الخميس 21 نوفمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

قضية أدبية عمرها 60 عامًا لم تُحسم بعد

روح أمير الشعراء.. هل كتب أحمد شوقى قصائد بعد وفاته؟

حرف

- مجلة «عالم الروح» تنشر قصائد جديدة لأحمد شوقى بعد وفاته بـ23 عامًا 

- القصائد تلقتها وسيطة روحية لم تحصل إلا على الابتدائية ولا علاقة لها بالشعر والأدب 

- الدكتور رءوف عبيد ينشر القصائد فى كتابه «الإنسان روح لا جسد» ويتبنى قضية إثبات نسبتها لشوقى

- عبيد يصدر «عروس فرعون» فى 1971.. ويعلن أنها مسرحية شعرية كتبها شوقى من العالم الآخر

- عبيد يعرض القصائد على متخصصين فى الشعر.. وتأكيدات بأنها لأمير الشعراء وليست تقليدًا له 

- روح أحمد شوقى تظهر فى جلسات روحية وترد على طه حسين وتنقذ شابًا من الضياع 

- رءوف عبيد يتنبأ فى العام 1966 بانتشار الوسطاء الروحيين فى مصر ويحلم بمعاهد متخصصة 

- السيدة الوسيطة لم يكن لها أى اطلاع على الشوقيات أو فى أى ديوان آخر ولا أى نزعة معينة نحو الشعر أو النثر

- شوقى بعد أن أملى الوسيطة عدة قصائد طلب منها أن تقرأ أحيانًا الشوقيات حتى تحسن الإنصات إليه

- الشعر المنقول عن الروح يفتقد الروح والإحساس والشخصية وما أغرب أن تكون روح أحمد شوقى بلا روح

- على فرض أن أحمد شوقى كان يملى الرسائل على الوسيطة الروحية فلماذا توقف عن الإملاء بعد وفاتها؟

فوجئ القراء فى مصر بعدد أبريل 1955 من مجلة «عالم الروح» ينشر قصيدة لأمير الشعراء أحمد شوقى عنوانها «إلى المشككين». 

اعتقد كثيرون أن هذه ربما تكون قصيدة كتبها أحمد شوقى قبل وفاته فى 14 أكتوبر 1932، لكنهم فوجئوا بالمجلة تعلن عن أن هذه قصيدة جديدة أملتها روح أحمد شوقى على وسيطة روحية، بعد أن نشرت له عددًا من القصائد أكدت أنه كتبها من العالم الآخر. 

الوسيطة الروحية هى حرم الدكتور سلامة روفائيل سعد، ولم تكن أديبة ولا شاعرة، ولم تنظم فى حياتها بيتًا واحدًا من الشعر، ولم يخطر ببالها يومًا أنها ستكتب شعرًا، بل إنها لم تحصل إلا على الشهادة الابتدائية سنة 1914 «النظام الإنجليزى»، ولم تكن لها صلة بالبلاغة العربية، ولا اطلاع لديها على البحور أو العروض، ولا إلمام بقواعد النحو والصرف، وهو ما يستبعد معه أن تفهم معانى ألفاظ العربية الفصحى التى تعودت روح أمير الشعراء أن تستعملها فى أشعارها. 

فى الوقت الذى لم يكن للوسيطة الروحية أى صلة بالشعر والأدب، فإن صلتها كانت وثيقة بالعلاج الروحى، فقد بدأت رحلتها الوساطية كمعالجة روحية حوالى العام ١٩٤٥، وبعد ذلك ببضع سنوات أخذت تظهر عليها موهبة الكتابة عن طريق الجلاء السمعى من روح أمير الشعراء أحمد شوقى، الذى أخذ يملى عليها قصائده الفياضة كلما عنّ له ذلك. 

ويقول خبراء الاتصال الروحى إن أحمد شوقى كان وحده هو الذى يختار الظروف والمناسبات، فلم يكن لعبة فى يدها، بل هى التى كانت عبارة عن جهاز آدمى راقٍ فى يد مجموعة من الأرواح المرشدة الراقية تحرس الجلسة عندما يكون شوقى واقفًا بالقرب منها ويملى الشعر كلمة فكلمة. 

وطبقًا لكتاب «الإنسان روح لا جسد.. بحث فى العلم الروحى الحديث»، الذى أصدره الدكتور رءوف عبيد، الأستاذ بكلية الحقوق بجامعة عين شمس، عن دار الفكر العربى فى العام ١٩٦٦، فإن قصائد أحمد شوقى كانت ترد فى تدفق وغزارة، حتى إن القصيدة الواحدة تتجاوز أحيانًا مائة بيت، وبلغ مجموعها ما يملأ ديوانًا كاملًا. 

تبنى الدكتور رءوف عبيد قضية الوسيطة الروحية، وبدأ فى دعم صدقها، وهو ما يتناسب مع رسالته التى نذر نفسه لها، فقد كان فى طليعة من يؤيدون العلم الروحى والاتصال بالأرواح، رغم أنه كان أستاذًا للقانون الجنائى فى جامعة عين شمس. 

كانت للدكتور عبيد مؤلفات عديدة فى القانون الجنائى، منها «فى التسيير والتخيير بين الفلسفة العامة وفلسفة القانون» و«المشكلات العلمية الهامة فى الإجراءات الجنائية» و«جرائم التزييف والتزوير» و«شرح قانون العقوبات التكميلى» و«أصول علم الإجرام والعقاب»، ولجهوده العلمية أطلقت كلية حقوق عين شمس اسمه على واحدة من أكبر قاعاتها. 

