أوراق عمرها 62 عامًا تقول لنا الحقيقة
تاريـخ مـزور.. تفكيك أكذوبة أنيس منصور الكبرى عن عبدالناصر
- أنيس: عندما سألت عن سبب فصلى قالوا لى إنها صورة للرئيس جمال عبدالناصر جاءت فى مقالك وأنت تتحدث عن الطاغية نيرون أو إنها صورة لحمار جاء فى المقال
- قرار الوقف عن العمل جزء من سياسة إبعاد مصطفى وعلى أمين عن أخبار اليوم وهدمها على رأس العاملين فيها
- ادعى منعه من الكتابة بينما كان يعمل بانتظام ويكتب بانتظام وينشر بانتظام وليس معقولًا أن يكون أنيس ممنوعًا بأمر مباشر من عبدالناصر ويستكتبه على أمين متحديًا قرار الرئيس
- لقد كتب كثيرون يفندون الوقائع التى ذكرها أنيس عن عبدالناصر ويؤكدون أنه يلفق ويفبرك
عاش أنيس منصور سنوات عمره من العام 1962 وحتى وفاته فى العام 2011 يبكى ظلم الرئيس عبدالناصر له، يحكى ويعيد ويزيد فى حكاية فصله من أخبار اليوم فى ديسمبر 1961 بعد مقاله «حمار الشيخ عبدالسلام».
الحكاية وثقها أنيس فى كتابه «عبدالناصر المفترى عليه.. والمفترى علينا»، بعد أن أشار إليها فى عشرات الكتب ومئات المقالات.
يحكى أنيس: دعانى أو استدعانى السيد على إسماعيل إمبابى مدير مكتب الوزير كمال رفعت المشرف على أخبار اليوم، وهذا الاستدعاء حدث مرموق، يرويه عامل الأسانسير والساعى الواقف أمام مكتبى وأمام مكتبه، وفرصة ليعرف العاملون فى أخبار اليوم نوع اللقاء من النظر إلى وجهى ذهابًا وإيابًا، وأكون أو يجب أن أكون ضاحكًا، لأعطى انطباعًا بأنه لقاء ودى وأن نتائجه مثمرة، وقد ناقشنا الأوضاع بكل تفاصيلها، وأن نتائج هذا اللقاء سوف تظهر تقريبًا- كما يقول وزراء الخارجية عادة- ويكون كلامهم لا معنى له، لأنه كليشيه واحد يجىء قبل وبعد أى لقاء من هذا النوع.
سأل إسماعيل إمبابى: تشرب إيه؟
فرد أنيس متبسطًا معه: ما تشربه أنت.
فقال إمبابى: لا.. مثلك لا بد أن يشرب شيئًا خاصًا، فليس لقائى بك كل يوم، ما رأيك فى القرفة بالجنزبيل؟ إنها أحسن شراب للبرد وأنت خائف من البرد، لولا أنك وحشتنى ما طلبت أن أراك وأنا مزكوم كما ترى.
يعلق أنيس على كلام إمبابى بقوله: إذن هو مزكوم، وأنا سوف أصبح مزكومًا، ولكن الوحشة والشوق أقوى من أن يقاومه.. لهذه الدرجة؟ نعم.. لهذه الدرجة إنه هو الذى يقول، ولم أرغمه على ذلك، ولا هو مضطر إلى مجاملتى.
تكلم أنيس مع إسماعيل إمبابى فى كل شىء، فى تخلف كل الصحف وتقدم صحف أخبار اليوم، وفى لعن أجداد المحررين المنافقين الذين ينقلون إليه أخبار السخط والغضب فى صحف أخبار اليوم بعد التأميم، وينقلون إليه ما قاله مصطفى وعلى أمين وغيرهما وأصدقاؤنا أم كلثوم وعبدالوهاب وعبدالحليم حافظ وكمال الطويل وعثمان العبد وقاسم فرحات، وما يقوله غير الساخطين على ما أصاب أخبار اليوم، وما يقوله أنيس نفسه من عبارات ساخرة من الوزير والمدير والسكرتير.
يقطع إسماعيل إمبابى هذا الاسترسال، ويقول لأنيس: طبيعى أن تغضب لما أصاب الدار، ولكننا لسنا بهذا السوء ولا بهذا الجهل، ثم إننا ننفذ الأوامر الصادرة إلينا، لا رأى لنا فى شىء، افعل هذا، تمام يا أفندم، فنحن عبد المأمور.
