الأحد 02 فبراير 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

فتاة وبحيرتان.. أمانى القصاص: لا أحاكم الأهل فكلنا «ضحايا لضحايا»

حرف

- هدف الرواية هو أن ننظر إلى داخلنا إذا ما أردنا فهم حقيقة الحياة

- ينبغى قبول تقصير الأهل كما نرغب فى مغفرة تقصيرنا تجاه الأبناء

- «الناس ضحايا لظروفهم» فكرة غير عادلة وغير واقعية

- الزواج علاقة محورية فى حياة أى امرأة.. قد تسندها أو تقضى عليها

- تسامحنا مع الماضى هو طوق النجاة الذى يمنحنا السلام الآن

تصدر أمانى القصاص روايتها الأولى «فتاة وبحيرتان»، عن دار «ريشة» للنشر والتوزيع، خلال فعاليات معرض القاهرة الدولى للكتاب، الذى ينطلق أواخر يناير الجارى، وفيها تتبع سيرة حياة فتاة بين مجتمعين، وحالة التصادم التى تنشأ ما بين ثقافة وأخرى.

وتنبش الرواية الجديدة فى أعماق الماضى، مع تأكيد حقيقة إنسانية فى غاية الأهمية، وهى ضرورة أن نتصالح مع ماضينا، ومن خلال هذا التصالح يمكن أن نحصل على السلام النفسى المطلوب لعيش الحياة التى نبغى.

عن رواية «فتاة وبحيرتان» يدور حوار «حرف» التالى مع الروائية أمانى القصاص.

■ ما الفكرة الأساسية التى تدور حولها روايتك الأولى «فتاة وبحيرتان»؟

- رواية «فتاة وبحيرتان» هى رحلة فتاة مصرية لاكتشاف نفسها، بعدما انتقلت من نشأة حياة فى قرية مصرية على البحر المتوسط بشمال الدلتا، إلى الدراسة فى الإسكندرية، ثم استكمال هذه الدراسة والعمل فى سويسرا، حيث رافقها شعور الغربة لكنها تمسكت بطوق نجاة يتمثل فى إدراك حقيقة نفسها، وحكمة وجودها فى هذه الحياة.

عثور الفتاة التى تدعى «نداء» على طوق النجاة هذا لم يكن بالشىء البسيط أو السهل، بل استغرق الكثير من الجهد النفسى والاجتماعى والروحانى، حتى نجحت فى أن تخطو خطوات بسيطة للتغيير وإدراك حقيقى لنفسها، بعدما تمكنت من النظر إلى داخلها قبل الخارج، ومن ثم الوصول إلى بر من الاستقرار والسلام النفسى، الذى افتقدته كثيرًا نتيجة ظروف متباينة.

وهذه الفتاة تعرضت لتلك الظروف فى مرحلتى الطفولة والشباب، مع أفكار خاطئة تبنتها داخلها وتصرفت على أساسها، ونتج عن كل هذا شكل حياة عاشتها تعيسة غير متحققة ولا راضية، لكنها لم تستسلم وسعت للتغيير، وعملت كل ما فى وسعها للحصول على ما تريد، وهو ما تحقق لها مع نهاية فصول الرواية.

■ كيف عبرتِ عن هذه الرحلة لاكتشاف الذات من قِبل فتاة مصرية عادية؟

- «نداء» فتاة مصرية عاشت طفولتها فى إحدى قرى الدلتا الواقعة على إحدى البحيرات المتصلة بالبحر المتوسط فى أقصى شمال مصر، أكملت دراستها فى محافظة الإسكندرية، وكانت متفوقة دراسيًا، ومن ثم انتقلت لاستكمال دراستها العليا والعمل فى جنيف بسويسرا، لتعيش شبابها وسط أجمل بلاد العالم، وأكثرها رقيًا وتحضرًا وفخامة.

ورغم كل هذا، عاشت «نداء» تعيسة وحيدة، ولم تدرك جمال ولا متعة الحياة سوى بلقائها «حسين»، فارس أحلامها الذى رأت حياتها معه حلمًا سيحكى الجميع عن روعته وجماله، رغم التعقيدات الظاهرة فى علاقتهما، خاصة الفارق الكبير فى السن والثقافة. ومع حبها له وشعورها بالطمأنينة معه أبحرت مطمئنة معه، رغم كل ما رأته من خروق فى سفينتهما، قبل أن يصدمها التغير الكبير فى سلوكه، الذى أفقدها شعور الأمان معه منذ اليوم الأول لزواجهما، فاعتبرت أن هذه نقطة تحول لحياتها كلها، وليس فقط لعلاقتها به.