شوقي مع عبدالوهاب

ورغم هذه المؤلفات القانونية المهمة التى تعكس عقلية علمية منظمة، إلا أن الدكتور عبيد كانت له مؤلفات عديدة فى مساحة عالم الأرواح منها «فى الإلهام والاختبار الصوفى» و«فى العودة للتجسد بين الاعتقاد والفلسفة والعلم». 

حاول رءوف عبيد بكل ما توافر له من علم أن يثبت أن القصائد التى تنشرها مجلة «عالم الروح» لشوقى وليست تقليدًا له. 

فالقصائد التى كتبتها الوسيطة الروحية على لسان شوقى كانت تعالج فنونًا من الشعر هى نفس الفنون التى ألفناها من شوقى خلال حياته الأرضية، ولها نفس الطابع والأسلوب واللغة والبناء الفنى، ونفس الشاعرية والطريقة بحيث يكاد القارئ يتمثل شوقى واقفًا يلقى الشعر، ويلتزم أحيانًا نفس البحر والقافية، إذا ما أراد معارضة نفسه بنفسه، كما فعل فى قصيدته «إلى المتشككين» التى عارض بها موقفه القديم من التهكم على القائلين بالاتصال بالأرواح. 

والدليل على أن قصائد شوقى وصلت إلينا من خلال الوسيطة الروحية، كان فى دلالة المناسبات التى وردت فيها هذه القصائد، والتى قد لا تعرف الوسيطة عنها شيئًا فى بعض الأحيان. 

فقد كتب شوقى قصيدة أرسلها إلى شاب يعانى من محنة عاطفية حتى يقوى عزيمته بسبب فشله فى مشروع خطبة آنسة معينة، ما أضعف عزيمته ودفعه إلى إهمال رسالة كان يعدها للحصول على الدكتوراه، فأملى هذه القصيدة التى أحدثت أثرها وأعادت إلى هذا الشاب ثقته بنفسه وأمله المشرق فى الحياة. 

كما أرسل شوقى إلى حفيدته قصيدة بمناسبة زفافها، وتعمد فيها ذكر اسم العروس والعريس، اللذين لا تعرفهما الوسيطة. 

ويملى شوقى قصيدة يرسلها لتُلقى فى مهرجان ذكراه، وقصيدة أخرى لا تقل روعة عنها يرسلها ليعتب بها على ما حدث فى مهرجان ذكراه من نقد لشعره بمعرفة عباس محمود العقاد وآخرين، وهو ما لا تعرفه الوسيطة لأنها لا تتابع الحركة الأدبية فى مصر. 

ويكتب شوقى قصيدة أخرى عن طريق الوسيطة يرسلها ليستقبل بها الشاعر الفقيد الدكتور إبراهيم ناجى بمناسبة انتقاله إلى عالم الروح، والسيدة الوسيطة لا تعرف المرحوم الدكتور ناجى ولا يعنيها أن ترثيه. 

كما يملى شوقى كذلك قصائد سياسية عن مصر والعروبة وملوك العرب، وما يؤكد أنها له أن الوسيطة لا صلة لها بالسياسة من قريب أو بعيد. 

وعندما تطلب جمعية الشعراء قصيدة من شوقى يمليها على الوسيطة، وهى قصيدة من ثمانين بيتًا من فحول الشعر، وهى تفيض روعة وتزخر بتشبيهات تمثل مستوى من الإعجاز الفنى واللغوى الذى كان يميز شعر شوقى، هذا فضلًا عن العتب على أعداء العلم الروحى ومطالبتهم بأن يذللوا أمامه عقباته الجسام بدلًا من المكابرة فى الحق. 

ويكتب شوقى رباعيات عميقة جميلة يعالج بها الحكمة البليغة والفلسفة المنظومة التى لا يرقى إلى مثلها أحد من الشعراء، وكأنه يطرق هذا الباب الصعب من الشعر محاولًا أن يحاكى بها رباعيات الخيام، وربما تتفوق عليها من بعض الوجوه. 

كانت جمعية الشبان المسلمين بالقاهرة قد قررت إقامة حفل مساء السبت ٢٦ أكتوبر ١٩٥٧ تكريمًا لذكرى شوقى، ووجهت الجمعية الدعوة إلى أحمد فهمى أبوالخير، صاحب مجلة «عالم الروح»، ليتحدث فى الحفل عن شوقى فى عالم الروح. 

مساء ٢٣ أكتوبر، أى قبل الحفل بثلاثة أيام، تواصل أبوالخير تليفونيًا ببلدة ميت أبوغالب، حيث تقيم أسرة الدكتور سلامة، وطلب عرض الأمر على شوقى، وفى اليوم السابق على الاحتفال مباشرة جاءت روح أحمد شوقى إلى إحدى الجلسات العلاجية بمنزل الأستاذ أبوالخير بالروضة، ورآه وسطاء الجلاء البصرى وأخبرهم بأنه أملى بالفعل قصيدة على قرينة الدكتور سلامة ببلدة ميت أبوغالب وعنوانها «فى المهرجان» لتُلقى فى حفل جمعية الشبان المسلمين. 

ويحكى أبوالخير ما جرى فى مقال نشره فى مجلة «عالم الروح» عدد ديسمبر ١٩٥٧. 