يقول أنيس: بعد أن انتهى الحديث، مددت يدى أصافحه، فوقف لتحيتى وقبل أن أغادر المكتب الذى كان يجلس إليه مصطفى أمين، قال لى: على البيت.. تخرج من هنا على البيت، فقد صدر قرار بوقفك عن العمل، ولا أعرف لماذا؟
كان ذلك يوم ٢٧ ديسمبر ١٩٦١.
يضيف أنيس: قبل أن أخرج إلى الشارع جاء بعض الزملاء يفسرون لى ما لم أكن أعرف، إنها صورة للرئيس جمال عبدالناصر جاءت فى مقالك وأنت تتحدث عن الطاغية نيرون، أو إنها صورة لحمار جاء فى المقال، ولا علاقة للحمار بما جاء بالمقال، ولكن لا بد أنك قصدت شيئًا يفهمه القارئ، ولكن الذى يضع الصور أو الرسومات سكرتير التحرير وليس أنا، وكان الرد: ولكن لا بد أنك رأيت المقال قبل النشر ولاحظت وجود هذه الرسومات التى تغمز وتلمز ووافقت على بقائها، ولكن لماذا لم يحذفها الرقيب؟ وكان الجواب من الزملاء: ليس أسهل من أن يقول إنهم وضعوا له صورة إوزة أو بطة أو نسر، ثم وضعوا الحمار بعد ذلك، وليس واضحًا ما الذى فعلته بعد ذلك مباشرة.
بدأ أنيس منصور يبحث عن سبب إبعاده وطرده من أخبار اليوم إلى بيته، تواصل مع محمد حسنين هيكل فى بيته، وقال له ما حدث، وكان ما جرى مفاجأة له، ووجد أن مصطفى وعلى أمين يعرفان ما حدث، ولكن ليست لديهما أسباب واضحة.
ويحاول أنيس شرح الأمر لنفسه: لا بد أن يكون السبب شيئًا كتبته، أو لا داعى لأن يكون هناك سبب واضح، فقد كنت أقرب إلى مصطفى وعلى أمين من كثير من المحررين، وأن قرار الوقف عن العمل جزء من سياسة إبعاد مصطفى وعلى أمين عن أخبار اليوم وهدمها على رأس العاملين فيها.
وبعد ذلك عرف أنيس منصور السبب.
يقول: كنت قد كتبت مقالًا بعنوان «حمار الشيخ عبدالسلام»، وفى المقال غمز ولمز وإيماءات وإسقاطات واضحة، فقد كانت صورة لأعماقى الغاضبة الساخطة على الذى أصابنا جميعًا، وفى الصباح الباكر وضع السيد على صبرى مدير مكتب الرئيس صورة من المقال أمام عبدالناصر ومعه هذه العبارة: فى انتظار أوامركم.
يعلق أنيس منصور الأمر كله فى رقبة الرئيس عبدالناصر.
يقول: وكان الرئيس عبدالناصر فى طريقه إلى الجزائر، وليس فى حاجة إلى وجع دماغ، ولا بد أنه كان سعيدًا بهذه الرحلة فى البحر إلى الجزائر، ولا بد أنه كان راضيًا عن الصورة التى يراها فى المرآة: مشرق الوجه لامع العينين، حاد الأنف يضغط على شفتيه فى كبرياء وقرف، ولا بد أن لون الكرافتة «السولكا»- فلم يكن يعرف إلا هذا الصنف من الكارفتات- قد أعجبته، ولذلك اكتفى سيادته بأن أشار إلى على صبرى، ومضى ينظر إلى الكرافتة، ولما لاحظ أن عددًا كبيرًا من الوزراء والسكرتارية يلبسون السولكا، فقد مد يده إلى الدولاب واختار كرافتة «أرجانس» آخر ما عرف الرئيس من أنواع الكرافتات الأمريكية والفرنسية.
وبعد هذا الحكى الدرامى، يستكمل أنيس ما يعتقد أنه حدث.
يقول: اكتفى السيد على صبرى بترجمة إشارة السيد الرئيس على أنه بلاش وجع دماغ، فلم يقل: اسجنه أو اعتقله فى الواحات أو فى السجن الحربى أو سجن المخابرات.
