الأربعاء 15 يناير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

محروس بريك: أغلب رسائل الماجستير والدكتوراه قائمة على الاستنساخ

محروس بريك
محروس بريك

 -دخلت إلى عالم النقد بروح الشاعرولم أدخل إلى الشعر بعقلية الناقد

 -الشعر أعاننى على مشقة العلم وعلمنى كيف أنتقى الألفاظ والتراكيب

 -التحدى الحقيقى كان ألا تتغلب شاعريتى على المنهجية والانضباط العلمى

لأنه عالم، تدفعه شهوة العلم لخوض كل طريق جديد فى عالم المعرفة، ولأنه شاعر أيضًا، يصبغ على أبحاثه وكتاباته العلمية صبغة شعرية تخفف من جفاف الأكاديمية، وتلين من مصطلحاتها وتراكيبها اللغوية الرصينة.

إنه الدكتور محروس بريك، الأستاذ فى كلية دار العلوم بجامعة القاهرة، والذى يحتفل بإصدار كتابه الجديد «فى اللسانيات وبلاغة النص.. رؤى نظرية وآفاق تطبيقية»، ليُكمل به مشروعه الذى بدأه قبل أعوام كثيرة، وتضمن العديد من الكتب مثل «النحو والإبداع» و«المجاز» و«نظم القرآن».

ويرى «بريك» الذى كُرم منذ فترة قريبة فى المغرب، فى مهرجان حمل اسمه، أن النحو إبداع أيضًا، مثله مثل غيره من فنون الآداب، كما يرى أنه دخل إلى عالم النقد بروح الشاعر، ولم يدخل إلى الشعر بعقلية الناقد، لأنه يعتقد أن الشاعرية لديه أسبق من الانشغال باللسانيات والنقد.

عن هذه الأفكار المهمة، وكتابه الجديد وما اشتمل عليه من رؤى، أجرت «حرف» الحوار التالى مع الدكتور محروس بريك.

■ فى كتابك الجديد «فى اللسانيات وبلاغة النص».. تحاول استخلاص أطر نظرية لا تعتمد على الاستعانة بالنظريات الغربية.. لماذا لا نمتلك نظرية نقدية عربية؟ 

- أعتقد أن الأزمة أزمة الأمة العربية لا أزمة النقد فحسب، وهى أزمة حضارية، فنحن الآن أمة استهلاكية لا تُسهم فى إنتاج العلوم والمعارف إلا بقدَر معلوم، لذلك ننتظر دائمًا حتى يضع الناقد الغربى مبادئ جديدة فنتلقفها كما هى دون زيادة ولا نقصان، ودون أن نُخضعها للتفكّر والنقد والانتقاء.

انظر إلى رسائل الماجستير والدكتوراه، تجد أن أغلبها يقوم على الاستنساخ والتكرار دون إضافة لجديد مفيد. إذا ما طالعت الأطروحات التى تتناول «نحو النص» ستجد أنها تحتوى جميعها على فصل نظرىّ مكرر يتحدث عن معايير النصية السبعة وكأنها معايير مقدسة، ولن تجد أحدًا يتفكر فى إمكانية أن تغيب بعض هذه المعايير فى أنماط معينة من النصوص، فتصير معايير النصيّة فى ذلك النص ستة فقط، بعد أن غاب «التناص» مثلًا. لكننا للأسف لا نتفكر فى المنقول عن الناقد الغربى، فنظل ندور فى حلقة مفرغة وكأننا نعيد اختراع العجَلة من جديد.

■ هل يمكن اعتبار «فى اللسانيات وبلاغة النص» امتدادًا لما أصدرته قبل سابق مثل «النحو والإبداع»؟

- نعم، هذا الكتاب امتداد لما بدأته من قبل فى مؤلفات سابقة مثل «النحو والإبداع» و«المجاز» و«نظم القرآن»، وهذا كله حلقة فى اتجاه علمى ينتمى إليه الدكاترة سعد مصلوح ومحمد حماسة ومحمد عبدالمطلب وغيرهم. هو اتجاه يقوم على توظيف معطيات الدرس اللغوى والبلاغى والنقدى القديم فى تأويل النص، مستفيدًا بما قدمته اللسانيات المعاصرة من مبادئ ومقولات فى هذا الإطار.

