لا أحد ينام فى القبارى.. خطابات إبراهيم عبدالمجيد إلى عبدالناصر: «ابعتلى صورتك ياريس»
- طلبت وأنا فى ابتدائى صورة من الرئيس فأرسلها لى خلال أسبوع واحد
- سألت عن عنوانه فقال أحد زملائى «لا نحتاجه.. لا يوجد سوى جمال واحد»
- الخطاب الثانى أرفقته بـ«أبيات شعر تُرقق القلب» لزيادة معاش والدى
الحديث عن جمال عبدالناصر له جاذبية خاصة، يُشبه تمامًا تلك الجاذبية التى تمتع بها هذا الرجل، فما بالك لو كان هذا الحديث من قلب قبل لسان صاحب «ثلاثية الإسكندرية» الشهيرة: «لا أحد ينام فى الإسكندرية»، و«طيور العنبر»، و«السحب فوق الإسكندرية»، الروائى والقاص الكبير إبراهيم عبدالمجيد.
ما قصة الخطابات التى أرسلها طلاب مدرسة «القبارى» الابتدائية فى الإسكندرية، ومن بينهم الطالب فى الصف الثالث الابتدائى، إبراهيم عبدالمجيد، إلى الرئيس الراحل جمال عبدالناصر، لطلب صور شخصية له، وكيف ردت عليها مؤسسة الرئاسة آنذاك؟ وكيف كرر «عبدالمجيد» «مراسلاته مع الرئيس»، عندما صُدمت أسرته بتقليص مكافأة نهاية الخدمة لوالده من 500 جنيه إلى 3 جنيهات و30 قرشًا؟
هذه وغيرها من الحكايات، عن الإسكندرية وقت العدوان الثلاثى، والانفصال عن سوريا، وغيرهما من الأحداث التى عاشها بنفسه، رواها لى الروائى والقاص الكبير، بين عامى 2008 و2009، فى لقاءات خاصة مُسجلة، نضعها بين أيدى قراء «حرف» فى السطور التالية..
يصل ويسلم ليد الرئيس
فى مدرسة «القبارى» الابتدائية بحى «القبارى» بالإسكندرية، عام ١٩٥٥، وأنا فى الصف الثالث الابتدائى، ولدىّ من العمر ٩ سنوات، كنا نجتمع فى الحصص الدراسية الخالية حول واحد منا لديه قدرة بارعة على نقل الحكايات التى يسمعها من جده ووالديه إلينا مُجسمةً طازجةً بالانفعالات. كان اسمه حسن هلال، مازلت أذكره.
لم ينجح «حسن» فى التعليم، ليقف فيما بعد عاملًا خلف ماكينة إحدى السينمات، ثم التحق جنديًا بالبحرية يجوب العالم، ولم أعد أسمع عنه شيئًا منذ سنوات بعيدة. كان بحق قادرًا على منحنا عالمًا من الفتنة والسحر.
وفى إحدى السهرات، ونحن نتجمع حوله، قال تلميذ آخر بشكل مفاجئ: «لدينا فى بيتنا صورة لجمال عبدالناصر، أرسلها الرئيس جمال نفسه إلى شقيقى الأكبر».
انقطعنا عن الاستماع للحكايات الساحرة، وسألنا هذا التلميذ الآخر: «كيف حدث ذلك»، فقال إن أخاه أرسل خطابًا إلى الرئيس يطلب صورة، وبعد أسبوع حمل البريد الصورة إليه، وعليها توقيع «عبدالناصر»، وهى «صورة جميلة بالألوان للرئيس بالزى العسكرى». لم نصدقه، وكعادة الأطفال طلبنا منه دليلًا على صدق كلامه، طلبنا أن يحضر الصورة لنراها.
فى اليوم التالى جاءنا كسيف الوجه، أقسم برحمة النبى أنه لا يكذب، لكن المشكلة أن أخاه رفض إعطاءه الصورة لنراها، إذ وضعها فى برواز صغير وعلقها على الحائط، ثم قال إن أخاه ينصحنا بأن نرسل مثله خطابات إلى «عبدالناصر» فيرسل إلينا صورًا.
سألناه عن العنوان الذى يمكننا مراسلته، فقال الذى هو موهوب فى الحكايات: «المسألة لا تحتاج إلى عنوان، فلا يوجد إلا عبدالناصر واحد، ولا يوجد ساعى بريد يمكنه أن يمنع خطابًا مرسلًا إليه».