ثم يصل أنيس إلى ذروة الأحداث، وفى يوم رأس السنة الميلادية صدر قرار بفصلى مع الأستاذ جلال الدين الحمامصى فى ورقة واحدة ولأسباب مختلفة.
ظل أنيس منصور يعزف على أوتار هذه الواقعة، فقد ظل بقرار عبدالناصر طريدًا مشردًا بلا عمل، يبتعد عنه أصدقاؤه وأصحاب الأعمال جميعًا.
يصف ما حدث فى تلك الليلة: فى ليلة رأس السنة ذهبت إلى بيت على أمين بإلحاح شديد منه ومن زوجته الزميلة خيرية خيرى، وكان من رأى على أمين: ولا يهمك، فغدًا يوم آخر، وكل هذه أشياء سوف تنتهى، ويجب أن أفرح بالمشاكل والمصائب، لأننى سوف أكتب عن ذلك، فالرئيس عبدالناصر يستحق الشكر، لأنه اختار لى موضوعات لكتب سوف أنشرها بعد ذلك، وسوف يذهب ونبقى نحن.. صدقنى، وقد قابلنى على أمين بحرارة وعناق وقبلات كأن شيئًا لم يحدث، ولم أكن أصدق الذى أراه، فهو يريد رفع معنوياتى ومعنوياته أيضًا، ولا أعرف كيف مضت تلك الليلة السوداء فى بيت على أمين فى عمارة «ليبون» بالزمالك.
بدأ أنيس فى تجسيد مأساته بسبب قرار الرئيس بفصله من عمله وطرده وإبعاده عن أى وكل فرصة عمل.
ففى اليوم التالى مباشرة لفصله قابل أنيس حسن جلال العروسى وكان مديرًا لمكتب مؤسسة «فرانكلين» الأمريكية للنشر، وكان أنيس قد نشر فى هذه المؤسسة عددًا من الكتب، أحدها بالاشتراك مع الدكتور طه حسين عن الأدب الأمريكى.
فى هذا اللقاء سحب العروسى يده قبل أن يصافح أنيس، قائلًا: لا تؤاخذنى لا أستطيع أن أتعامل معك، أنت تعرف، أنا رجل أعمال، مدير مؤسسة أمريكية ولا أريد مشاكل مع الحكومة، فأرجو إنهاء كل ما بيننا.
وعندما ذهب أنيس إلى محل «البن البرازيلى» الذى اعتاد أن يتردد عليه مرتين أو ثلاثًا أسبوعيًا ليشرب القهوة باللبن ويمسح حذاءه، ويقف مع أصدقائه عبدالحميد الحديدى الذى صار رئيسًا للإذاعة، وموريس جندى مدير وكالة الصحافة المتحدة، والأديب فتحى أبوالفضل والمنتج السينمائى عدلى المولد وعدلى يواقيم صاحب سينما الجزيرة وأوميل لبيب من رجال الأعمال، وكان وقتها يعمل فى السفارة البريطانية وحسين شوقى ابن أمير الشعراء أحمد شوقى وكمال الملاخ.
فى هذا اليوم وجد أنيس عبدالحميد الحديدى يقول له: لا أستطيع الآن أن أذيع لك شيئًا، لا مقالًا ولا قصصًا.. اعذرنى.
اندهش أنيس- كما يقول- فهو لم يكن يتعامل مع الإذاعة ولا كان يتهجم على الميكروفون ويرغم الإذاعة على إذاعة قصصه ومقالاته.
ويضيف أنيس: ولم أفلح فى أن أفهم ما الذى دفع صديقى الحديدى إلى اتخاذ هذا الموقف تطوعًا منه، إنه إذن الخوف، ولا بد أنه سوف يخاف أن نقف معًا أمام البن البرازيلى، أو يخاف إن رآه أحد معى، إننى مختلف مع رئيس الجمهورية وليس مع وزير من الوزراء، إذن أنا ضد الدولة، وكل من له صلة بى سوف يوصم بهذه التهمة.
يمكننا أن نصل إلى مفصل مهم من مفاصل هذه القصة.
يعود أنيس منصور إلى على أمين مرة أخرى، اسمعه وهو يتحدث.