عاشت «نداء» صراعًا كبيرًا بين أمانها الزائف، وأملها فى الإصلاح وخذلان نفسها، التى عاقبتها بالدخول فى اكتئاب شديد، حاولت الإفلات من براثنه بالتجاهل، أو بالانغماس فى الطعام العاطفى، أو اللجوء إلى طبيبة نفسية تساعدها فى الغفران والتجاوز بشكل حقيقى، يمكن معه استكمال حياتها مع الحبيب المفتقد، أو غلق هذا الباب بآلامه نهائيًا، رغم ما وجدته من سعادة به.

بالفعل، تذهب «نداء» إلى الطبيبة، وتحكى لها عن خيبة أملها بالزواج، ومعاناتها مع الطعام العاطفى والقلق والاكتئاب ونوبات الهلع، وعدم رغبتها فى الحياة لدرجة انسحابها من كل شىء، وإهمال شكلها وصحتها وعملها، لكن المفاجأة أن الطبيبة تترك كل هذا وتسألها عن طفولتها، كيف عاشتها، وسلوك من حولها آنذاك، وعلاقتها بوالديها.. إلخ.

■ ماذا حدث بعد ذلك؟

- تحكى «نداء» عن كل هذا بالفعل، لكنها تغضب من كم الذكريات التى ترى نفسها سجينة فيها، لذا تواجه طبيبتها بغضب وتقول لها: أتيتُ إليكِ لأجد حلًا لمصيبة زواج رأيته حلمًا فتحول إلى كابوس، فتحكى لى عن ذكريات الطفولة، لكن الطبيبة أجابتها بإجابة فاصلة غيرت رؤيتها لكل شىء فى حياتها، بما فى ذلك ما حدث لها مع زوجها.

قالت الطبيبة لها بثقة: «الزواج التعيس لا يدمر الحياة، لكن السبب الداخلى الذى دفعنا لجذب الزوج غير المناسب هو ما يجب أن نبحث عنه ونعمل على إصلاحه»، لذا، توقفت «نداء» عند كل صدمة مرت بها فى طفولتها أو شبابها، كل موقف لم يمر على روحها، كل أزمة سارت الحياة ظاهريًا معها، لكنها سجنت شيئًا مهمًا داخل نفسها.

طلبت منها الطبيبة أن تكتب كوابيس نومها ويقظتها، بعدما اختلط عليها الأمر، هل سجون كوابيسها تحاصرها فى وعيها أم فى نومها فقط، فتكتب «نداء» خطابات لكل من تسبب لها فى ألم، لكل من أرادت سؤاله أو حسابه أو عتابه، بمن فيهم قدرها وآلامها، وأبوها الراحل وأمها القاسية، ونفسها التى أغرقتها فى عذابات لا متناهية.

هنا تأخذنا الرواية فى رحلة تعاف يختلط فيها الواقع اليومى لـ«نداء» بذكرياتها، وبسلوكها تجاه نفسها وتجاه من حولها، مستعرضة: كيف يتبدل كل هذا أثناء العلاج والوعى وقبول نفسها، حتى تصبح فى النهاية الشخصية التى تعيش عليها اليوم، وتتعلم من خلال كل تجربة ما ينقصها لتكون أفضل، وتحيا بوعى ونور ومحبة لنفسها أولًا ثم لله، ثم لكل قدر أو مكان أو علاقة فى حياتها.

■ تبدأ الرواية فى إحدى القرى الساحلية، وتطلب هذا سرد الكثير عن حياة الصيادين، عبر تفاصيل دقيقة تحتاج إلى تجربة وتعايش.. هل سبق أن عشتِ هذه التجربة؟

- نعم، عشت جزءًا من هذا فى طفولتى المبكرة بقرية أسرتى الساحلية الهادئة، لكننى لم اقترب من حياة الصيد وناسه سوى بالقدر الذى كتبته فى الرواية، فتاة ترى حياة أخرى من خلف النافذة المغلقة عليها، مع شعورها بالحسد تجاه السيدات الأبسط حالًا، لحريتهن فى الحركة ليل نهار، وحياتهن الأقل قيودًا، رغم أنهن يحسدونها هى وأسرتها لكونهم أكثر راحة وكرامة خلف بيوتهم المغلقة الكريمة التى يعيشون بها ويخدمهم الجميع.

