الأحد 02 فبراير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

جلال برجس: لجأت إلى الكتابة لأكنس ما علق بى من حزن

حرف

- معرض القاهرة للكتاب من أهم المعارض الدولية التى أحرص على الوجود فيها

- شاب غجرى أوحى لى فكرة «معزوفة اليوم السابع» 

- أى فكرة روائية لها جذور فى أرض المشاهدات والتأملات بمختلف مستوياتها

- لا أكتب حين تداهمنى الفكرة.. وأتركها كرغيف يختمر قبل وضعه فى الفرن

وصلت إلى أرفف المكتبات العربية، قبل أيام، رواية «معزوفة اليوم السابع»، للروائى الأردنى جلال برجس، الفائز بجائزة «البوكر العربية» لعام 2021، عن رواية «دفاتر الورّاق».

الرواية، كما يقول صاحبها، امتداد لمشروعه الأدبى الذى يبحث فى الإنسان، رواية تحكى سيرة المصير الإنسانى، وكيف يمكن للآدمى أن يكون وحشًا وحمَلًا وديعًا فى نفس الوقت، من خلال قصة عن مدينة مكونة من 7 أحياء، جنوبها مخيم كبير لغجر مطرودين منها، وغربها جبل على قمته قبر جدها الأول، ويصاب سكانها بوباء غريب فتصبح على حافة الهاوية، قبل أن يأتيها الخلاص من جهة غير متوقعة. عن روايته الجديدة الصادرة عن دار «الشروق» المصرية، ولغته التى يستخدمها فى أعماله الروائية المختلفة، وتأثير الشعر عليه فى كتابة الرواية، يدور حوار «حرف» التالى مع الروائى الأردنى الكبير جلال برجس.

جلال برجس

■ بداية.. عمَّ تدور رواية «معزوفة اليوم السابع»؟

- «معزوفة اليوم السابع» هى الرواية التى أجلت كتابتها كثيرًا، وها قد جاء وقتها. رواية تحكى سيرة المصير الإنسانى، وكيف يمكن للآدمى أن يكون وحشًا وحملًا وديعًا فى الآن نفسه، فى مدينة مكونة من ٧ أحياء، جنوبها مخيم كبير لغجر مطرودين منها، وغربها جبل على قمته قبر جدها الأول، مدينة يصاب سكانها بوباء غريب فتصبح على حافة الهاوية، قبل أن يأتيها الخلاص من جهة غير متوقعة.

■ من أين أتت فكرة هذه الرواية؟

- أى فكرة روائية بطبيعة الحال لها جذور فى أرض المشاهدات والتأملات بمختلف مستوياتها، جذور ضاربة فى عمق الرأى والموقف اللذين يشكلهما الروائى تجاه ذاته وعلاقتها بما يحدث حوله. و«معزوفة اليوم السابع» أتت من تلك المنطقة التى باتت القيمة الإنسانية فيها مهددة بشكل لم يسبق له مثيل.

منذ سنوات طويلة وأنا أهجس بهذه الرواية، وتحديدًا حين أخذ الخوف يعترينى مما يحدث فى العالم من تحولات وتبدلات مرعبة. لكن شرارة هذه الفكرة أتت فى أحد الصباحات الربيعية من عام ٢٠١٢، وأنا أنتظر حافلة تقلنى إلى عملى، شاهدتُ شابًا غجريًا، يكنسُ الشارع على أنغام موسيقى تصدر عن هاتف نقال معلق فى خاصرته، يقفز بحركات رشيقة، والمكنسة بين يديه طيِّعة كأنها امرأة يراقصها، وفى لحظة تقمص متقنة تتحول إلى بندقية يصوبها نحو أعداء مفترضين.

اعتدت رؤية الغجرى، ونشأت بيننا صداقة صامتة لا يتخللها سوى تحيات خاطفة. وفى أحد صباحات الشتاء الباردة، لم أجد ذلك الشاب، لكنى سمعت أنينه وهو يتوارى وراء جدارٍ هربًا من البرد بثياب خفيفة مبتلَّة. قبل أن أغادر خلعتُ معطفى ودثرته به، دون أن أدرى أن هاتفى النقال وحاجياتى صارت بحوزته. عند المساء وجدته بانتظارى يضع معطفى على يده ليعيده لى: لست مجنونًا، وليس بالضرورة أن يكون الغجرى لصًّا كما يشاع.

فى تلك اللحظة وأنا أتأمل خيام الغجر وهى على طرف المدينة تقاوم الأمطار الغزيرة، ولدتْ فكرة هذه الرواية.