يقول أنيس: وجدت نفسى مشكلة لعلى أمين، أو تلميذًا صغيرًا فى مدرسة أنشأها خصيصًا لى، وفى اليوم الأول قال لى: ولا يهمك، كيف؟ لا أعرف، وقال: فى استطاعتك أن تشغل نفسك بأن تتعلم شيئًا جديدًا، ونهضت زوجته السيدة خيرية خيرى وقدمت لى «آلة كاتبة» لكى أتعلم الكتابة.
أنيس منصور بلا عمل إذن، على أمين ينصحه بأن يشغل نفسه بأى شىء، أن يتعلم شيئًا جديدًا، تطوعت زوجته وقدمت لأنيس آلة كاتبة ليتعلم الكتابة عليها، لم يكن هناك شىء يقدمه على أمين لأنيس سوى النصائح.
الآن يمكننا أن نحبس أنفاسنا قليلًا.
سأجمل لكم ما سنصل إليه معًا، فأنيس منصور الذى يقول إنه فصل من عمله، وإنه ظل فى الشارع لعام ونصف فى بعض رواياته، ولعامين كاملين فى رواية أخرى لم يكن صادقًا أبدًا، ولدى الدليل على ذلك بالوثائق التى لا تكذب ولا تتجمل.
لقد فصل أنيس فى إحدى الروايات فى ٢٧ ديسمبر ١٩٦١ وفى رواية أخرى ليلة رأس سنة ١٩٦٢، أى أنه ظل خلال عامى ١٩٦٢ و١٩٦٣ بدون عمل، ظل طريدًا شريدًا يتلقى التعازى فى وضعه، ويفكر فى أن يهرب من مصر بعد أن قاطعه الجميع، ولم يرحب به أحد فى أى عمل، أى أنه أصبح بلا مورد رزق، خاصة أنه أضاف إلى مأساته أنه فصل من عمله بالجامعة وكان مدرسًا للفلسفة.
فى هذه الفترة التى يتحدث عنها أنيس منصور كان على أمين رئيسًا لتحرير مجلة الهلال، وخلال العام ١٩٦٢ الذى كان أنيس كما يدعى عاطلًا بلا عمل كتب ستة مقالات فى ستة أعداد، يمكننا أن نرصدها على النحو التالى:
فى عدد فبراير ١٩٦٢ كتب أنيس منصور على سبع صفحات من الصفحة ٣٠ إلى الصفحة ٣٦ مقالًا بعنوان «أدب تغميض العيون» ووضع له عناوين شارحة هى: ماذا يريد الساخطون فى إنجلترا؟ وماذا يريد الصاخبون فى أمريكا والوجوديون فى فرنسا؟
وفى تقديمه لهذا المقال، يقول أنيس: فى السنوات القليلة جدًا الماضية ظهرت موجة شابة عنيفة تطلب تغيير الأسس التى يقوم عليها النقد والتقويم فى الأدب والفن، ولم ينظر أحد باهتمام إلى مثل هذه النداءات أو الصرخات التى تتردد كثيرًا فى كل مراحل التاريخ، ففى كل وقت يوجد شبان، وكل الشبان يصرخون، ولكن هؤلاء الشبان فى إنجلترا أصدروا بيانات أدبية، فجاء فى البيان الأول الذى صدر منذ سبع سنوات: يجب علينا أن نفكر جديًا فى مناقشة الكثير من الحقائق الجامدة التى استقر عليها مفهوم الحياة، وبالتالى مفهوم الفن عندنا، ولا فرق عندنا بين الفن والحياة، وإنه فى العصور التى كان فيها الفن شيئًا آخر غير الحياة، لم نجد إلا نماذج هزيلة من الإنتاج الفنى، ولا يمكن أن يقول الفنان شيئًا إلا بجنون دستويفسكى، وتضحيات تولستوى ووهج شكسبير، ولم ينتبه كثيرون إلى هذا البيان الغامض، ولم يعلق عليه أحد من النقاد، غير أن الإذاعة البريطانية أشارت إليه بسرعة، وتوقعت أن يكون لأصحابه مستقبل فى الأدب.
وفى عدد مارس ١٩٦٢ يكتب أنيس مقالًا على سبع صفحات من الصفحة ١٠٠ إلى الصفحة ١٠٦ عنوانه «زواج الفنان مشكلة».