فقد خرج ظهر يوم الاحتفال من داره لقضاء أمر ما، وقبيل الثانية بعد الظهر وجد الدكتور سلامة والسيدة حرمه يسيران فى الشارع المؤدى إلى منزله، فلما أدركهما قالا له إنهما تلقيا القصيدة بالفعل، ولم يكن أمامهما إلا الحضور شخصيًا لتقديم القصيدة قبيل موعد الحفل، ثم العودة ثانيًا إلى ميت أبوغالب، وفعلًا تسلمها منهما وذهب معهما إلى منزل الدكتور أحمد الشايب لمراجعتها، ولما تم ذلك بلغت الساعة الثالثة ظهرًا تقريبًا، وحضر الحفل فى الميعاد المحدد وتلا على الحاضرين القصيدة التى كان مطلعها: 

أشرى الوفاء يناغى الشاعر الحانى... وانساب ينشد فى العلياء عنوانى 

أوحى بنافلة فى الحى مغنمها... مستملح بشذا التكريم يرعانى 

روحة ونفح ثقات الشعر مفخرتى... ترضى النوال وهذا الحفل أخدانى

ويسأل الدكتور رءوف عبيد: ولنفترض جدلًا كما قد يذهب المعترض الذكى بأن الواقعة التى حدثت فى الجلسة العلاجية هى من خيال وسطاء الجلاء البصرى، وأن وصول القصيدة فى الميعاد المطلوب كان من قبيل المصادفة، فبماذا يعلل المعترض هذا المستوى الراقى من الشعر واتفاقه التام مع شوقى العظيم فى مستواه وطريقته وإعجازه الفنى؟ وهل فى الناطقين بالضاد من يكتب الآن مثل هذا الشعر الذى لا يجود الزمان بمن ينظمه إلا مرة كل بضعة أجيال أو بضعة قرون؟ 

ومن المفارقات التى نجدها فى هذه القصة العجيبة هى حكاية قصيدة شوقى التى أملاها فى العام ١٩٥٥ وكان عنوانها «نعم.. شوقى ليس جبانًا». 

وما حدث أن جريدة الجمهورية كنت قد نشرت فى ٩ سبتمبر ١٩٥٥ كلمة بتوقيع حلمى عبدالجواد السباعى، ورد فيها أن الدكتور طه حسين فى حديث له قال إن شوقى كان يخشى غضب الخديو فكان يتحفظ فى شعره، وأن السباعى ثار على طه حسين عندما سمعه يقول ذلك، فأرسل إلى الدكتور طه مدافعًا عن شوقى. 

والغريب أن روح شوقى علمت بنقد الدكتور طه حسين له، فأملت قصيدة عتاب جاء فيها: 

ضج الإباء وهاج النقد من عجبى... خدن يهاجم ند الفكر والأدب 

والروح أجفل من مدعاة من زعموا... أنى حييت أسير الدر والذهب 

والله أشهد بالمحمود آزرنى... خلقًا ودينًا وصنت العهد فى قلبى 

ألقت نجمى بالمحمود أرفعه... فوق السحائب بالأحساب والنسب

ما الجبن صبغة ما استرضاه لى خلقى... بل هاديات العلا الخالى من الأرب

وتوجه روح شوقى عتابها إلى طه حسين قائلة: 

مهلًا أخا عرب علامة الأدب... دع عنك نقدًا سليب الحق والسبب

والخج بربك للعلياء فى جلد... فالخل يكرم لا يهتاج بالحصب

خلدت شعرى كالأعلام فى قمم... يعلو أبيًا ولا يجتاح بالصخب

ما ضر لو نشر النقاد فى كنفى... إذ كنت حيًا وبالمشكوك فى أدبى. 

شوقي مع سعد زغلول

ويؤكد رءوف عبيد أن هذه القصيدة ليست قيمتها فى جمالها فحسب، بل إنها تظهر الحقيقة التى أجمع عليها بحاث الروح فى كل مكان، وهى أن الأرواح على صلة أوثق بنا مما قد يبدو لنا، وأنها تتابع ما يجرى فى عالمنا باهتمام شديد، خصوصًا فى كل ما يتصل بذكرياتها الأرضية، وبحكم الناس لها أو عليها، ولذا ورد فى القول المأثور «اذكروا محاسن موتاكم». 

ظلت مجلة «عالم الروح» تنشر القصائد التى يمليها شوقى على الوسيطة، حتى توقفت المجلة بسبب وفاة صاحبها أحمد فهمى أبوالخير، لكن شوقى لم يتوقف عن إملاء القصائد التى احتفظت بها الوسيطة. 

