الخميس 13 مارس 2025
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

صوت المكان.. الجغرافى عاطف معتمد: اكتشفت من رحلتى أننا ما زلنا لا نعرف بلادنا

عاطف معتمد
عاطف معتمد

- لا فهم لجغرافية مصر دون فهم لأرض سيناء

- حرصت على صياغة كتابى فى قالب قريب من عقل وروح غير المتخصص

- فرحت جدًا حين أوقفنى بيطرى وقال لى إنه فى غاية السعادة بكتاباتى

- العرب غيروا أسماء الكثير من البلدان على مدار 1400 سنة

يمشى الدكتور عاطف معتمد، أستاذ الجغرافيا بكلية الآداب جامعة القاهرة، على درب العلامة الكبير جمال حمدان، بل إن البعض يصفه بأنه «جمال حمدان العصر»، نظرًا لجهوده البحثية وسعيه الدءوب لفهم المكان وتحليل تفاعلاته البشرية والطبيعية. 

جاب «معتمد» أرض مصر مُنقِبًا عن أسرار الجغرافيا، ومراقبًا وكاتبًا ومحللًا أيضًا، ليقدم لنا رؤى عميقة تجمع بين الأكاديمية الرصينة، والسردية الأدبية المشوقة التى تجذب القارئ غير المتخصص فى مجال الجغرافيا.

فى كتابه الجديد «صوت المكان»، الصادر عن دار «الشروق»، يقدم الدكتور عاطف معتمد رحلة فكرية وجغرافية تستكشف العلاقة بين الإنسان والمكان، وكيفية تشكيل الهويات وتفاعلها مع التغيرات الزمنية، وهو العمل الذى يكشف عن خلفياته، ودوافعه لكتابته، وما يتضمنه من رؤية، خلال حواره التالى مع «حرف».

■ «صوت المكان» عنوان يحمل مفارقة.. هل تقصد أن لكل مكان على الأرض هوية معينة مثلاً؟

- أقول دوما إن هناك فرقًا كبيرًا، كما بين الأرض والسماء، أن نعرف الجغرافيا على السبورة وأن نراها رؤى العين والحواس. 

ولقد حاولت على مدى ثلاثة عقود أن أسافر لأرى بنفسى، امتدت الأسفار من حلايب وشلاتين فى الركن الجنوبى الشرقى لبلادنا إلى سيوة والسلوم فى الركن الشمالى الغربى. 

والحقيقة أنه ليس من السهل فهم أرض مصر دون الارتحال فى بلاد النوبة وأسوان، وممرات الصحراء الشرقية إلى البحر الأحمر، وعبر درب الأربعين إلى مشارف بحر الرمال فى الصحراء الغربية، ثم تبين لى أنه لا فهم لجغرافية مصر من دون فهم لأرض سيناء، فأخذت نفسى إلى تلك الأرض الملهمة المدهشة، فتعلمت فيها ما لم أتعلمه فى أى أرض أخرى. 

وكما تفضلتم ولاحظتم فى سؤالكم فإن لكل مكان هوية وتفردًا، قد يبدو للزائر العابر أن الأماكن متشابهة، لكن الحقيقة أن لكل مكان طبيعة وسمات وصفات وسحنات ودلالات وتواريخ وتفاعلات تعطيه خصوصية عن بقية الأماكن الأخرى.

التفرد لا يقتصر فقط على سمات الجغرافيا الطبيعية والبيئية، بل على تفاعل الإنسان من حيث التاريخ الدينى والفلكلورى والطقوس، وارتباط المكان بلغات ولهجات تختلف وتتفرد أو تندمج وتمتزج، فى ثنائية شهيرة من الصراع من أجل الحفاظ على الخصوصية كاملة والاندماج والذوبان الكلى المهيمن. 

■ قلت إن الكتاب هو رحلة عشر سنوات من التجوال.. كيف جاءت فكرته؟

- نكتب دومًا بحوثًا أكاديمية تنشر فى كتب ومجلات لا يطلع عليها إلا أهل التخصص، وأنا أفعل ذلك مثل غيرى من زملاء المهنة، ومنذ التخرج فى الجامعة فى عام ١٩٩١ وأخوض رحلة طويلة، بدأت بتقديم رسالة ماجستير عام ١٩٩٦ ودكتوراه عام ٢٠٠١، وبحوث إلى درجة أستاذ مساعد عام ٢٠٠٧ وإلى درجة أستاذ عام ٢٠١٣. 

وخلال هذه الرحلة الطويلة تتراكم لديك معلومات وأفكار ومشاهدات ميدانية لا يتم النقاش حولها سوى فى دوائر محدودة على الزملاء فى الجامعة أو الندوات والمؤتمرات. وهؤلاء عددهم بضع مئات.