يقول أنيس فى مقدمة مقاله: الزواج مشكلة، وأساس هذه المشكلة هو التوافق، فالزواج هو الزمن الذى يعيشه اثنان فى حالة توافق مستمر، ولكى تنحل هذه المشكلة يجب أن ينزل أحد الطرفين عن شىء من عاداته وطباعه من أجل الطرف الآخر، أو على الأصح من أجل الاثنين معًا، أى من أجل الحياة الزوجية نفسها، ولكى يكون هناك توافق يجب أن يكون هناك اقتناع من أحد الطرفين، أو منهما معًا، ولكى يكون هناك اقتناع يجب أن يكون هناك تفاهم.
ويختم أنيس مقاله بقوله: وراء كل رجل عظيم امرأة، ولكن ماذا تفعل هذه المرأة؟ إنها تلقى عليه بالماء والطين، إنها تقيد يديه ورجليه، إنها تتركه لغيره من الذين هم أكثر فراغًا، وأكثر تفرغًا لها، وراء كل رجل عظيم امرأة تحاول أن تجعله رجلًا عاديًا، تحاول أن تقضى على عظمته، تحاول أن تطفئ ناره، أن تقتله قبل الأوان، تحاول أن تستولى على حريته، أن تصادر نزواته، إنها تريده زوجًا وأبًا، ولكنه لا يستطيع.
ويضيف أنيس: إن زوجة الفنان عندما تعتذر عن جريمة فشل زوجها، بأنها كانت معذبة، بأنها كانت أمًا، بأنه كان فنانًا وكبيرًا وغريبًا، ثم تطلب الرحمة من التاريخ، إنها كالذى يقف أمام القاضى ويعترف بأنه قتل أباه وأمه، ولكنه مع ذلك يطلب الرحمة لأنه أصبح يتيمًا.
وفى عدد أبريل ١٩٦٢ يكتب أنيس مقالًا على أربع صفحات من الصفحة ١٧ إلى الصفحة ٢٠ بعنوان «أشياء وأشخاص ومواقف».
يقول أنيس فى مقدمة مقاله: الفن هو نوع من الاعترافات، نوع من ترجمتك لحياتك، ولا بد أن تدخل فيه كلمة «أنا» صريحة أو مستترة، لا بد أن يكون هناك من ينوب عنك فى كل ما تقول وما تعرف وترسم، لأن الفن هو العالم الذى تراه وتسمعه وتشمه مضافًا إليه كلمة أنا، فالفن يساوى الدنيا وأنت، والفرق بين العلم والفن أن العلم يحذف كلمة أنا وكلمة أنت من كل التجارب الموجودة فى المعمل، من كل الأرقام، والعلوم الدقيقة هى التى لا تخضع لشعور الإنسان، لصحته أو مرضه، لقوته أو ضعفه، فالحديد يتمدد بالحرارة، أراد الإنسان أو لم يرد، و٢+٢ يساوى ٤ عند الصغير والكبير فى كل زمان ومكان، ولكن غروب الشمس يحزننى، ويسعد غيرى، يجعلنى أكتب، ويجعل غيرى يرسم، وإحساسى بالغروب وتعبيرى عن إحساسى هو عمل فنى، وكل ما تسجله الأدوات فى المعمل هى تجارب، وكل ما أسجله أنا هى تجارب حية، الفرق بين التجربة والتجربة الحية هو أننى أحسست بها وتدخلت فيها، وأبديت رأيى وقلت ما يعجبنى وما أستريح له، وكل محاولة لجعل الفن مجرد انطباعات، أو مجرد تجارب أو قواعد وصور جامدة، هى قضاء على التجربة الحية وتحويلها إلى مجرد تجربة، تحويل إلى ميت، تجميد للواقع، وتكفين له، ووضع تابوت القواعد والأساليب الجامدة.
وفى عدد مايو ١٩٦٢ كتب أنيس مقالًا على سبع صفحات من الصفحة ٩٨ إلى الصفحة ١٠٤، وكان عنوانه «العبث.. والحضارة.. والوجودية».
