حامـل الجبـل.. مصطفى البلكى: أنا صنيعة النساء.. وجدتى مُلهمتى الأولى
![مصطفى البلكي](/themes/harf/assets/images/no.jpg)
- «الولد الذى حمل الجبل فوق ظهره» رواية للمصالحة مع الماضى
- هدم بيت جدى ألهمنى عملى الأول.. والكتابة لدىّ شفاء وخلاص
- الكيمياء علمتنى بناء عوالم حكاياتى وكل حواسى تعمل أثناء الكتابة
لم يقتصر إبداعه على كتابة الرواية التاريخية والاجتماعية فحسب، وامتد مداد قلمه ليكتب للأطفال أيضًا، وفى جميعها تأثر ببيئته الجنوبية، هناك فى قرية «عرب الأطاولة» التابعة لمركز الفتح فى محافظة أسيوط، والتى كتب عنها بلغة أشبه بالهمس، فى أعماله كافة.. الروائى مصطفى البلكى، صاحب روايات «طوق من مسد» و«نفيسة البيضا» و«البهيجى»، وصولًا إلى روايته الأخيرة «الولد الذى حمل الجبل فوق ظهره»، والتى تسحرك بلغتها المستمدة من حكايات الجدات، وجلسات الأنس حول «الكانون»، هناك فى جنوب مصر. عن رحلته مع عالم الكتابة، وكيف أثر الجنوب فى مشوار إبداعه، ومدى تأثير جدته عليه الذى دفعه لأن يصفها بـ«ملهمته الأولى»، يدور حوار «حرف» التالى مع الروائى مصطفى البلكى.
![](/Upload/libfiles/0/8/566.png)
■ عما تدور روايتك الجديدة «الولد الذى حمل الجبل فوق ظهره»؟
- هى رواية المصالحة مع الماضى من خلال المصارحة معه، فيها يذهب «مُنصف» إلى بيوت قريته القديمة التى لا يدخلها أحد ليعرف سر خوف الأهالى هناك، فيلتقى فيها بشخيصات عاشت يوم الكارثة، شخصيات ماتت وتعود بعد ٥٠ سنة لإيقاظ الحياة.
يعودون وهم قادرون على مواجهة تجاربهم، فى رحلة اكتشاف واشتباك، يرون من خلالها أسباب الغفلة، وكل واحد يمسك بما كان، من خلال مرويات حدثت قبل نصف قرن. يعودون وهم على صلة بالواقع، وبيقين يدركون معه أن كلًا منهم لديه مسئولية كشف الحقيقة.
كأنهم فى صلة دائمة مع الواقع الذى حدث، وخلف تلك المرويات تكون أسباب ومقدمات الكارثة، ويصبح إعادة ما كان، ليس لفقد الأماكن وما حدث، بل لاكتشاف كيف حدث ما حدث ولماذا، وحيث هم عالقون؟، وتلعب الأحلام دورًا مهمًا فى فك لغز ما كان.
![](/Upload/libfiles/0/8/567.png)
■ صدر لك الكثير من الأعمال.. متى بدأت حكايتك مع الكتابة؟
- حكايتى مع الكتابة، هى حكايتى نفسها مع الحكاية، الحكاية ربطتنى بالحياة، وفى الجنوب أنت لا تحتاجُ إلى الذهاب بعيدًا لتحصل على الحكايات المدهشة، لأنها حولك فى كل مكان، وأنا كنت من المحظوظين الذين وُجدوا فى بيوت تعيش فيها الحكايات، من خلال فم يجيد سردها، جدتى، والتى كانت همزة الوصل السحرية التى ربطتنى بمتعة صاغت كل مفاصل الحياة. كانت-رحمة الله عليها- من الحافظين للسير، ولأشياء كثيرة أخرى تمارسها بحب، كغناء الحجيج والعديد والأفراح.
درجة القرب منها نقلت لى الشغف ذاته، لم أضع قيدًا على شغفى هذا، كان ذلك أثره علىّ كبيرًا، كنت أستقبل الحكاية منها، وأنقلها مع إضافات منى إلى أندادى فى الفسحة أثناء الدراسة، وفى أوقات اللعب، أفادتنى هذه الحياة، وتعلمت من الحكاية كيف أشبع نهمى من السعادة، وبمرورِ الوقت أدركت أن الحكاية الجميلة مفيدة لإلغاء الزمن، واكتشاف حياة لم تكن معروفة لى.