ويسأل صاحب كتاب «الإنسان روح لا جسد»: هل للوسيطة الفاضلة أى مصلحة فى أن تتنصل من كتابة هذا الشعر الراقى لو كان لها، ولم يكن من إملاء أحمد شوقى؟ 

ويقول: لو فرضنا جدلًا أنها تخلت عن الأمانة والشرف، وهما صفتان لازمتان لكل وساطة راقية، أما كان اسمها يصبح الآن على كل لسان كشاعرة مبدعة من شعراء هذا الزمان؟ 

بعد أن يستعرض رءوف عبيد قصائد شوقى يسعى بنا إلى تأكيد أن ما جرى كان حقيقيًا تمامًا، فهو ليس ممن يميلون إلى كتابة الشعر، ولكنه كان فى وقت ما يستظهر بعض أجزاء من قصائد لشوقى ولغيره من الشعراء المعروفين، ويحب قراءة الشعر الجيد ويرتاح إليه، وكان يتابع بطبيعة الحال قصائد روح شوقى فى مجلة «عالم الروح»، ويجد فيها نفس الطابع والمميزات المألوفة التى تعودها منه، ولم يلمس أى فارق فى المستوى يدعوه للظن فى أمرها، خصوصًا وهو يجد فى اطلاعه فى المراجع الروحية الأجنبية التى وضعها علماء ثقات تجارب كثيرة مماثلة، عن قطع أدبية وأشعار رائعة واردة عن طريق الوساطة الروحية من أدباء معروفين وشعراء كبار محدثين وقدماء، ممن انتقلوا إلى الجانب الآخر من الحياة. 

ويؤكد عبيد أنه لم يكن يعرف السيدة الوسيطة، ولم يجمعه بها أى مجلس مشترك من قبل، بل كان أول لقاء معها فى أواخر شهر أبريل ١٩٦٥ بمصر الجديدة بمنزل أحد أنجالها، وهو يعمل طبيبًا مثل والده، فالوسيطة أم لأربعة أنجال ناجحين، منهم طبيبان ومهندسان، هذا رغم أنه كان قد استعان بالقصائد التى نشرت لشوقى بلسان الوسيطة فى الطبعة الأولى من كتابه التى صدرت فى العام ١٩٦٤. 

ومن أول لقاء لمس عبيد ما حبا الله به الوسيطة من كريم الشمائل وما أغدق عليها من بساطة النفوس الطيبة الوديعة التى تبعث من الثقة فى نفس المستمع أكثر مما يبعثه أحيانًا الاستماع إلى بعض العلماء والمتعلمين أو الأدباء المتأدبين. 

ويشير عبيد إلى أن السيدة الوسيطة لم تقرأ شعرًا منذ مغادرتها مدرستها الابتدائية سنة ١٩١٤، ولم يكن لها أى اطلاع على الشوقيات، أو فى أى ديوان آخر ولا أى نزعة معينة نحو الشعر أو النثر، ولكن بعد أن أخذت موهبتها الوساطية فى النمو ولاحظت أنها تستمع إلى روح تناجيها بشعر منظوم، وتطلب منها أن تحاول أن تكتبه، وعرفت أن هذه هى روح شاعرنا الخالد أحمد شوقى، وبعد أن أملاها عدة قصائد، طلب منها أن تقرأ أحيانًا الشوقيات، حتى تحسن الإنصات إليه وتتحاشى بعض أخطاء الإملاء. 

قرأت الوسيطة الشوقيات قليلًا استجابة لطلب أمير الشعراء، لكنها ظلت مع ذلك عرضة للوقوع فى أخطاء قليلة إملائية أو سماعية يفطن القارئ بسهولة إلى حقيقة مصدرها، وهو عدم الإلمام الكافى من الوسيطة باللغة الفصحى الصعبة التى تستخدمها الروح أحيانًا على النحو الذى يتضح من قراءة بعض هذه القصائد. 

ويكشف عبيد سببًا آخر لأخطاء الوسيطة، فهى لا تستمع بأذنيها إلى ما قد يلقى إليها عبر الأثير، بل تسمع عن طريق حاسة التخاطر، أى ما يملى عليها عن طريق حاسة السمع الروحية وموضعها الجسد الأثيرى. 

وهناك سبب ثالث لهذه الأخطاء المحتملة، وهى أن الروح أحيانًا ترتجل الشعر، وذلك ما يؤكده وسطاء الجلاء البصرى الذين يرون روح شوقى واقفة بجوار الوسيطة تملى عليها ما قد يرتجل من شعر فيما يبدو لهم، وكثيرًا ما تلجأ إلى التغيير والتبديل فى العبارات والتراكيب على نفس النحو الذى عرف عن شوقى منذ حياته الأرضية، إلى حد أنه كان أحيانًا عند إعادة طبع أجزاء من الشوقيات التى طبعت فى حياته يغير فى بعض التراكيب والعبارات، ولو بعد نشرها، فما بالنا به قبل هذا النشر وما يتطلبه بطبيعة الحال من تصويب ومن مراجعة دقيقة؟ 

كان رءوف عبيد عند زيارته الأولى أسرة السيدة الوسيطة يعمل فى إعداد الطبعة الثانية من كتابه «الإنسان روح لا جسد»- التى صدرت فى العام ١٩٦٦- فطلب منها أن تعرض على روح أمير الشعراء أن تبعث بتصدير شعرى لهذه الطبعة، وانتهت الزيارة على وعد منها بأن تعرض على الروح الكريمة هذه الرغبة إن شاءت استجابت إليها مشكورة، وعلى وعد بزيارة ثانية. 

فى اليوم التالى مباشرة تمت زيارة أخرى، وقد اصطحب فيها عبيد صديقًا عزيزًا عليه يشغل منصبًا كبيرًا بوزارة الاقتصاد، وقد حباه الله بموهبتى الجلاء البصرى والسمعى معًا، ولا تربطه أى صلة بأسرة الدكتور سلامة، ولم يكن يعلم شيئًا عن موضوع قصيدة التصدير التى طلبها من روح شوقى. 