■ غلاف الرواية يتضمن كلًا من «ناى وطائر ومخطوطة قديمة».. ما دلالة كل منها؟

- إنها ٣ عناصر تتكئ عليها الرواية، فـ«المخطوطة» وثيقة بمستويات زمنية ثلاثة كتبها الجد الأول للمدينة التى تعيش فيها سلالته، و«الناى» له بُعد رمزى تكشف عنه مسارات الأحداث، أما «الطائر» فله بُعد يخصه. تلك العناصر أو الدلالات تشكل ثالوثًا يرتكز عليها مصير سكان مدينة الجد الأول. 

■ استخدمت الزمن فى الرواية لتأكيد أن الحكاية ممتدة وتطول وكأنها رواية أجيال.. لماذا؟

- هذا صحيح. لـ«معزوفة اليوم السابع» ٣ مستويات زمنية، زمن عتيق، وزمن آنٍ، وزمن لم يأتِ بعد. سعيت فى هذه الرواية، ليس فقط إلى استشراف ما يمكن أن يحدث اتكاءً على عناصر الحاضر فى سياق مدينة الجد الأول، بل إلى إثبات أن الحاضر إشارة أكيدة إلى المستقبل.

يمكن أن نرى الزمن باعتباره عنصر حياة، فى الإنسان والطبيعة كل شىء، إنه ممتد وليست فيه انقطاعات، محطاته غير منفصلة بل تتوافر على ترابط مذهل، بحيث يمكننا القول إن الحدث يعيد إنتاج ذاته فى مرحلة ما ولكن بأبعاد جديدة. من هنا كان لجد هذه المدينة أن يرى ما لم يحدث بعد، رآه حين فهم طبيعة الصراع الذى يحكم سلالته. 

■ فى لغتك تحاول أن تماثل العالم.. فكيف جاءت لغة «معزوفة اليوم السابع»؟

- أصعب لغات الرواية هى التى يمكننى تسميتها بـ«اللغة الشاملة»، لغة لها طبقاتها ومستوياتها ودرجات حرارتها، بحيث تصبح قادرة على التعبير الكلى عن بيئة الرواية. فى «معزوفة اليوم السابع» هناك لغة للغجر، وأخرى لأبناء المدينة، ولغة للجد الأول. إنها لغة تعى كل الفروقات التى وجد سكان المدينة على أنهم رهائن لها. التحدى الكبير فى هذه اللغة هو إذابتها فى بوتقة واحدة مع الحفاظ على تمايزاتها. 

أول كلمة كتبتها فى حياتى هى «الماء»، كنت أرى الأستاذ فى ثانى المراحل الابتدائية يتفنن بكتابة الكلمات على السبورة السوداء، فارتكبت أول وآخر سرقة فى حياتى، حين حملت معى لوح طبشور وكتبت بخط كبير جدًا على جدار بيتنا الأول المطلى باللون الأسود كلمة «الماء».

هل هو إحساس مبكر بالعطش، أم أمر آخر بحثت عنه فى الشعر، الذى أكسبنى تلك اللغة وجعلنى أمارسها فى سنواتى المبكرة، وأنا أراقب دخان الطوابين فى الصباحات الباكرة للقرية، وكيف يصعد كمارد إلى السماء، وأحدق بالعصافير وهى تحلق عاليًا، وأقف أمام أول جثة لامرأة دُفنت من دون أن أفهم شيئًا؟ لا أدرى من أين أتت اللغة، من القرية وعوالمها البكر؟ من الشعر؟ أم من مكان قصى فى روحى لا أدرى سره إلى الآن.

■ من «دفاتر الوراق» وحتى «نشيج الدودوك» تبحث فى الإنسان.. هل تنتمى «معزوفة اليوم السابع» إلى المشروع نفسه؟

- كل رواياتى تسعى إلى المشروع ذاته: الإنسان مقابل الإنسان، هذا الصراع الذى لن ينتهى بطبيعة الحال، ولن ينتهى سؤالنا حياله. حينما أكتب فإنى أسعى لفهم هذه المعادلة الإشكالية. صحيح أنى أحلم بالحل، لكنى أعى أنى لن أجده. أما ما يجعلنى ماضيًا فى هذه الطريق هو تنامى الأسئلة حيال مصيرنا الإنسانى، خاصة فى هذه المرحلة الأكثر تعقيدًا وقسوة. 