لكن الجديد الذى أسعى إليه فى هذا الكتاب هو التطرق إلى قضايا لسانية وبلاغية لم تلق العناية الكافية، فعلى سبيل المثال تناولتُ فى قضايا الإيقاع الشعرى من خلال «التأصيل والتأويل» بردّ التغييرات غير المألوفة فى قوافى الشعر المعاصر إلى أصولها العروضية والقافوية فى الشعر العربى القديم، والتطرق للآثار الدلالية والإيقاعية لتوظيف تلك التغييرات، وأثرها فى استحداث صور إيقاعية جديدة فى الشعر يمكن استغلالها فى عملية الإبداع بتوسيع دائرة المتاح من البدائل العروضية أمام الشاعر المعاصر، فضلًا عن إيجاد تأصيل علمى مقبول لبعض التغييرات المستحدثة فى تفعيلات آخر السطر الشعرى، فى شعر التفعيلة والشعر المسرحى وشعر الأطفال. 

كذلك وضعتُ إطارًا نظريًا للتأويل التداولى فى كتاب «سيبويه» يصلح أن يكون مُنطلقًا لمزيد من الدراسات فى هذا الاتجاه مستقبلًا، وتطرقت إلى التأويل النحوى الدلالى لعتبات النص الشعرى، إلى غير ذلك من قضايا لسانية وبلاغية.

خلاصة القول إن هذا الكتاب يقوم على إعمال الفكر فى المعرفة اللسانية الوافدة، وتقديم نقد لهذه المعرفة، ومن ثم بناء معرفة جديدة تأخذ من الدرس اللغوى الحديث بطرَف، دون أن تتنكر للتراث أو تدّعى له ما ليس فيه فتُلبسه قُبّعة تشومسكى بدلًا من عمامة سيبويه.

■ لك كتاب بعنوان «النحو والإبداع»، كيف يكون النحو إبداعًا؟ وكيف استطعت الجمع بين المتعة العقلية والتذوقية فى مشروعك النقدى؟

- معلوم أن للنحو العربى مستويين، أحدهما تعليمى يُعنى باستقامة اللسان ورصد الصواب والخطأ، وعلمىّ يُعنى بتأويل النص و«بيان الفروق بين الوجوه»، على حد تعبير عبدالقاهر الجرجانى. والزركشى ينقل عن بعض شيوخه القول: «النحو علم نضِج وما احترق»، والدكتور مصطفى ناصف- رحمه الله- يقول: «النحو ليس موضوعًا يحفل به المشتغلون بالمثل اللغوية، والذين يرون إقامة الحدود بين الصواب والخطأ، أو يرون الصواب واحدًا. النحو مشغلة الفنانين والشعراء، والشعراء أو الفنانون هم الذين يفهمون النحو، أو هم الذين يبدعون النحو؛ فالنحو إبداع».

والجمع بين رصانة العلم ومتعة التذوق أعاننى فيه أننى شاعر أُعانى الشعر، وأعلم كيف يُبدع الشاعر قصيدته، وكيف ينتقى الألفاظ والتراكيب والأساليب، وكيف يبنى الصور ويسبك الجمل ويعبر عن المشاعر، وكيف ينسلخ عن التقليد كما تنسلخ الفراشة عن اليرقة، فيحلّق فى عالمه الشعرى، ويصبح له معجمه الخاص ومعانيه وأسلوبه الشعرى الذى يُعرف به بين القرّاء. 

كل أولئك جعلنى ألِجُ إلى النص الشعرى بعقلية الباحث وقلب المبدع، فلا أغلّب أحد الطرفين على الآخر، بل هو ما عبّر عنه الدكتور سعد مصلوح بـ«عَقْلَنة التذوق»، وهذا يعنى الاتكاء على أسس علمية تنأى بعملنا بعيدًا عن النسبية وتحكيم الذوق، لكنها فى الوقت نفسه تحقق للقارئ المتعة النفسية والروحية، لأنها تقوم على سبْر أغوار النص بعين المبدع والناقد معًا لا بعين الناقد فحسب.