كل المشاهدات التى سردتها كانت عن تفاصيل المكان وليس حياة الناس، فلم أقدم رواية عن الصيد وأهله، بل عرضت شكل حياة اجتماعية عاشتها معظم الأسر المصرية فى القرى والمدن، خاصة لو أسرة عدد أفرادها كبير، بالتالى تحيا حياة مزدحمة لها سمات خاصة، فى مقدمتها القيود الكبيرة على السيدات والفتيات، والحرص على تعليمهن أصول وتقاليد عائلية ومنزلية معينة، إلى جانب تأدية جميع أعمال المنزل، وتخزين الطعام بطريقة معينة ليكفيهم طوال الوقت.

فى مثل هذه الأسر الكبيرة لم يكن مسموحًا شراء أو حتى إعداد الأطعمة خارج المنزل، فكان هذا عيبًا كبيرًا، وأدى إلى تحويل منزل هذه الأسرة إلى ما يشبه «مصنعًا صغيرًا» لإعداد الخبز يوميًا، وحفظ الفواكه الخاصة بكل موسم على شكل مربى وغيره، والجبن المحفوظ والمخللات والأسماك المملحة وغيرها، وهو شكل حياة جعل الفتاة الصغيرة تتساءل: كيف أقضى حياتى هكذا، فى حين أن أمامى فرص للتعلم والعمل والانشغال بشىء آخر يختلف عن حياة معظم السيدات اللاتى رأتهن فى طفولتها؟

ما حرصت عليه فى كتابتى هو الملامح البصرية لهذه الحياة، التى نطلق عليها اليوم «نوستالجيا»، فنجد مثلًا مشاهد يظهر فيها التليفون الأرضى أو التليفزيون القديم، أو طلمبة المياه، أو فرن مصنوع من الطين، وغرفة الخبز بمحتوياتها، وغرفة الخزين، وحوش البيت الذى تربى فيه الأسرة الطيور، وعادة ما تجلس فيه السيدات أوسطح المنزل، وغيرها من المشاهد الأخرى.

■ تقول الرواية: «مهما نسينا الماضى لا ينسانا».. هل ترين فعلًا أننا لا يمكننا التخلص من الماضى؟ وهل يمكن اعتبار الطفولة هى المؤثر الأكبر فى حياة الإنسان؟

- وعينا بالماضى وقبوله وتسامحنا معه هو طوق النجاة الذى يمنحنا السلام فى اللحظة الحالية، ويصيغ حاضرنا ومستقبلنا، وأقصد بالتسامح هنا قبول الماضى أيًا ما كان، على اعتباره قدر لم يكن من الممكن تغييره، وهذا القدر حتى لو كان صعبًا أو قاسيًا أو حزينًا، فهناك حكمة أو سبب وراءه، ويرسم للشخص طريقه الخاص فى الحياة.

من عاش مع أب قاس قد يصبح أبًا وزوجًا حنونًا وواعيًا، ومن فقد أباه صغيرًا، من المؤكد أنه تألم وعاش الفقد والحرمان، لكنه سيتعلم أن الله هو سنده الحقيقى فى دنياه، وقد يكون هذا أفضل له. بالتالى، تترك الطفولة علامات فارقة فى حياة كل إنسان حتى يموت، لكنه أيضًا قد يختار التوقف عند موقف بعينه، أو نمط معين يتكرر فى حياته، لفهم العقدة وراء ذلك، ولماذا يعيش أسيرًا لهذا الموقف و النمط، وقتها فقط يستطيع كتابة رواية جديدة لحياته بإرادة حقيقية منه، لأن هذا ليس سهلًا بالتأكيد.