ومن مقدمة المقال نعرف أنه عن كتب مختلفة، صدرت فى أماكن متباعدة، وفى موضوعات متنافرة، ولكن هذه الكتب تشبه الأصابع فى يد واحدة، هذه اليد هى: ما معنى الوجود؟ وجودى أنا ووجود الآخرين، ما طعم هذا الوجود؟ ما الذى يجعلنا نهرب منه؟.. وكيف؟.. ما هذا الذى يسميه الناس بالملل.. بالقرف؟ ما قيمة الفعل الإنسانى؟ ما قيمة البطولة؟ ما الذى نعنيه عندما نقول إن الإنسان شقى بغيره، ولكنه أكثر شقاء بنفسه؟
أما الكتب التى قدم لها أنيس منصور، فهى: اللص والكلاب، تأليف نجيب محفوظ، دار مصر للطباعة، فى ١٧٥ صفحة، وكتاب عيسى، تأليف جبران خليل جبران، ترجمة الدكتور ثروت عكاشة، دار المعارف فى ٢٤٥ صفحة، وكتاب إلى طه حسين فى عيد ميلاده السبعين، دراسات مهداة من أصدقائه وتلاميذه، أشرف على إعدادها الدكتور عبدالرحمن بدوى، دار المعارف، فى ٥٣٠ صفحة.
لم يكتفِ أنيس بتقديم كتب عربية فى السياق الذى اختاره، بل قدم ثلاثة كتب صدرت بالإنجليزية، وهى: «The Decline of the west»، انحلال الغرب، للفيلسوف «أوزفالد شبنجلر»، وهو أضخم كتاب ظهر فى القرن العشرين عن تاريخ الإنسانية كلها، وكتاب «Existentialism and Religious Belief»، الوجودية والإيمان الدينى، وكتاب «The Theatre of the Absurd»، مسرح العبث.
وفى نهاية المقالات نشر أنيس عدة مقولات.
الأولى بعنوان «معقول»، وقال فيها: للأدباء سهوات لا يكاد يصدقها العقل، وكان إسكندر ديماس مشهورًا بالسرعة الفائقة فى الإملاء، ولهذا بدرت منه تعبيرات غاية فى الطرافة والخلط، ومنها، كان الشاب يرتدى بنطلونًا من القطيفة وجاكتة من نفس اللون، وكانت يده باردة من شدة الهلع كأنها يد ثعبان، وشهر مسدسه بإحدى يديه وباليد الأخرى صاح: عليك اللعنة.
والثانية بعنوان «منطق»، ويقول فيها: لماذا نخاف من ركوب الطائرة؟ ألا نعلم أن لكل أجل كتابًا؟ وإذا حان الأجل سيعرف عزرائيل طريقه إليك أينما كنت، طبعًا، ولكن الذى يقلقنى هو ما يحدث إذا جاء عزرائيل لا ليقبض روحى، بل روح الطيار.
والثالثة بعنوان «لماذ؟»، وفيها: سألت الطفلة الصغيرة «٣ سنوات» أمها: ماما.. بكم يبيعون الكيلو من الأطفال؟ ردت الأم: الأطفال لا يباعون ولا يشترون يا صغيرتى، فقالت الطفلة: لماذا إذن يضعونهم فى الميزان بمجرد ولادتهم؟
وفى عدد يونيو ١٩٦٢ يكتب مقالًا فى سبع صفحات، من الصفحة ٢٦ إلى الصفحة ٣٢، بعنوان «الجيل الضائع».
ويبدأ أنيس مقاله بالإشارة إلى قصة الأديب الأمريكى «ثورنتون وايلدر»، يليها بقوله: لم أعرف ما الذى أفعله، لقد مات كلبى الذى اشتريته بمائة جنيه، والذى أنقذته من الغرق وعالجته فى أحد المستشفيات، وكنت آخذه معى إلى المصنع عملًا بوصية المرحومة زوجتى، وحتى تجده ابنتى الوحيدة عندما تعود من المدرسة، ولكن الآن ماذا أستطيع أن أفعل، لقد تحول الكلب الجميل إلى مجرد جلد وشعر، إلى مجرد شىء، إلى ذكرى مؤلمة، إلى علامة استفهام وتعجب وبداية مناقشات ودموع بينى وبين ابنتى، أنا أناقشها وهى تبكى، ومعها بنات كثيرات، الحقيقة أننى تحيرت، ولم أستطيع أن أحلق لحيتى فى ذلك اليوم، ولا أن أكمل قراءة الصحيفة، ولا بد أن الخادمة قد تضايقت عندما أرد عليها بحماسى المألوف، وتمنيت لو ابتلعت نصف قرص من الحبوب المهدئة لأعصابى.