كانت الزيارة ليلًا، وبعد التعارف والحديث لفترة من الوقت، طلب الصديق الزائر أن يخفف نوعًا ضوء غرفة الاستقبال، وعقدت جلسة روحية حضرت فيها عدة أرواح، ثم قال بعد برهة إنه يشاهد روح أمير الشعراء وهى تدعو قرينة الدكتور لأن تمسك قلمًا وورقة، وتوجه إلى عبيد حديثًا قائلًا: «إذا كان قصد المرء صادقًا صدقت نبوءته وأحلامه، ومن كان ذا فهم وهى، فذلك علم وإعلامه»، وكان الوسيط يلقى الكلمات ببطء وبصعوبة، ولم يفهم فى ذلك الوقت معنى هذه العبارة الغامضة المقتضبة، لكن فهمتها السيدة قرينة الدكتور سلامة، على أنها ربما تتضمن وعدًا لبقًا بإرسال التصدير المطلوب دون ارتباط صريح ولا تحديد لموعد ما. 

شوقي مع حافظ إبراهيم

عاد الدكتور بعد بضعة أيام إلى قرية ميت أبوغالب حيث إقامتهم الدائمة، وبعد بضعة أسابيع من هذا اللقاء تلقى عبيد من الدكتور سلامة عن طريق البريد القصيدة الأولى التى صدر بها الطبعة الثانية من كتابه، كما بعث شوقى بقصيدة ثانية للمؤازرة والتشجيع، وبعد حوالى شهرين آخرين، وكان الرأى قد استقر على إصدار الطبعة الثانية فى جزأين بعد جزء واحد بالنظر إلى الزيادات العديدة فيها، تفضل شوقى فبعث بقصيدة أخرى طويلة أعطاها عنوان «تحية وتأييد لكتاب (الإنسان روح لا جسد)». 

فى ١٢ أغسطس كان رءوف عبيد فى زيارة إلى صديقه الموظف الكبير بوزارة الاقتصاد بمنزله فى مصر الجديدة، وأثناء الزيارة رأى عقد جلسة روحية حضرت فيها عدة أرواح، من بينها روح أمير الشعراء، وبعد أن تحدثوا فى شأن قصائده التى أملاها بقرية ميت أبوغالب على السيدة قرينة الدكتور سلامة، انتهى الحديث بوعد منه بأنه ربما يرسل قصيدة جديدة من نفس البحر الذى استخدمه فى القصيدة السابقة، وهو البحر الكامل، واتفقوا على موضوعها، وهو فلسفة الوجود وبعض الحكم والمبادئ الخلقية بوجه عام. 

وفى أول أكتوبر ١٩٦٥ تلقى رءوف عبيد قصيدة من روح أحمد شوقى عنوانها «إنى أمد من الخلود لكم يدى»، متضمنة الإشارة إلى الوعد السابق وإلى لزوم الوفاء بالعهد، كما تضمنت نفس الاتجاهات التى جرى الحديث عنها فى القاهرة فى شهر أغسطس. 

أرسلت روح أحمد شوقى أربع قصائد لرءوف عبيد فيها مؤازرة كريمة لجهده المتواضع لخدمة المعرفة الروحية، وقد غمره فى بعض أبياتها بثناء كبير. 

وحتى يطمئن رءوف عبيد إلى مستوى الشعر الذى تلقاه من أحمد شوقى، عرض القصائد على شاعر الشعراء الأستاذ الكبير محمد عزيز أباظة، عضو المجمع اللغوى وعضو المجلس الأعلى لرعاية الفنون والآداب والعلوم الاجتماعية، ليأخذ رأيه فيها، فأقر بأن فيها شاعرية شوقى من ناحية تراكيبها وأفكارها ومستواها فى اللغة والشعر، وأن بعضها يعادل فى عمقه الجيد فى الشوقيات، وبعضها الآخر يعادل المتوسط فى هذه الشوقيات، ولاحظ الأستاذ العلامة بحق أن هذا المستوى لا يملك أى شاعر معاصر أن يرقى إليه أو أن يحاول تقليد شوقى فيه، لأن عبقرية شوقى تستعصى على التقليد، حتى إن صح نظريًا إمكان تقليد غيره من شعراء الصف الثانى أو الثالث. 

ويعلّق عبيد على ما قاله محمد عزيز أباطة: وقيمة هذه الشهادة من عالم عظيم ومن شاعر العصر لا يقدرها حق قدرها إلا من يعرف قوة الأواصر التى جمعته بشوقى عندما كان لا يزال بيننا، والتى لا تقل عن صلة الابن الوفى بالأب العطوف، التى وصلت بينه وبين شعره ونثره وفلسفته بعروة وثقى لا تنفصم. 

ويضيف: ولا يقدر هذه الشهادة الضخمة أيضًا إلا من خبر الأستاذ الكبير محمد عزيز أباظة عن قرب، وعرف كيف لا يمكن أن يقدم مثل هذه الشهادة فى يسر ولا فى سهولة لما عرف عنه من تأنٍ شديد عند البت فى أى قضية، فما بالك بأخطر قضية علمية فى مقامها الأول والأخير، هذا إلى ما عرف عنه من وفاء شديد لذكرى أبيه فى الروح شوقى الخالد الذى يعتبره قد نافس المتنبى فى الجيد من شوقياته. 

وقد شهد أيضًا بأن هذا الشعر يحوى خصائص واضحة لشعر شوقى، الأستاذ الدكتور أحمد الشايب، عميد دار العلوم سابقًا ووكيل كلية الآداب وأستاذ الأدب العربى. 