وحين تعرضت الجغرافيا كتخصص علمى لأزمة هوية ما بين مطالب بإلغائها من التعليم العام، ومن يطالب بإغلاق أقسام الجغرافيا فى الجامعات المصرية، انتبهت إلى أن الازمة دومًا فى أننا لا نعرف الجغرافيا الحقيقية، أقصد الجغرافيا التى تهم كل الناس وضرورية لكل الناس.

وقد لاحظت أننى حين أكتب عن هذه الجغرافيا فى وسائل التواصل الاجتماعى على صفحتى على «فيسبوك» فإن عددًا لا بأس به من القراء يبدى اهتمامًا وقبولًا لما أكتب عن معلومات جغرافية.

وطالب كثير منهم بأن أجمع تلك الرحلات والزيارات وقطوف المعلومات والخبرات فى كتاب أو سلسلة كتب.

■ فكرة «أنسنة الجغرافيا» وتحويلها من جفاف الخرائط إلى وسيلة تخاطب الجميع.. هذا مشروع ثقيل ويحتاج لقراءات وأمور أخرى.. حدثنا عن هذه التجربة؟

- تعرضت الجغرافيا فى كل دول العالم لطغيان الأرقام والجداول والإحصاءات. وبعد أن كانت علمًا إنسانيًا واجتماعيًا صارت علمًا يخضع لصرامة المعلومات ودقة الحقائق. 

ورغم أن ذلك أعطى للجغرافيا بعض سمات «العلم»، أى الاقتراب أكثر وأكثر من الأحكام الدقيقة بعيدًا عن الانطباعات والخواطر والوصف الأدبى الواقع فى المبالغات تارة والتهوين تارة أخرى، إلا أن ذلك أخذها بعيدًا عن علاقاتها بالإنسان العادى الذى يحتاج الجغرافيا كمتطلب حياتى يومى.

ومن هنا جاءت الصيحة التى ذكرتها أنت بكل دقة «أنسنة الجغرافيا». والمحاولات التى أقدمها هنا تقوم على أنه لا مفر من وجود نواة علمية وسند معلوماتى صحيح، لكن مع صياغة ذلك فى قالب قريب من عقل وروح الإنسان المعاصر: الإنسان غير المتخصص، الطبيب، المهندس، الأديب، المحامى، السينمائى، التاجر، المحاسب.

لا أنسى أن طبيبًا بيطريًا أوقفنى قبل عدة أشهر، وقال لى إنه فى غاية السعادة حين يقرأ ما أكتبه فى الجغرافيا.

وقد أدهشنى ذلك وأدخل على نفسى سرورًا من ناحية، ورغبة فى مضاعفة الجهد وتوسيع دائرة العمل من ناحية أخرى.

لأنك هنا لا تتوقف أن جغرافيا أو مؤرخًا مثلك يقرأ ما تكتب، بل أصحاب تخصص بعيد كل البعد، وكان أحدثهم مفتش فى الضرائب، وأمين مكتبة، وطالب ماجستير فى اللغة العربية.

وكل ذلك يساعدنى ويشجعنى أكثر على المواصلة فى تقريب هذه الجغرافيا إلى «الإنسان العادى» أو كما قلتم «أنسنة الجغرافيا».

■ حدث خلط كبير بين مسميات الأماكن على مر العصور.. وهو ما شرحته فى مقال لك عن التفرقة بين «فيلة» و«فيلاى» و«إلبا» التى تحولت إلى «علبة».. حدثنا عن ذلك؟

- لدينا فرع بالغ الأهمية- قليل الاهتمام مع ذلك- يسمى «دلالات أسماء الأماكن»، وتعرف أن الأماكن فى مصر تحمل مسميات بالغة التنوع، وجذور هذه الأسماء ورثت الأثر اللغوى الذى تركه التاريخ عبر ٥ آلاف سنة أو يزيد. 

فقد أعطى المصريون القدماء أسماء للأماكن، ظلت هى المعتمدة لمدة ٣ آلاف سنة، ثم جاء الفرس وحاولوا تغيير بعض الأسماء لكن سيطرتهم على مصر كانت لفترة قصيرة، وقد نجحت عملية تغيير الأسماء على يد اليونانيين، الذين احتلوا مصر لنحو ثلاثة قرون، ثم جاء الرومان وغيروا أكثر فى الأسماء، لأنهم استمروا بأشكال مختلفة يهيمنون على جغرافية مصر- فى العصرين الرومانى والبيزنطى- لمدة تزيد على ستة قرون إلى أن جاء العرب فى منتصف القرن السابع الميلادى؛ ليستهلوا رحلة طويلة فى تغيير أسماء الأماكن على مدار ١٤٠٠ سنة. 