فى اليوم نفسه داخل بيتنا، كتبت رسالة صغيرة إلى «عبدالناصر»، أطلب منه صورة للذكرى، وعندما عرفت أمى أنى سأرسل رسالة إلى الرئيس، نظرت لى بفخر وفرح، وأعطانى أبى ثمن طابع البريد وهو يقول: «اكتب على المظروف: القاهرة رئاسة الجمهورية يصل ويسلم ليد الرئيس جمال عبدالناصر، هكذا يصل الخطاب».
«سرحونا» من المدارس، لأن إسرائيل هاجمت سيناء، والمظلات الإنجليزية والفرنسية نزلت على أرض بورسعيد. مشينا فى الشوارع نهتف بسقوط «إيدن» و«مولييه» و«بن جوريون»، وضعنا لهم دمى قبيحة، وبقية اليوم بالنهار بالذات كنا نتجمع حول رجال الجيش والحرس الوطنى، وهم يطلقون قذائفهم على الطائرات القليلة التى كانت تغير على المدينة نهارًا.
كان منظر الطائرة مُدهِشًا، فالجو خريفى بارد، والسحب لا تنقطع عن سماء المدينة. كنا نحب السحب البيضاء، لأن الطائرة، وهى تختفى فوقها، كانت تظل ظاهرة، ونزداد دهشة ولا نصدق أنها أفلتت من قنابل المدفعية المضادة، ونأسف لأنها سقطت فى مكان بعيد، لا يمكن أن نذهب إليه لنتفرج على حطامها.
فى الليل، لم يكن أهلنا يتركوننا نتجمع حول رجال الجيش، الذين وضعوا مدافعهم فوق المنازل العالية، كنا نتجمع فى الأدوار السفلية، أو فى شارع أمام البيوت، حيث تنطلق صافرات الإنذار، ويبدأ الضرب، فيدخل كل منا- نحن الصغار- إلى أقرب حضن كبير يجاوره.
أسمع تمتمة أبى بالدعاء وتلاوة القرآن، وتنتهى الغارة، وينقطع صوت المدافع، وتختفى «الفوانيس» التى تُلقيها الطائرات لتضيئ المدينة، وترتفع الصيحات تشكر الله، لأن «الطوربيدات» التى ألقتها الطائرات سقطت بعيدًا عنا فى الخلاء الواسع، ويتصل الحوار فى اليوم التالى بين أبى والجيران، جميعًا كانوا بسطاء.
3 جنيهات و30 قرشًا
فى تلك الأثناء بالتزامن مع الحرب، كنت أتسلل فى الظلام بعد الغارة أو أحيانًا خلالها كى أصل إلى البرواز الصغير الذى وضعت فيه صورة «عبدالناصر» بالزى العسكرى، تلك الصورة التى أرسلها إلىّ بعد رسالتى إليه منذ عام، ومازلت أحتفظ بها.. أنظر إلى الصورة وأشعر بأنه شجاع ورجل حقيقى، رغم أنه كان فى الصورة يبتسم ابتسامة عريضة لا تدل إلا على السماحة والرضا.
لقد وصلتنى الصورة بعد أسبوع واحد من طلبى لها، وجريت بها فى المدرسة، بعد أن أطلعت زملائى عليها، لم أسمح لأحد بأن يمسها فجروا ورائى يحاولون خطفها أو رؤيتها على مهل، وكان كل تلميذ يسأل عن سبب المطاردة ويعرفه فيطاردنى مع المطاردين.
اقتنع الزملاء بصدق كلام زميلنا الأول، أرسلوا جميعًا يطلبون صورًا لـ«عبدالناصر»، فلم ينقطع البريد عن الوصول إلى المدرسة، حاملًا صورًا للطلاب الصغار، هكذا إلى نهاية العام. لم ينقطع بعد ذلك أيضًا حتى انتقلنا إلى المرحلة الإعدادية، عام ١٩٥٨.
لم أعد أعرف ما إذا كان الطلاب الجدد فى المدرسة الابتدائية لا يزالون يرسلون إلى «عبدالناصر» يطلبون صورة أم لا؟ لقد فعلنا ذلك منذ سنوات، وجاءتنا صور جميلة للرئيس بالبدلة العسكرية وبالألوان.