وقدم رأيًا صريحًا حاسمًا أيضًا فى شأن هذا الشعر عالم معروف فى الأدب العربى، وفى الأوزان والقوافى، وهو الأستاذ محمد عبدالمنعم خفاجى، أستاذ الأدب والنقد بكلية الدراسات العربية بالجامعة الأزهرية. 

أرسل خفاجى خطابًا فى ٧ أغسطس سنة ١٩٦٥ إلى رءوف عبيد يقول فيه: قرأت بإمعان القصائد التى وردت منسوبة إلى روح شوقى العظيم فى كتاب «الإنسان روح لا جسد»، ولاحظت أن فى هذه القصائد العديدة روح شوقى وشاعريته وموسيقاه وأوزانه ومعانيه وتفكيره وقوافيه كذلك، والعجيب أن القاموس اللغوى لهذه القصائد هو قاموس شوقى، والحقيقة أن كل الظروف والعوامل تنفى شبهة التقليد، فضلًا عن فقدان الشاعر الذى يستطيع تقليد شوقى فى بنائه الفنى لقصيدته فى الوقت الراهن، وهذا موضع عجب كبير.

وعندما ناقش الناقد الشهير عبدالمنعم شميس هذه القضية فى كتابه «شخصيات مصرية» أشار إلى أن الشاعر صالح جودت كتب مجموعة من المقالات أكد فيها أن القصائد لشوقى دون غيره، وكان فيما كتبه مساندة واضحة لموقف الدكتور عبيد. 

وينتقل رءوف عبيد ممن شهدوا لشوقى ولقصائده التى كتبها بعد وفاته، إلى مَن يعترضون على ذلك، وقد كان يعلم أن هناك كثيرين سيعترضون. 

يقول: «ينبغى أن تعتبر زائدة كل شهادة فى أى اتجاه آخر قد تصدر عن متشاعر أو متأدب، ممن تعود بعضهم أن يُلقى القول جزافًا قبل أن يحسن حتى مجرد قراءة هذه الأشعار، أو يتفهم ما فيها من آيات البيان العميق والإعجاز الفنى واللغوى، التى تميز أشعار شاعر التاريخ أحمد شوقى». 

ويتابع: «وأعتقد أن أى إنسان محايد يبغى الوصول إلى وجه الحق يمكنه أن يلمس دون كبير عناء ما فى هذه الشهادات من دقة وأمانة، لأن التشابه بين الشعرين صارخ لا يحتاج إلى كبير جهد فى التعرف عليه، ويظهر جليًا كلما ازداد القارئ اطلاعًا على القصائد العصماء من الشعر». 

ويضيف عبيد: «أما المكابر فيأبى تمامًا أن يسلم- وله عذره- بأن هذا شعر شوقى أو بالأقل يحوى نفس خصائصه أو يرقى إلى نفس مستواه وطابعه، لأن التسليم بذلك معناه التسليم بصحة الدعوى الروحية فى طولها وعرضها معًا، على خطورة هذه الدعوى إلى المدى الذى يتنافر حتمًا مع إمكان التسليم بها فى يسر وبساطة تأباهما النفس الإنسانية، وما طبعت عليه من مقاومة تامة لكل معرفة جديدة على ما بيناه بأسانيده».

ولأن رءوف عبيد يعرف أن المكابر الرافض نسبة هذه القصائد إلى شوقى لن يقتنع أبدًا، فإنه يتحدث عنه، بأنه هيهات أن يقتنع بهذه الحقيقة البسيطة الواضحة، وهى أن روح شوقى تملى على الوسيطة الفاضلة هذا الشعر الرائع لأسباب قد لا يعرفها هو نفسه، وإن كان يعرفها فلن يصرح بها، لأنها لن تخرج فى النهاية عن التمسك بشهادة الحواس، أو بالأقل عن التمسك بما درج عليه من آراء ثابتة فى أمور شتى يتصور فيها العصمة التى تعلو على مستوى المناقشة المنطقية الهادئة. 

وبسخرية ظاهرة يتحدث عبيد عن المكابر بالإشارة إليه على أنه غائب، فيقول: «إن صاحبنا هذا أيسر له أن يتخيل عدة أمور كثيرة من أن يسلم مقتنعًا بصحة هذه الحقيقة الروحية الواضحة، ومنها: 

أولًا: من المتصور عنده مثلًا أن تكون الوسيطة لحكمة غير مفهومة قد اتجهت إلى تقليد شعر شوقى تقليدًا محكمًا. 

ثانيًا: بصورة خفية لم تكتشف بعد أن الوسيطة قد ألمت بالعَروض والأوزان العربية؛ رغم صعوبتها البالغة، وبصورة ما قد أتقنتها إتقانًا عجيبًا. 

ثالثًا: وبصورة ما قد أحاطت بطريقة شوقى وشاعريته، واستظهرت قاموسه اللغوى الزاخر بالكلمات الصعبة، الغنى غناء مفرطًا بالألفاظ الفصحى، العامر بالمجاهل التى يتوه فيها اللغويون الكبار. 

رابعًا: وبصورة ما قد حازت، وهى حائزة الابتدائية، القدرة على الحكمة الرائعة والفلسفة العميقة والبلاغة النادرة. 