■ لماذا جعلتِ «نداء» تتصالح مع كل من كانوا سببًا فى آلامها وهزيمة نفسها، رغم أنها شخصية متمردة؟

- عندما سعت «نداء» لشفاء نفسها، وذهبت للعديد من الأطباء، منهم الجيد ومنهم غير ذلك، وقرأت كتبًا وشاهدت محاضرات كثيرة وفهمت أكثر، وجدت أنها يجب أن تتحمل مسئولية معظم ما مر فى حياتها، وليس فقط إلقاء اللوم على «شماعات» الظروف أو الناس.

قد نكون تعرضنا إلى ظلم أو إساءة مِن أقرب الناس إلينا، هذا يحدث بالطبع، لكن كيف استقبلنا هذا الظلم، وكيف تعاملنا معه، هنا رد الفعل شريك أساسى فى تشكيل واقعنا، فقد يتعرض شقيقان لنفس المعاملة القاسية من الأب أو الأم مثلًا، ونجد أن أحدهما أصبح متمردًا وشرسًا، والآخر جبان للغاية ويخشى المواجهة، ولذلك تبنى فكرة أن «الناس ضحايا لظروفهم» هى فكرة غير عادلة وغير واقعية.

«نداء» تحملت مسئوليتها فى تقبل ما حدث معها، وأنه كان قدرًا مرسومًا لها، وضرورة التعامل معه حسب خبرتها وقدرتها ووعيها القديم. كما تحملت مسئوليتها فى السعى لشفاء نفسها من كل الندوب. هنا تظهر الصورة الكاملة، والحاجة للتسامح وقبول ما حدث لها، من نفسها وقدرها أولًا، ثم من الناس، وبالتالى تقل المعاناة وتأخذ حجمًا أقل بكثير فى داخلها.

■ هل تدقين ناقوس خطر بشأن معاملة الأسر لبناتهم؟

- لا أدق ناقوس خطر، وهدف الرواية الحقيقى هو أن ننظر إلى داخلنا إذا ما أردنا فهم حياتنا وسلوكنا وحقيقة ما نعيشه. الأهل الذين تحدثت عنهم كانت لهم ظروف خاصة تتعلق بزمنهم ووعيهم وتعليمهم، لذا من الخطأ تعميم هذه الحالة، وعلى العكس، هناك أهل أسوأ بكثير من حالة «نداء»، نقابلهم ونسمع عنهم.

أنا مؤمنة بمقولة الكاتبة والمعلمة الأمريكية لويز هاى: «نحن ضحايا لضحايا»، وإذا نظرنا بشكل محايد نجد أن أى أهل، وتحديدًا الأب والأم، بشر عاديون، لديهم أفكارهم ووعيهم وظروف حياتهم وتحدياتهم النفسية والاجتماعية، قد يصيبون وقد يخطئون، وإذا لم نقبل تقصيرهم أو أخطاءهم، يجب علينا ألا نطالب أبناءنا بأن يغفروا لنا تقصيرنا وأخطاءنا فى حقهم. هى دائرة من القبول، نقدمها لغيرنا ونطالب غيرنا بتقديمها لنا أيضًا، لذا فإن روايتى ليست محاكمة للأهل، بل دعوة لكشف ما نعانيه بسبب أنفسنا أولًا، وسعينا للقبول والحب.

■ ماذا عن «محاكمة» الزواج وإمكانية أن يتسبب فى هزائم جديدة للفتاة حتى لو كان من الحبيب؟

- الزواج علاقة محورية جدًا فى حياة أى امرأة، قد تسندها وتدعمها إلى أقصى درجة، وقد تقضى عليها بالفعل، لكن الإنصاف هنا يقول إن «نداء» كانت أزمتها أكبر من الزواج، كما قالت لها الطبيبة: «الزواج التعيس لا يدمر الحياة، لكن ما يدمرها هو ما دفعك لجذب الزوج غير المناسب أو النرجسى».

هنا نعود مرة أخرى إلى ما ندفنه داخلنا من صدمات أو مشاعر أو مواقف سابقة، شكلت وعينا ورؤيتنا لنفسنا، وأحكامنا عليها وعلى غيرها، وبالتالى قد يستغل الفتاة زوج مُستغل أو حبيب بخيل أو شخص منحرف أو فاشل أو لديه مشاكل، لأنها ترى بوعى أو بدون ضرورة أن تقدم الكثير لتحصل على الحب أو التقبل الذى افتقدته وهى طفلة.