ويختم أنيس مقاله بـ: ونحن نفتش عن مفتاح التعب، ولكن فى مكان بعيد عنا، والحقيقة أننا واهمون، عندما نفتش عن المفتاح، ونتوهم أيضًا أننا لو اتجهنا إلى المكان البعيد سنجده، لأن المفتاح هو نحن، ولأننا أضعنا المفتاح فى جيوب الناس، وتحت أرجلهم، ولأننا فى الحقيقة لا نبحث عن المفتاح، وإنما نهرب من البحث عنه، ولذلك فنحن نفتش فى مكان آخر، مع أننا نعلم أين فقدناه، أين ضيعناه، بل أين ضيعنا أنفسنا؟
وفى عدد أكتوبر ١٩٦٢ يكتب أنيس منصور مقالًا على أربع صفحات، من الصفحة ٤٢ إلى الصفحة ٤٥، بعنوان «قصائد من خشب».
وفى تقديمه لمقاله يقول: مرارة الدنيا كلها فى فمك، تقرأ هذا الديوان أو هذا الكتاب، أو هذا الصراخ أو نشيد الإنشاد، أو نشيج الإنشاد، أو صيحات إنسان لا يريدك، ولا ينتظرك، ولا يتوقعك، ولا يحبك ولا يحترمك، نظرتك يبصقها، يدك ينفر منها، إنسانيتك يدوسها ويدوس نفسه قبلك، لم يعد فى فمه مزيد يرميه فى وجه أحد، لقد ابتلعه، ليكون ريقه بصقات فى عروقه.
ويضيف أنيس: قارئى العزيز، هذه خواطر إنسان كفر بكل القيم، وثار على كل المفاهيم، شاهد بأم عينيه الزعيم الذى نيطت به قيادة شعب يقبل ركبة أرتست حقيرة، والحرس ينتظره فى الخارج، وترفسه برجلها كأنه حشرة مؤذية وهو ليس غير ذلك، ولمس بيده وبحواسه جميع مفاسد الطبقة التى لها وحدها حق التحكم وتقرير مصائر المواطنين، ومستقبل شعب يرزح تحت الجهل والمرض والتفسخ، وشاب مراهق كفر بالقيم، بالمثل، بالعدل، بالإخاء، بالديمقراطية، بالشرف، بالعقائدية، بالنضال، بالتعذيب، بالأخلاق، بالبروتوكول، بالإنسان الذى زعموا أنه على صورة الله، والله لا يمكن أن يحمل هذه الصورة المشوهة، وإلا لكان هو أيضًا فى قفص الاتهام.
الشاعر الذى كتب عنه أنيس منصور اسمه إبراهيم سلامة، وكان يلقب بشاعر الخشب، يقول عنه: أنا لا أعرف هذا الشاب الصغير، ولم أسمع عنه قبل اليوم، وقد أهدانى ديوانه أو صراخه، وهو يمثل الملايين من الشباب المراهقين الصغار، إنهم فى حوزة شبابهم، وتحت ضغط دمائهم، وأمام روعة المدينة، وزحام الشوارع، وبريق الذهب، وأسنان المرأة وخاتمها الماسى وسيارة فخمة تقف أمامها، ومن السيارة يطل رجل عجوز، وتدخل المرأة وينفتح لها الباب، والخزائن من ذهب، وهؤلاء الصغار يقفون، يرون ويحسون فجأة أنهم لا شىء، لا أيدى لهم ولا أرجل، ولا شباب ولا عقل ولا قيمة ولا وزن.
لن أتوقف طويلًا أمام كتابات أنيس فى «الهلال» خلال العام ١٩٦٢، ولن تشغلنى اختياراته لموضوعاته التى كلها أدبية وفنية وثقافية وعروض لكتب عربية وأجنبية، فقد كان هذا تخصص أنيس، فقد عرفته الصحافة كناقد أدبى، ولا شىء غير ذلك، فلم يكتب أنيس فى السياسة إلا بعد أن اقترب من الرئيس السادات.