خامسًا: وبصورة ما قد اكتسبت خيالًا خصبًا متدفقًا، فلم يعد لها فحسب خيال الشاعرة المقتدرة، بل أيضًا خيال الشاعرة التى يلزمها أن تتخيل ما كان يمكنه أن يتخيله أمير الشعراء فى مثل هذا الموقف أو ذاك، وما كان يمكن أن تجود به قريحته الوقادة من خواطر وأفكار، وما يتصور أن يصدر عنه من انفعالات وأشعار، بعد أن انتقل إلى عالم الغيب، واطلع على ما فيه من خفايا وأسرار. 

سادسًا: وبصورة ما مجهولة أيضًا قد تتبعت أخبار هذا الشاعر المنتقل، كيما تحيى هذا الابن أو هذه الحفيدة، أو هذا الصديق، كل فى مناسبته وباسمه الخاص، بنفس أفكاره ومشاعره وعواطفه المتدفقة المفرطة فى رقتها وعذوبتها، وكيما ترد على هذا الناقد أو ذاك بالأسلوب الذى يناسب كلًا منها، إذ لكل مقام مقال. 

سابعًا: وبصورة ما خفية أيضًا قد تغلغلت فى ميوله وذكرياته ومواجيده وانفعالاته نحو كرمة ابن هانئ، ونحو ماضيه، ونحو فنون الشعر التى كان يحبها ويجيدها، وقوافيه وحواراته التى كان يقرها، والتى كان لا يقرها. 

ثامنًا: وبصورة ما تشربت بنفس عواطفه المتدفقة نحو بلاده ونيله وعروبته وعقيدته، ونحو الفراعنة الذين كان يحب أن يناجيهم كثيرًا فى أشعاره، ويحيا معهم روايات كاملة مثل «قمبيز ومصرع كليوباترا» وغيرهما، وهو لا يزال يفعله حتى الآن. 

تاسعًا: وفعلت كل ذلك الخداع الهائل سعيدة هانئة، وفى ثبات وإصرار عجيبين، فلم يعصمها عاصم من خلق ولا من فضيلة ولا من إيمان راسخ عندها بالخلود، وبأن كل أعمالنا مسطورة فى سجل أمين ومعلنة يومًا للعالمين». 

ويواصل عبيد سخريته: «إن كل ذلك فى نظر صاحبنا المكابر الذكى متصور ومعقول، أما أن تكون وسيطة لروح شوقى فأمر فى نظره غير متصور ولا معقول، حتى ولو كانت أمثال هذه الوساطة قد تحققت فى الخارج، وصمدت على أعتى صور التحقيق والبحث العلمى الصارم لمدى قرن وربع من الزمان فى جامعات ومعاهد وأكاديميات علمية جادة تمامًا، أى أن صاحبنا الذكى هذا يهرب من الاقتناع بأمر واحد غير متصور فى نظره ولا معقول عن طريق محاولة إقناع نفسه وغيره بعشرات من أمور كلها عبارة عن استحالات تامة، حسب أى فهم لحقائق الأمور، فهو غير مقتنع بصحة أمر واحد يحتمل، حتى قبل بحث الصحة والبطلان المحققة فى التخريج والاستنتاج والاستحالات المؤكدة بحسب حقائق الحياة وإمكانات النفس الإنسانية ونوازعها المسلم بها بعد البحث والتحقيق».

ويمتدح رءوف عبيد الوسيطة الروحية، فلم يسجل التاريخ حالة واحدة من قبل أمكن فيها لأى إنسان أن يستحوذ على كل هذه العبقريات مجتمعة، وأن يصبح مقلدًا موهوبًا فيما لا يقبل التقليد من مشاعر وانفعالات، ومن سكنات وخلجات، ومن عواطف وذكريات، ومن مواهب وملكات، وما أكثر ما يحتاجه شوقى من مواهب وملكات، فتقليد سطور قليلة لكاتب معين مشكلة كبيرة، فما بالك إذا كان التقليد شعرًا لا نثرًا، وما بالك إذا كان التقليد يصل إلى قصائد كاملة يبلغ عدد أبيات بعضها أكثر من مائة بيت تفيض روعة وإبداعًا، ووصل فى إحداها إلى مائة وستين بيتًا متدفقة فنًا وإعجازًا، وما بالك إذا كان التقليد لشاعر العروبة الذى يعتبره البعض أعظم شعرائها على الإطلاق، فهو وإن لم يكن تفوق على المتنبى فهو معه على قدم المساواة، وكل ذلك من سيدة لم يتجاوز حظها من الثقافة الشهادة الابتدائية من نصف قرن. 

كان إثبات رءوف عبيد أن القصائد كتبتها روح شوقى قضيته الكبرى. 

يقول: «لندع جانبًا حقائق الحياة وطبائع الأمور، ولنتجاهل مؤقتًا ما يمكن للنفس أن تقدر عليه من أمور وما لا تقدر، ولنتساءل فى هدوء: هذه سيدة فاضلة لا تبغى مالًا، فقد أعطاها الله منه الشىء الكثير، ولا تبغى شهرة لأنها تهرب بطبيعتها من مجتمعات الأدعياء والفضوليين وما أكثرهم، كيما تعيش هادئة فى ضيعتها بقرية ميت أبوغالب، تعالج المعدم والفقير وتحنو على الكبير والصغير، إذًا ما الذى يدعوها لكل هذا العناء؟ هل هذا التحامل المغرض الذى تتعرض له أحيانًا من تافه وجهول؟ أو من متطفل دعى على مائدة العلم والأدب؟ إنها لو نسبت كذبًا هذا الشعر لنفسها لما فتح أحد فمه بكلمة نقد ولا لوم، ولكان لها بين فطاحل الشعراء شأن ومكان. 