■ تناولت أشعار أمل دنقل وتحديدًا دراسة العتبات اللغوية فى علاقتها بالنص.. كيف ذلك؟ 

- انشغل دارسو النحو فى جامعاتنا العربية بالنص، وغفلوا عن دراسة أبنية العتبات النصية، وبيان علاقتها بنصوصها على المستوى التركيبى والدلالى والتداولى، لذا خصصت فصلًا من كتابى الأخير عن التأويل النحوى الدلالى لعتبات النص الشعرى، مع التطبيق على الأعمال الشعرية الكاملة لأمل دنقل. غرض هذا الفصل هو تأويل العتبات من خلال قراءة عكسية تنطلق من النص وتنتهى بالعنوان، واقتصرت على دراسة عتبتى العنوان والديباجات الشعرية، فهما ما يحتاج إلى ذلك التأويل لاتسامهما بسمات الشعرية، وليس كذلك بقية العتبات؛ إذ إن الإهداءات والتصديرات النثرية والحواشى عتبات «فوق- نصيَّة» أتى بها أمل دنقل لتمثّل إشارات تفسيرية توجّه النص وتساعد فى تأويله، بل تساعد كذلك فى تأويل العتبتين الأخريين.

■ ما سر تلك الرقة والشاعرية فى قصائدك؟ وكيف استطعت كسر ما استقر فى الوعى الجمعى أن شعر العلماء يتسم بالجفاف وأقرب إلى النظم منه إلى الشعر؟

- الواقع أننى دخلت إلى عالم النقد بروح الشاعر، ولم أدخل إلى الشعر بعقلية الناقد، فالشاعرية عندى أسبق من الانشغال باللسانيات والنقد، وكان التحدى الحقيقى هو ألا تتغلب لدىّ الشاعرية على المنهجية والانضباط العلمى فى أثناء الكتابة العلمية. 

أما غلبة النظم وانطفاء روح الشاعرية فى شعر أكثر العلماء، فهذا مرَدُّه إلى أنهم قد انشغلوا بالعلم زمنًا فخمَلَ لديهم ذلك الجانب المسئول عن الشّقِّ الإبداعى فى المخ، فلمَّا وَلَجوا عالم الشعر- ولم يكونوا من قبل أصحاب قريحة إبداعية- ألْفَوا أنفسهم يفكرون فى الشعر بعقولهم لا بأفئدتهم ومشاعرهم وخيالاتهم، فجاء شعرهم باهتًا مُنطفئَ العاطفة.

ولا أخفيك سرًّا أننى عندما عُيّنتُ مُعيدًا بكلية دار العلوم جامعة القاهرة عام ١٩٩٩ كنت أرغب فى الالتحاق بقسم البلاغة والنقد الأدبى؛ لِـمَا وجدته فى نفسى من انشغال بالشعر، لكنّ التحوّل إلى قسم النحو والصرف والعَروض كان تحوّلًا عن قناعة وحب، على الرغم مما يشيع عن النحو من جفاف وصعوبة ومعيارية.

وكان اطلاعى على مؤلفات الدكتور محمد حماسة سببًا فى الالتحاق بذلك القسم الذى ينتمى إليه، لقد وجدت فى مؤلفاته انشغالًا متواصلًا بالشعر، وفيها جميعًا ما لدى البلاغيين واللسانيين معًا، فآثرت أن أنجز رسالتَى الماجستير والدكتوراه بإشرافه، وكلتا الرسالتين كانتا تتخذان من النص الشعرى مُنطلَقًا.

ثم تأكد لى صحة هذا التوجّه بعدما اتصلتْ أسبابى بالدكتور سعد مصلوح، وهو شاعر كبير وناقد ولسانى معروف، وشاءت الأقدار، وعلى غير ترتيب مسبق، أن يكون حفل توقيع ديوان «خطوات على الأعراف» للدكتور سعد مصلوح، وحفل توقيع ديوانى الأول «قبل الشتات»، حفلًا واحدًا وحدثًا ثقافيًا كبيرًا حضره عدد كبير من النقاد والعلماء والشعراء، فما أعجبَ تصاريف الأقدار!