ما يشغلنى هنا هو تلك الكذبة الكبيرة التى روجها أنيس عن منعه من الكتابة والعمل على يد عبدالناصر، بينما كان يعمل بانتظام ويكتب بانتظام وينشر بانتظام، وكل ذلك كان برعاية على أمين، وليس معقولًا أن يكون أنيس ممنوعًا بأمر مباشر من عبدالناصر ويستكتبه على أمين متحديًا قرار الرئيس.
ما يحيرنى بالفعل أنه كيف استطاع أنيس أن ينسج هذه الكذبة الكبيرة دون أن يعترض طريقه أحد؟ كيف كتب ما كتب دون أن يفنده أحد؟.
لقد كتب كثيرون يفندون الوقائع التى ذكرها أنيس عن عبدالناصر، يصححون التواريخ، ويؤكدون أنه يلفق ويفبرك.
ولم يلتفت أحد من الأساس إلى أن الواقعة فى أصلها ليست حقيقية؟
فهل كان أنيس صاحب سطوة إلى هذه الدرجة التى تجعل الآخرين لا يقفون فى وجهه، أم أن ما كتبه كان يروق للجميع، فلم يضربوا القصة فى عمودها الفقرى؟
المفارقة أن أنيس منصور نسف قصته كلها من الأساس بنفسه.
وحتى نعرف كيف حدث هذا، ما رأيكم أن نصحبه إلى العام ٢٠١٠.
تحديدًا فى شهر أبريل، عندما عقدت مجلة «الهلال» له ندوة، نشرت فى عدد مايو ٢٠١٠، والذى كان به ملف خاص عنه، وضعوا له عنوانًا «أنيس منصور.. الأستاذ.. سندباد العصر».
فى بداية الندوة قال أنيس نصًا: هذه أول مرة أجىء إلى «دار الهلال» بعد سنة ٦٢- ٦٣، بعد أن قرر الرئيس عبدالناصر فصلى، أتيت إلى «دار الهلال» أنا ومصطفى وعلى أمين، كنا طوال الوقت نريد العودة إلى «أخبار اليوم»، لكن فى هذه المدة التى أمضيناها هنا كتبت مقالًا فى مجلة «المصور» فترتب عليه صدور قرار بمنعى من الكتابة.
ويضيف أنيس: فى الأول فُصلت، وبعد نقلى لـ«دار الهلال» مُنعت من الكتابة، كان عنوان المقال «الفرق بين الوحدة والعزلة»، لم أقصد الوحدة السياسية، إنما كنت أتحدث عن الوحدة والعزلة فلسفيًا، ففُهم الأمر بشكل ما، فمُنعت من الكتابة، وفى ذلك الوقت كان لى صفحتان باسمى، مما ضايق الرئيس عبدالناصر كثيرًا، وبعد كذا مقالة قرر وقفى عن العمل على أن أتقاضى راتبى.
الارتباك يبدو واضحًا فى رواية أنيس التى يمكن أن نعتبرها الأخيرة لهذه الواقعة، فعندما نستعيدها سنكتشف أنه أخفى تفاصيل كثيرة، لم ينشرها فى كتابه «عبدالناصر المفترَى عليه والمفترِى علينا»، لأنه لو نشرها سينسف مظلوميته تمامًا، فهو لم يخرج من «أخبار اليوم» إلى بيته، بل إلى «دار الهلال»، وحتى لو سلمنا بأن قرارًا بإيقافه عن الكتابة صدر، فقد قال هو إن راتبه لم يتوقف.
وعليه فكل ما قاله عن تشريد عبدالناصر له لم يكن إلا بعضًا من الخيال.
قد تعجبك جرأة أنيس منصور على الكذب، وقد تندهش من قدرته على هذا النسج الدرامى للوقائع والأحداث، وقد تقف متعجبًا من كم الأحداث التى يحشرها حشرًا على لسان شخصيات عامة ومعروفة ومشهورة، دون أن يصحح له أحد ما يقوله، وقد يكون هذا مفهومًا.
لكن ماذا نفعل فى الأوراق الصامتة التى تصر على فضح الأكاذيب حتى لو صدقها كل الناس؟
لقد فضحت أوراق مجلة «الهلال»، التى عمرها ٦٢ عامًا، ما اقترفه أنيس من كذبة كبرى نسج حولها مجدًا أعتقد أنه أبدًا لم يكن يستحقه.