هى إذن رحلة طويلة منذ قدماء المصريين. والمشكلة أن كثيرًا من الباحثين المتخصصين- ناهيك عن المثقف العام- لا يعرف أصل أو جذر هذه الأسماء. لو وقفت فى مدينة دمنهور فى البحيرة أو أخميم فى الصعيد أو مدينة باب فى النوبة، وسألت المتخصص أو المثقف العام عن معنى الاسم، فلربما لم تصل إلى إجابة، ومن أجل هذا نشأ علم أسماء الأماكن أو «الطوبونوميا»، والذى لا يلقى عناية كافية منا فى مصر رغم أهميته الكبيرة.

■ اعتمدت على معلومات وكتب ومراجع قديمة وفى نفس الوقت خضت تجارب على أرض الواقع فى فهم الطبيعة وعلاقة الناس بالمكان وأثر الإنسان على البيئة.. ما الذى واجهك من غرائب؟

- هناك ما يمكن وصفه بالثالوث الواجب اتباعه فى التعرف على الأماكن، الأول قراءة الدراسات السابقة وما كتبه الأقدمون والرحالة وما صدر من بحوث حديثة فى العلوم الطبيعية والبشرية. وتشمل هذه المرحلة أيضًا فحص الخرائط والصورة الجوية ومرئيات الأقمار الصناعية.

والثانى الزيارة الميدانية التى تتفاوت فى زمنها بين زيارة عابرة ليوم أو يومين أو ثلاثة. وإذا امتدت لأسبوعين أو ثلاثة وبلغت شهرًا أو ثلاثة نسميها «رحلة علمية». وقد قمت بكل من الزيارات والرحلات على حد سواء طيلة سنوات طويلة.

والثالث العودة إلى المكتب لمضاهاة ومقارنة ما تحصل بالزيارة والرحلة مع ما هو مدون فى الكتب والبحوث السابقة. 

والشىء الغريب الوحيد الذى اكتشفته أننا «ما زلنا لا نعرف بلادنا!». مصر أرض بالغة التنوع رغم ما يبدو فيها من الظاهر، بالغة الثراء والتباين رغم الرتابة البادية على السطح، بالغة العمق رقم سطحية التفسير الأولى. 

ويؤسفنى أن أقول إننا- معشر الجغرافيين- لم نعط مصر حقها فى البحث والدراسة والكتابة والترجمة بما تستحقه، لكنى آمل أن يقوم الجيل الجديد بذلك. 

■ كيف تقدم كفواتح شهية؟

- عن طريق تقديم نماذج من القصائد والقصص القصيرة والرّوايات والأفلام واللوحات الفنية والموسيقى والأغانى التى تأتى فيها الجغرافيا مسرحًا للبُعد الفنى والثقافى. 

لم أضربْ سوى مثالٍ واحدٍ من كلِّ صنفٍ ولون. ويستحقُّ هذا الفصل كتابًا كاملًا بنفس العنوان، وحتى يَحدث ذلك بقلم باحثين واعدين فى المستقبل؛ أقدِّم هنا ما يَمكن تسميتُه بكلمات مفتاحيَّة لمزيدٍ من البحث والتطبيق. 

■ ماذا عن مفهوم «الحق فى المكان» والذى تكرر كثيرًا فى كتابك؟

- نحن نعرف يا صديقى أن علاقةُ الإنسان بالبيئة نهرًا وبحرًا وبرًّا، ليست علاقةَ تَرفيه واستجمام؛ بل هى الباعثُ الأول على كلِّ أخلاق وصفاتِ الإنسان المنتج المثمِر فى بلاده. 

من دون بحر، كيف سيَظهر عندنا مستكشفون يتحلّون بالجرأة والشَّجاعة والمقاومَة والبطولة؟ كيف سنَكتشف ثرواتِ البحر والبرِّ والنهر؟ كيف ستولَد الأفكار العبقريةُ عند العلماء كما سقطتِ التفاحة على رأس نيوتن؟ كيف ستولَد الأحلام بأن يكون مِن بين أبنائنا بحّارة وغوّاصون وملّاحون ومستكشفون للأفق البعيد؟ وفى الأخير كيف سيكون لدَينا أدباءُ ومبدعون ومُفكرون يَستلهمون من البحر ما فاضَ به على السابِقين من أمثالِ كبارِ الأدباء، فأنتجت قريحتُهم ما زَخرت به مكتبة الإبداع بصنوف وألوان فنية راقية؛ بل وينسحب الأمر- كذلك- على النهر بما يبثُّه من معانٍ خلّابة فى نفوس المبدعين؛ وما رائعةُ موسيقار الأجيال محمد عبدالوهاب «النهر الخالد» منّا ببعيد!