فى أكتوبر عام ١٩٦٢، كان علىّ أن أرسل خطابًا آخر إلى جمال عبدالناصر.. لم أطلب صورة هذه المرة. كنا كأسرة نعرف تاريخ ميلاد أبى، وأنه فى هذا الشهر سيُحال إلى التقاعد من عمله فى هيئة السكك الحديد، وكنت أنا قد أعددت الأمر لذلك منذ عام، إذ التحقت بالمدرسة الثانوية الفنية، فى العام السابق مباشرة، حتى أختصر طريق التعليم، الذى لم يكن قد صار مجانيًا بعد.
التحقت فى العام السابق عام ١٩٦١ بمدرسة إسكندرية الثانوية الفنية، بقسم «الكهرباء» تحديدًا، الذى جرت العادة أن يلتحق به الطلبة الحاصلون على مجموع كبير فى الشهادة الإعدادية. وفى ذلك الوقت بالذات، بدأت أعراض الكتابة تظهر علىّ، فانكببت أؤلف قصصًا رومانسية ساذجة، دون أن أعرف شيئًا عن هذا الفن الساحر.
كان ١٩٦١ هو عام التأميم الشهير، وعام أغنية عبدالوهاب «دقت ساعة العمل الثورى»، وعام انفصال الإقليم الشمالى «سوريا» عن «الجمهورية العربية المتحدة». حدث الانفصال فى اليوم السابق لدخولنا المدارس، فكان أول يوم دراسى مُكرسًا للمظاهرات التى تندد بالانفصال وقادته.
لم ندخل المدرسة إذن، ورحنا ندور فى شوارع الإسكندرية نهتف بسقوط قادة الانفصال، قبل أن أقرر فجأة دخول السينما. كان ذلك شيئًا سيئًا بالتأكيد، لكنى لا أدعى أنى فعلته إيمانًا بأى شىء، ولم يكن له أى سبب سياسى، ومن ثم لم أشعر بأى لوم على انفصالى عن المظاهرات التى تندد بالانفصال، فقد أحببت أن أشاهد فيلمًا جديدًا لـ«ستيف ريفز»، من سلسلة أفلام «هرقل» الشهيرة.
فى العام التالى ١٩٦٢، قرر «عبدالناصر» إلغاء كل المصروفات بكل مراحل التعليم، ولم أندم على اختيارى التعليم الفنى، الذى لم أحبه أبدًا، لأننى كنت أعرف أنه فى هذا العام سيحال أبى إلى التقاعد، وسيكون علىّ تسلم أعباء العائلة.
ولقد حدث ما هو أبشع مما انتظرت أسرتنا، فقد كان المتبع فى ذلك الوقت أن يحصل المحالون إلى التقاعد على مكافأة نهاية خدمة مجزية، وكان أبى قد قدر لنفسه ٥٠٠ جنيه، وهو مبلغ كبير فى ذلك الوقت.
لكن فجأة تم تطبيق نظام التأمين الاجتماعى على جميع العاملين فى الدولة، حدث ذلك عام ١٩٦١، ولم يعد من حق أبى مكافأة نهاية خدمة، ولأن رصيده فى التأمين لا يزيد على عام واحد، لم يكن يستحق إلا الحد الأدنى للمعاش، وهو ٣ جنيهات و٣٠ قرشًا.
أصاب أبى الصمت الممض، وانحفر الحزن على وجهه حتى خفنا أن يموت. لكنى أنا المراهق المتفائل قلت له» «لا تبتئس»، وكتبت خطابًا إلى وزير الشئون الاجتماعية، الدكتورة حكمت أبوزيد، أول وزيرة مصرية، طلبت منها أن تصحح هذا الظلم الذى تسبب فيه تطبيق القانون، دون اعتبار لمن سيحالون إلى التقاعد دون أن يكون لهم رصيد من السنوات كافٍ لمعاش حقيقى.
لم أنتظر ردًا من الوزيرة، وفكرت على الفور فى جمال عبدالناصر، فجلست وكتبت له خطابًا طويلًا، أضفت إليه أبياتًا من الشعر ترقق القلوب. وضعته على طريقة «المنفلوطى»، أى والله العظيم، يا له من وقت!