■ كُرمت فى المملكة المغربية بإطلاق اسمك على المهرجان الدولى السادس للشعر «دورة الشاعر المصرى محروس بريك»، بحضور ٥٥ شاعرًا وناقدًا ناطقين بـ١٠ لغات، ما تفاصيل هذا التكريم؟

- استقبلت هذا الخبر بسعادة غامرة وشىء من الدهشة. أما السعادة فهى أن التكريم لم يكن بمنحى جائزة أو درعًا أو شيئًا من هذا القبيل، بل بإطلاق اسمى على المهرجان نفسه تقديرًا لتجربتى الشعرية، وهذا منتهى درجات التكريم. وكانت دهشتى أنهم قد اختارونى دون سعى منى لذلك، بل دون توقع أيضًا منى لمثل هذا التكريم.

وكانت السعادة الأكبر والدهشة أيضًا عندما طالعت أسماء المشاركين فى المؤتمر واللغات الناطقين بها، وكيف استطاع المنظمون التواصل مع كل هؤلاء الشعراء والنقاد من كوريا والهند وتايلاند وإيطاليا والولايات المتحدة وفرنسا، وغيرها من البلاد الأجنبية، فضلًا عن الأقطار العربية، وكيف وفّروا بعض المترجمين لترجمة المداخلات.

الأهم من هذا كله أن المؤسسات العلمية والثقافية فى المملكة المغربية لديها تقليد راسخ فى مؤتمراتهم العلمية ومهرجاناتهم الإبداعية، يتمثل هذا التقليد فى إطلاق أسماء العلماء على مؤتمراتهم، وإهداء البحوث إليهم، وإطلاق أسماء الشعراء والمفكرين على مهرجاناتهم الأدبية كذلك، وهو تقليد غربى معروف أيضًا.

شاركت فى عدة مؤتمرات ومهرجانات فى المملكة المغربية، وعاينتُ ذلك بنفسى، وكانت البحوث الملقاة فى تلك المؤتمرات تتسم بالجدة والعلمية، ولم تكن مجرد احتفاء ومدح، بل إن كثيرًا من تلك البحوث طُبعَت فى كتب جماعية فى دور نشر مرموقة، وبعض تلك البحوث تناولت قضايا علمية راهنة لها أثر كبير فى مسيرة البحث العلمى، كما حدث فى مؤتمر عقدته جامعة «القاضى عياض» حول دو سوسير بعد مائة عام من الغياب، وكانت البحوث مهداة للعالم المغربى الدكتور محمد البُكرى. 

يحزننى حقًا أننا فى المشرق العربى لا نكرّم علماءنا وشعراءنا ومفكرينا إلا بعد رحيلهم عن الحياة! بل إن بعض مؤسساتنا الأكاديمية ترفض تسجيل أطروحات ماجستير ودكتوراه حول جهود علماء كبار بحجة أنهم ما زالوا على قيد الحياة، وقد كنتُ شاهدًا على كثير من تلك الوقائع، ولستُ أدرى ما دوافع مثل تلك الأفكار الرافضة لتكريم العلماء والمبدعين فى حياتهم، هل هو حسد الأقران أم أن زامر الحى لا يُطرب كما يقال؟!

لست أدرى لماذا تصرّ كثير من مؤسساتنا على إقصاء المفكرين والمبدعين، والتشبث بـ«الشللية»، فى وقت لم يعُد يتسع لتلك الأفكار الإقصائية البالية، فى ظل انتشار وسائل التواصل الاجتماعى وقنوات النشر الإلكترونى، التى أتاحت الفرصة لصوت الجماهير، وعصفت بالمركزية وصوت المفكر الفرد.

■ إذن فالأفكار الواردة تقوم على تراكم معرفى وليست وليدة زمن محدد؟

- هى أفكار تقوم على تراكم المعرفة، وتنتمى إلى مشروع علمى متكامل. وكثير من تلك الأفكار كانت تشغلنى منذ ربع قرن، عندما شرعت فى تأليف كتابى «النحو والإبداع». ولك أن تعلم أننى أنجزت فصول كتاب «فى اللسانيات وبلاغة النص» على مدار اثنى عشر عامًا، ولم يكن هو الكتاب الوحيد الذى انشغلت به فى تلك الفترة بالطبع، فقد أنجزت فصول كتابى «نظم القرآن»، ولعل انتماء الكتابين إلى مشروع علمى واحد هو الذى جعلنى أستطيع الانشغال بتأليف كتابين فى وقت واحد دون أن أشعر بأى اضطراب.