وأنت تعرف أنه على الرّغم من أنَّ الجغرافيا تعدُّ واحدةً من العلوم الاجتماعية، حيثُ سمِّيت بذلك؛ لأن المجتمعَ مادتُّها، والناس هدفُها. إلّا إنها لم تكنْ بهذه الصفة دومًا؛ إذ مرَّت بثلاثِ مراحل فى تاريخ تطورها:

كانت الجغرافيا وقودًا للخيال فى التاريخ القديم حين تأسَّستِ الأساطير والأشعارُ الملحمية والسَّرديات الكبرى فى الأديان القديمة، مثل المصرية والبابلية ونظائرها فى الحضارات الفارسية والصينية والهندية واليونانية.

أصبحَت فى العصور الوسطى وما تَلاها «خادمة للاستعمار» ولم يكن انطلاقُ الحملات التوسُّعية والحربية منذ القرن الخامس عشَر إلا على جناحى «البارود والخريطة». والخريطة هنا هى المادةُ الأساسية لعلم الكارتوجرافيا الذى كان- وما زال- أحدَ أهمِّ أدواتِ التحليل الجغرافى. فى هذه المرحلة كانت الجغرافيا وسيلةً فى يدِ الطغاة والمستبدّين والأباطرة والمستَعمرين. واستمرَّت هذه الوظيفة حتى عهدٍ قريب فى منتصف القرن العشرين، وتقوم محلّها الآن أجهزةُ الاستخبارات الجغرافية داخلَ وَزارات الحرب والمخابرات والأمن والشرطة. فأدوارُ كلِّ هذه الأجهزة لا يمكن أن تكتملَ بنَجاحٍ إلا على خرائط دقيقة وتحليل جغرافىّ سليم.

ومنذُ منتصف القرن العشرين، ومع ظهور حقبةِ ما بعد الاستعمار، انتبه نفرٌ قليلٌ من علماء الجغرافيا إلى الدور الإنسانَوى لهذا العلم، وراقَبوا ضمائرهم فى أنَّ هذا العلم فى حقيقتِه هو علمُ تَفتيش عن مَواطن الخلل الاجتماعى فى توزيع الثروة والخدمات والسكان والرَّفاه والتركز السكانى، وغيره من تناقضات الفائض والعَوز.

الجغرافيا فى حقيقةِ تَعريفها هى «علمُ التوزيعات المكانية». الهدفُ الرئيس للكشف عن هذه التوزيعات هو المسارعةُ بتحقيق «إعادة التوزيع» من أجل ضَبط الخلل وإصلاح المظالم التى تسبَّب فيها الإنسان. على هذا النحو يمكنك تسميةُ هذا التيار الفكرى فى الجغرافيا باسْم «جغرافية العدالة والمساواة».

الجغرافيا الحقَّة تَكشف عن توزيع الفقر، أين يوجَد السكان الأقلّ دخلًا، ما المناطق التى تعانى من سوء الصَّرف الصحى، ضعف وَرَداءة مياه الشرب، التكدُّس السكنى، توطُّن المرض، التلوث، أين توجَد مناطقُ العجز فى المستشفيات وفقًا لعَدد السكان، مناطق الحاجة لصيدليات، مناطق الحاجة إلى نقاطِ تركُّز أمنية ردعًا للمجرمين، مناطق شحّ مياه الشرب، العوز فى المدارس والتعليم الأساسى.. إلخ.

ومن هنا تأتى أهميةُ التحليل الجغرافى للتوزيعات المكانية التى قد تضىء الطريق للدولةُ لحل مثل هذه المشكلات من أجل تنمية وتطوير وسلم اجتماعى ورخاء للسكان. 

■ لو أردنا أن نضع خريطة داخلية لكتابك.. كيف ستكون؟

- يتألف هذا الكتاب من 10 فصول ومجموعة من الخرائط والصور الفوتوغرافية، فى محاولة أولى لمزج العلم والفلسفة والأدب، لاستكشاف أهم المعالم فى أرض بلادنا: شبه جزيرة سيناء، وصحراء مصر الشرقية والغربية، ووادى النيل والدلتا، وعمران القاهرة والإسكندرية. 

وحين كتبت عن هذه الأماكن تناولت مفاهيم ضرورية فى الجغرافيا الحديثة، مثل الحق فى المكان، والحق فى البحر، والتحديث العمرانى، والسكان الأصليين، وموت المسافة، والجغرافيا المقدسة، ودلالات أسماء الأماكن، والتمازج بين البيئة والقبيلة. أما الفصل الأخير فينطلق من أن الجغرافيا الحديثة علمٌ لكلِّ الناس، وهى مَدسوسة فى القصيدة، والرواية، والفيلم واللوحة الفنية، والحكايات والأمثال الشعبية. وهى لا تُقدم معرفةً صُلبة وحَقائق ومعلومات مُعجمية أو موسوعية؛ بقَدر ما تقدم محفِّزات وفواتحَ شَهية للاهتمام بعلم المكان المسمَّى اصطللاحًا «جغرافيا».