيئة الله.
ذائقتى تميل إلى الشعر الذى أصدرت فيه ٣ دواوين حتى الآن، وفى طريقى لإصدار ديوان رابع، لكننى مهتم فى الوقت نفسه بالاطلاع على ما يتيسر لى من روايات ومجموعات عربية ومترجمة، وأسعد بمقاربات نقدية عنها أنشرها فى «إندبندت عربية» و«النهار العربى» و«الفيصل» وغيرها من منافذ النشر الصحفى.
أما الرواية فقد اتجهتُ إليها لأنها كانت الأنسب لتجارب وأفكار وتخيلات معينة، مقارنة بالشعر. وأنا أرى أن المجاليْن ينبثقان من نبعٍ واحد، هو نبع الإبداع الأدبى. كما أرى أن مَن يكتب الشعر يمكنه ببساطة أن يكتب الرواية، وهناك أمثلة كثيرة على هذا عربيًا وعالميًا، لا مجال هنا لذكرها، لا على سبيل المثال، ولا على سبيل الحصر الذى هو فى حكم المستحيل، فالأمر واضح تمامًا وراسخ منذ القدم.
■ بدأت فى طرح رؤاك المغايرة كمبدع بـ٣ دواوين لقصيدة النثر، ثم كانت الرواية.. لماذا توقفت عن كتابة الشعر؟
- لم أتوقف عن كتابة الشعر، فكما ذكرت سابقًا لى ديوان قيد النشر، وأتمنى أن تليه دواوين أخرى. انتمائى الأول هو للشعر، وأرى أنه لا يُهْجر بتعبير الناقد والشاعر، ومن السهل أن تجد أصداء له فى الفنون الأدبية الأخرى ومنها الرواية.
■ فى روايتيك: «حافة الكوثر» و«زيارة أخيرة لأم كلثوم»، العديد من المفارقات المدهشة.. هل تعد الرواية ملاذك الأول والأخير؟
- نعم، هى ملاذ، ضمن ملاذات أخرى توفرها الكتابة بمختلف تجلياتها. بالتالى لا أعتبرها الملاذ الأخير، فى سعيى للتعبير عن ذاتى وعن رؤيتى للعالم. الرواية تفسح لى مجالًا أوسع للتعبير عن الذات، وعن اضطراب العالم والأفكار.

■ لماذا رجعت فى روايتيك إلى السبعينيات والثمانينيات تحديدًا؟
- على الصعيد العام، هى حقبة ملتهبة، فى بدايتها رحل جمال عبدالناصر، فانتهى عهد وبدأ عهد مناقض له يتزعمه «السادات»، الذى قاد عملية إزاحة رموز حكم سلفه، فيما أطلق عليه «ثورة التصحيح»، واتخذ قرار حرب أكتوبر، وفتح المجال للتعددية الحزبية، وأطلق ما يسمى بـ«الانفتاح الاقتصادى»، ثم زار القدس وأبرم اتفاقية سلام مع إسرائيل.
فى عهد «السادات» أيضًا فُتحت الأبواب أمام «الإخوان»، فخرجت من عباءة تلك الجماعة جماعات العنف والتطرف والتكفير، وشهدت البلاد العديد من الأحداث العنيفة، التى بلغت ذروتها باغتيال الرئيس الأسبق نفسه.
تميز هذا العقد ثقافيًا ببروز جيل السبعينيات، الذى أرى أنه مهَّد السبيل لظهور تيار قصيدة النثر، وكان العقد التالى امتدادًا له، سياسيًا وثقافيًا، فجرى خلاله ترسيخ ما بدأه «السادات»، واستمر فتح المجال العام أمام «الإخوان»، على ما انطوى عليه ذلك من مخاطر لا مجال هنا للخوض فى تفاصيلها، فهى معروفة لكل مهتم على أى حال.
وعلى الصعيد الشخصى، بدأ يتشكل وعيى فى السبعينيات، وشهد هذا العقد بدايات انفصالى عن مسقط رأسى المنصورة، وإن لم يكن على نحو كلى، فالتحقت بكلية الإعلام جامعة القاهرة، تمهيدًا لاحتراف الصحافة، ونشرت شعرى للمرة الأولى من خلال مجلة الحائط فى الكلية، وبدأت قراءة صلاح عبدالصبور وأحمد عبدالمعطى حجازى وأمل دنقل ويحيى الطاهر عبدالله ونجيب محفوظ وتوفيق الحكيم وطه حسين ويوسف إدريس.
■ أين أنت من الجوائز المصرية والعربية؟
- بعيد تمامًا، ولا يعنى هذا أننى زاهد فيها، فقد تقدمت لكثير منها لكن لم يحالفنى الحظ.
■ وكيف ترى الجوائز العربية التى ذاع صيتها فى الـ١٥ عامًا الأخيرة؟
- أراها تطورًا مهمًا للغاية، فقد أثرت بشكل عام الحراك الأدبى ونشر الأدب وترجمته، فضلًا عن قيمتها المادية، التى تسهم بالتأكيد فى انتشال كثيرين ممن يفوزون بها من الاحتياج إلى المال، فى ظل أن احتراف الأدب فى أغلب الأحيان لا يغنى ولا يسمن من جوع.
■ هل الصحافة تعوق الإبداع بالفعل؟
- ربما فى الكم. لكن لا يمكن أن نأخذ الأمر على نحو مطلق. فهناك أدباء عملوا بالصحافة ولم يؤثر ذلك فى إنتاجهم، لا كمًا ولا كيفًا.

■ ما جديدك؟ وما الأعمال التى لفتت انتباهك فى العامين الأخيرين؟
- أنتظر صدور روايتى الثالثة، وكتاب يضم بعض ما كتبته عن أعمال أدبية عربية ومترجمة، قريبًا. أما الأعمال الأدبية التى لفتت انتباهى فى العامين الأخيرين فهى كثيرة، وقد كتبت عنها، بالتالى لن يتسع المجال هنا لذكرها كلها.
■ بعد أكثر من ٣٥ عامًا فى محراب الأدب والفن والفكر والشعر والرواية، كيف ترى حصاد الرحلة؟
- أراه مُرضيًا بالنسبة لى، وأرجو أن أضيف إليه ما يستحق أن يبقى، خلال ما تبقى لى من عمر.
■ كيف ترى مستقبل الفكر والفن والأدب فى ظل عصور «الانحطاط والحروب» الحالية؟
على الصعيد المحلى، أرى مستقبلها غائمًا ويكاد يكون مُظلِمًا، على ضوء إقصاء الفلسفة والمنطق وعلم النفس من مناهج التعليم، وانحسار الأنشطة الفنية والأدبية والبدنية فى المدارس والجامعات، مع أن ذلك أساس تكوين العقل النقدى، الذى هو أساس أى حضارة إنسانية.