■ كم أمضيت من وقت فى كتابة الرواية؟ وكيف تخطط للكتابة الروائية عمومًا؟ 

- تأتى فكرة العمل الروائى فجأة، اتكاء على هاجس تشكله ثقافة الروائى ومشاهداته اليومية ورؤيته للعالم. حين تداهمنى الفكرة بكل سطوتها، لا أعهد لكتابتها مباشرة، بل أتركها تختمر فى فضاء البال، بحيث تأخذ شخوص العمل الروائى المفترض بمرافقتى دون انقطاع، فأراها بكل ملامحها ووعيها وانتماءاتها وأمزجتها، وأرى أمكنة الرواية وزمانها وطقسها، وأنصت لبعض أحاديثها.

ما يحدث لى يشبه ما يحدث لمهندس معمارى يقف فى قطعة أرض بور، ويأخذ بالدوران حول نفسه، مطلًا عبر عين المخيلة على بناء سيكون فى هذه الأرض الخالية، إن استطاع رؤيته، فقد نجح فى بنائه، وإن لم يستطع فقد أقلع عن الفكرة.

أما عن لحظة الكتابة فهى تأتى أيضًا مُباغتة، كأن المخيلة تخبرنى بأن رغيف الحكاية قد آن أوانه ليعبر إلى الفرن، حينها أجيب عن عدد من الأسئلة: هل هنالك من شىء جديد فيما ستكتبه؟ بأى لغة ستكتب روايتك؟ ما الجديد فى أسلوبك وبنائك للرواية؟ هل تقوى على ألا تكون الفكرة أكبر من بيت الرواية فيحدث الخلل؟ هل تقوى على إحداث التوازن بين لغة الرواية كونك قادمًا من الشعر، وبين لغة الحكاية؟ هل تستطيع أن تقصى شخصيات أعمالك السابقة ولا تجعلها تتسلل إلى عملك الجديد؟

■ فى كل أعمالك الروائية ثمة أبعاد تصلح للتقديم السينمائى.. متى تنظر السينما لهذه الأعمال؟

- أرجو أن تلتفت السينما إلى الرواية بشكل عام، وإذا ما فعلت ذلك سيجنى المشاهد نصًا سينمائيًا فى غاية الجودة، وفيه الكثير من المعرفة التى لا تُقدَّم بقالب جامد. أعتقد أن الكرة فى مرمى صُناع الدراما هذه الأيام، عليهم أن يلتفتوا إلى العديد من الروايات القابلة لتكون أعمالًا درامية، لكن من غير أن تهشم الرواية وفكرتها.

لقد تراجعت السينما العربية مؤخرًا، وباتت تنحاز إلى الزاوية التجارية، ومن هنا قرع ناقوس الخطر، حيث إن فن السينما فن قادر على تشكيل الوعى الإنسانى. وبما أن الرواية باتت فضاءً لكل أشكال الأدب والفن، واستعارت كثيرًا من تقنيات السينما، فإنها فى هذه المرحلة قابلة للاشتغال عليها دراميًا.

■ فى معظم أعمالك تمزج بين الواقع والخيال.. هل تنتقى شخصياتك من الواقع؟ 

- لا أميل فى الرواية إلى نقل الواقع كما هو، بل أنزع دومًا للذهاب إلى هذا الواقع بأدوات الخيال، خروجًا عليه. فى «معزوفة اليوم السابع» شخصيات مبتكرة، لكن إلى أى مدى يمكن لهذه الشخصيات أن تتقاطع مع شخصيات على أرض الواقع؟ حتى لو ابتكرنا شخصيات خيالية، تبقى هذه الشخصيات تفى حدود الواقع. أؤمن بأن حتى الخيال الذى نكتبه هو واقع بحد ذاته. 

■ أنت ضيف فى معرض الكتاب المقبل.. كيف ترى المعرض؟

- معرض القاهرة الدولى للكتاب من أهم المعارض الدولية التى أحرص على الوجود فيها، لأنه مهرجان ثقافى عالمى نلتقى فيه بالكِتاب والكُتَّاب، وحضوره إضافة ثقافية كبيرة لى.

■ «معزوفة اليوم السابع» أول رواية لك تنشر مصرية بالكامل، بعد «طبعة مصرية» من «نشيج الدودوك».. ما الفارق بين التجربتين؟

تجربتى فى «الطبعة المصرية» من «نشيج الدودوك» عن دار «الشروق» ناجحة، و«معزوفة اليوم السابع» امتداد لهذه التجربة، فللقارئ المصرى عندى كثير من المحبة والتقدير، فهو قارئ ذكى، والقراءة عنده أمر أساسى

أما «الشروق» فهى دار نشر معاييرها عالمية، وتحترم الكاتب، والكتابة، ومنذ أن انطلقت وهى تمضى فى هذه الدرب