وحينما ذهبت إلى المدرسة الثانوية، حدثت النقلة المهمة فى حياتى، أصبحت قارئًا، فى البداية كانت القراءةُ بابًا جميلًا دخلت فيه إلى عالم الحكاية المكتوبة، بعد زمن قضيته مع الحكى الشفاهى، ومع أول تجربة لى، مُنحت متعة لا يمكن نسيانها، من خلال رواية «لقيطة» لمحمد عبدالحليم عبدالله بين يدى، تلك البداية وضعنى عليها مدرس اللغة العربية، فى مدرسة «ناصر الثانوية العسكرية» بأسيوط، تحديدًا فى أكتوبر عام ١٩٨٦.
■ كيف انعكست هذه الحياة على اتجاهك للكتابة إذن؟
- بعد سنوات طويلة من القراءة، طرق السؤال بابى: «لماذا أقرأ؟»، يومها الكتابة لم تكن قد سحرتنى، ودون أن أدخل فى الجدال مع نفسى قلت: «أقرأ لأتنفس». كانت الإجابة غريبة علىّ، وأنا بعد لم أُختبر من قبل الحياة، إجابة صادقة، اقتنعت بها، ولو كنت هشًا غير مؤمن بما وصلت إليه، ما استمرت رحلتى، فالكتاب بحق هو الشىء الوحيد القادر على تفسير الحياة دون أن يكلف المرء الكثير من الجهد.
فى مكانك تهاجر، من خلال الكتاب، ويدفعك إلى قاعة درس واسعة، لتتم الهجرة إلى عوالم أخرى، كنت أظن أنها غير موجودة. ومع التقدم إلى الأمام، أدركت أن القراءة هى الحياة، التى يجب أن أعرف أدق ما فيها، من خلال عين مختلفة، لكل عين وجهة وزاوية رؤية تخصها.
المرحلة الأهم، جاءت حينما بدأت أواجه الحكاية المدونة بين دفتى كتاب، وكلما قرأت رواية أدرك أن بداخلى قدرة مختبئة لأوجد مثلها، فكل واحد لديه حكايته الخاصة التى تعيش بداخله، حتى جاءت اللحظة المنتظرة، لحظة هدم البيت الذى شيده جدى، تلك اللحظة كانت فارقة، تداعت الحكايات، ومع هذا التداعى أصبحت قريبًا من الانفجار، فأنقذنى القلم والدفتر، قضيت معهما ساعات، لأدون قصة البيت، فعلت وأنا أحقق ما أصبحت أؤمن به، الكتابة شفاء وخلاص.
■ أيمكن اعتبارك بذلك صنيعة جدتك، والجدة فى الجنوب من أهم مصادر الحكى؟
- فى حياتى سيرة مختلفة للنساء، لديهن حياة وأفعال يجب أن يقمن بها، وبجملة لا يمكن محو أثرها. لدى كل واحدة قبضة تسيطر بها على محيطها بقدرة يصعب وصفها. أقول دائمًا: «أنا صنيعة النساء»، مقولة أعيد فيها الفضل لمن أسهمن فى تكوينى، وفى رسم معالم الحياة للصغير الذى كنته.
شاءت الأقدار أن تمر أمى بوعكة صحية، بعد شهرين من ولادتى، ألزمتها الفراش لشهور، فتكفلت جدتى برعايتى، ثم أصبحت ملازمًا لها، وحياتها لم تكن حياة عادية، فالحياة العادية لا ينالها إلا الكسالى، كانت- رحمة الله عليها- شجرة يركن تحت ظلها كل القريبين منها، فعاشت حياة يغلب عليها الحب، والمُحِب بطبعه مدرسة، وبمقدوره أن يهب للعالم حفنة من المتفائلين، الذين يدركون الغرض من وجودهم فى الحياة.
وهنا فى صعيدنا الحبيب، حياة النساء كل شىء فيها كان يحدث تحت ضغط المآسى، فالحزن أمر خاص بهن، يأتى فيكون له هيبته فى حضور جدتى، وحدها تقدم وجبة كاملة له.
ومن يعيش فى بيت أغلب مَن فيه نساء، سيكون كمن يقرأ كتابًا واضحًا، وحيث إنه من يقرأ يشعر، تكونت لدى ذاكرتى أو خميرتى الخاصة، فيها المعلن المعروف، وفيها المتوارى، والتفاصيل الكثيرة التى إذا ما ترابطت أوجدت حكاية. دائمًا حتى الآن أذهب إلى هذه الحياة، حيث تبدأ مع كل رحلة لى حياة أخرى.
■ تعمل كيميائيًا، والكيمياء كلها تفاعلات، تمامًا كما فى الرواية من تفاعلات بين الأشخاص.. بمَ أفادتك الكيمياء فى الأدب؟
- تعلمت من دراسة الكيمياء أشياء كثيرة، خاصة انتظام التفكير المعتمد على أسباب ونتائج، وحتى لا تنفلت الحياة من بين عينى، تعودت على فكرة الذوبان فى النص، ولولا مراقبتى للتفاعلات بين المواد لخلق مادة أخرى بصفات مختلفة، ما كنت قدرت على بناء عوالم حكاياتى بنسق يتوافق مع طبيعة الشخصيات والزمن الذى يضمهم.
منذ البداية كنت أمنح نفسى للكلمات لأذوب معها، والغرض من هذه العملية تفكيك الحياة التى تمثلها، أو إعادة تشكيلها طبقًا لرؤية خاصة تولد بداخلى، ومع اللحظة التى أصل فيها لهذه الفائدة تتلاشى الفروق فيها بين الكلمة المكتوبة والصورة المرئية، وإذا لم يحدث هذا يتم الفصل بينى وبين روح النص وجسده.
هذا الامتزاج لا يحدث إلا إذا منحت كلى للنص الذى لا يقبل بنصفى، فنصف منى كارثة على مستوى أى فعل إنسانى، أما المنح الكلى فيعطى فرصة لكل حواسى لتعمل، فيتحول المتن/الجسد إلى روح/ صورة، فيقوى الخيال لدىّ، ولأن الخيال بلا حدود، أحلق حيث القدرة التى تفعل كل شىء، فتصبح الصورة هى المتحركة، وهى الجاذبة التى تقوى الشغف.
■ المرأة الجنوبية بطلة حاضرة دائمًا فى غالبية أعمالك، ومن بينها «سيدة الوشم».. كيف يراها قلمك؟
- المرأة الجنوبية مُحبِة للحياة، لا تسعى إلى الإعلان عن نفسها كسلعة، ولا الحديث عن حبها، وحتى بعد هامش الحرية الذى أتاحه لها التعليم والخروج إلى العمل، بقيت خاضعة لقلب شجاع، يقوم بمهمته بهدوء ودون ضجيج، لأنها تعرف عاقبة اختلال الخطوة، لذا واقع الحب مُعقد، خاصة لإنسان يعيش فى بيئة تُصنفه طبقًا لعقيدته.
هذا الإنسان أحيانًا يولد فى صمت، ويموت فى الصمت، ودائمًا هناك حواجز توضع أمامه، وتعاليم صارمة مقيدة لحريته، ورغم هذا كله، يكتب روايته أو يصيغ قصته فى الحياة، من خلال مفردة الحب، كونه الدين الواقعى له ولغيره، فرض من الخالق، وحينما يدخل المرء فى مداره، يخضع له، ولا ينتبه للقيود التى يعرفها، يكسرها ويذهب مع النداء بحذر ومن دون ضجيج، وحينما يواجه الجميع فى لحظة حاسمة، يجد نفسه أمام الجمود والمحظور، وقتها يصبح عاجزًا، والعجز لو انتقل إلى الكاتب انتحرت كلمته.
فى «سيدة الوشم»، أنا دخلت إلى عالم شائك، حفرت تحت الجلد بغرض كشف وتفسير الواقع الذى له ما يؤكده، فالذى يظهر على السطح هو النذر القليل، والمتوارى يمثل جبلًا مدفونًا تحت بحر، كنت مثل «ضياء» «شخصية فى الرواية» و«أفروديت»، مستعدًا لتلقى كل أنواع العقاب.
■ غادرت مشروعك الاجتماعى لتكتب التاريخ فى أعمال مثل «نفيسة البيضا» و«طوق من مسد».. لماذا؟
- داخلى هوس أن أتبع الماضى حيث يكون، باختصار أعيش فى زمن تمنيت الحياة فيه، والذهاب بمغامرة تخالف ما أنا فيه، وهذا الحلم أحققه دائمًا فى الكتابة، ومع كل عمل، جزء من هذا الافتتان. فى «طوق من مسد» و«نفيسة البيضا» و«البهيجى» كنت جزءًا من زمن لا وجود له الآن، إلا أن الإنسان هو العامل المشترك بين ما كان وما وجد، فنحن لولا الذين أسهموا فى تحريك الحياة إلى الأمام ما وجدنا الآن. من هذا المنطلق، أصبح اهتمامى مُنصبًا عليه هو، الإنسان، لا يعنينى سرد الأحداث التاريخية، فمكانها فى كتب التاريخ، لكن الشىء الذى أخذته منها هو أثرها على الإنسان الذى يعيش حياته ومحنته فى ظل وجودها ونتائجها.
■ المكان حاضر بقوة فى أعمالك كأنك تؤرخ له من خلال أحداث رواياتك.. كيف أثرت «عرب الأطاولة» على كتابتك؟
- هى حاضرة معها دائمًا، أتأملها فأجدها كمحبوبة تعيش بألف عطر لن يمسها النسيان، فهى فضاء واسع للبوح، علاقتى بها قديمة قدم وجودها، هذا الوجود الذى سحرنى، استطعت أن أربط الأماكن فيها بالكثير من الحكايات التى وصلتنى، فكنت المسافر عبر الزمن، ترافقنى الروائح المميزة، دائمًا هى دليلى، وكان أول ما لفت نظرى، قدرة تلك الروائح على خلق عالم له ما يحدده، عالم يتماوج حتى فى أوقات الراحة، يعيد سيرة الأماكن المرتبطة به، حتى جاءت الفترة التى بدأ فيها التغيير، بفعل المال المجلوب من بلاد النفط.
وقتها كنت أقترب من إتمام مرحلة التعليم الابتدائى، هُجرت معظم البيوت القديمة، واتجه الناس إلى الأطراف، وإلى البناء على الأرض الزراعية، فوجدت بيئة مختلفة، لا جمال فيها، وبقيت البيوت القديمة قائمة، تقبض على صمتها، وعلى الظلال، وروائح من سكنوها، ويتم احتواء هذا الصمت بزيارات متباعدة لجنى البلح، أو لأخذ التبن المُخزَن فيها، فى مشهد يظهر فيه الزائر كأنه يفر من قدر لا يحب أن يعود إليه، وفى اللحظة التى يُغلق فيها الباب، تتصارع الظلال، خلف باب لا يسمح لها بأن تغادر.
فى تلك الفترة، بدأ عقل الطفل الذى كنته يعى مقدار التغيير الذى يحدث حوله، وظل معى، هو وحده الذى مهد لى أن أمارس رحلة الهروب فيما بعد، من إطار خانق إلى براح، كان بمثابة الحديقة الخلفية التى تأخذنى بحنان إلى بهاء وجمال وتفاصيل ما فيها.
لبست رداء الناسك الذى لجأ إلى دوحة تمده بما يعينه على البقاء، والتعلق بطيف السعادة المفقود، فكنت فى بعض الأحيان، أنا العائد، الذى يسير فى دروب وشوارع لا أحد يسكنها، مفردات تعيش لحظات هزيمة ووحدة، فخلقت الصورة داخلى جيشًا كنت قد رتبته فى صورة حكايات وقصص، وكل مفردة تناضل فى سياق فيضان جاء، وكلما منحنى الكثير من مخزونه، أعود لنفس الرحلة، وأجدنى فى نفس العالم المهزوم، الممتلئ بالندوب. وأنا أتحرك، ولد التحالف السحرى بين الحاضر بكل ما فيه، وبين ما كان بكل ما وضعه داخلى، فكنت أتحرك وأنا أدرك أننى أعيش لحظات حية فى متحف مفتوح.
■ ماذا عن تجربتك فى الكتابة للأطفال بالتعاون مع دار «الهلال»؟
- تجربتى مع روايات «الهلال» فتحت لى باب المعرفة، كنت كباحث دخل الحياة من باب جديد، هدفه الوحيد البحث عن جذوره، عن تاريخه، لذا فى تجربة كتابة القصص للطفل، اتبعت الطريقة نفسها فى الحكى، التى تدربت عليها وأنا طفل صغير. فى مجموعة «البحث عن السعادة» الصادرة عن دار «الهلال» أردت اكتشاف الطفل الذى كنته، فى وجود ابنتى الصغيرة، دخلت التجربة وأنا أقول مشجعًا شغفى: «لا تثق فى تجربة تنقلها لك الأفواه، فهى مؤقتة، ربما تجد فيها شيئًا يروق لك». هذا ما نسميه بـ«الدرس العابر»، أو كما يطلق عليه العامة «البركة». لكن ثق فى تجربتك وما ستستخلصه منها، درسك الخاص هو المعلم الأول لك، اجعله قيمة وتميمة لك، وكل هذا لن يكون إلا من خلال التأمل، خضعت وكانت تجربة خاصة جدًا، تحمل حياة فى زمن كان للحكاية مجدها.