ما حدث أن الوسيطة الروحية رفضت ذلك لأنها ذات ضمير يقظ، ولأنها تشعر أنها بما تتحمله من عناء الوساطة العقلية الراقية وما أشده من عناء، تخدم حقيقة علمية خطيرة، خدمة جليلة ثوابها عند الله تعالى وحده، لا عند أحد من هؤلاء الأدعياء الجهلاء، وكأن لسان حالها يقول: حسبى الله ونعم الوكيل، أما هؤلاء فلا اعتبار لموقفهم ولا تقدير فى مقام رسالة الروح وطهارة القلب والضمير. 

ويختم رءوف عبيد كلامه، الذى يؤكد به نسبة القصائد لشوقى بقوله: «موضوع الروح بما يرتبط به من أمور، وما يتفرع عنه من مباحث شتى، وما تكشف عنه من حقائق فلسفية ورياضية ضخمة يعد وحدة مترابطة، أكثر عمقًا بل أكثر ارتفاعًا واتساعًا من قدرة بعض العقول على الفهم والاستيعاب، وعلى هضم الحقائق وتمثيلها، وهذا الاعتبار وحده كثيرًا ما يخلق من أصحاب هذه العقول أعداء ألداء للروحية، لأن الناس أعداء ما جهلوا». 

وفى النهاية يضع عبيد بين أيدينا ما يعتقده، ولاحظ أنه كان يكتب هذا الكلام فى العام ١٩٦٦، حيث يقول: «أصبح الاتصال بالأرواح أمرًا مألوفًا من أمور الحياة العادية عند الكثيرين، يجرى علنًا فى كل مكان وعلى كل صورة، دون أن يثير أدنى ضجة ولا أى اعتراض من أحد، وسيجىء هذا اليوم قريبًا فى بلادنا، بل أقرب مما يتصور الكثيرون، سواء أَرَضِى المتزمتون أم لم يرضوا، لأن السليقة الشرقية أقرب من غيرها إلى الاعتقاد بالروح، وأرغب فى الاتصال بعالم الروح، وعندئذ سيكثر فى بلادنا الوسطاء الأقوياء والعلماء الجادون الباحثون، وستتعدد المعاهد المتخصصة فى تحقيق الظواهر الوساطية للتثبت منها، والخروج من ثبوتها بأخطر الدلالات التى ترتبط ارتباطًا مباشرًا بأعماق كل إنسان فى حاضره وفى مستقبله القريب والبعيد، بل ترتبط فى الصميم بمعارف الإنسان الأخرى وبديهياتها من فيزياء وفسيولوجيا وفلسفة واعتقاد.

من بين سطور رءوف عبيد نفهم أنه كان هناك هجوم كبير على ما يقوله، وانتقاد عنيف لما يدعيه، بل كان هناك ما هو أكثر. 

فقد خرج الشاعر محمد مصطفى حمام ليؤكد أنه من كتب القصائد المنسوبة لأحمد شوقى، وأنه من أشاع أن وسيطة روحية تلقتها من أمير الشعراء. 

محمد مصطفى حمام، الذى كان يلقب بأمير الشعراء الصعاليك توفى فى العام ١٩٦٤، أى فى العام الذى صدرت فيه الطبعة الأولى من كتاب رءوف عبيد، معنى ذلك أنه ظل لسنوات يشيع أنه صاحب القصائد التى بدأت تنشر فى منتصف الخمسينيات. 

القصة يكشفها عبدالمنعم شميس فى كتابه «شخصيات مصرية». 

يقول شميس عن حمام: «كان يسمعك شعرًا ويوهمك أنه للمتنبى أو شوقى فتكاد تصدقه، وكان يتلو القرآن بصوت عذب فيخيل إليك أنك تسمع الشيخ محمد رفعت أو الشيخ على محمود، وكان يخطب وهو جالس على الكرسى وسط أصحابه، فترهف الأسماع ويقولون: هذا هو صوت مصطفى النحاس، وهذه طريقته فى نبرات الصوت وانفعال أوتار الأعصاب».

ويشير شميس إلى أن مصطفى حمام ألف قصائد لأمير الشعراء أحمد شوقى، وزعم أن شوقى أملاها على بعض النساء والرجال من العالم الآخر، وعندما حضر أحد الذين يشتغلون بعالم الأرواح روح شوقى فى غرفة مظلمة، أخذ هذه القصائد ونشرها فى مجلة «عالم الروح» التى كان يصدرها، وأحدثت ضجة فى الوسط الأدبى، وكان مصطفى حمام يضحك ويقول ساخرًا: «لو كان شوقى حيًا يُرزق الآن لكسبت منه ألوف الجنيهات». 

لم يلتفت رءوف عبيد لما ردده محمد مصطفى حمام، بل سخر منه واعتبره دعيًا ودخيلًا على عالم الأدب، رغم أن هناك اعترافًا واضحًا بشاعريته. 

طه حسين 

يوضح عبدالمنعم شميس أن هذا كان مسلك مصطفى حمام، الذى لم يكن نديمًا للباشوات فى مقهى «بار اللواء» أو مقهى «الأنجلو» فحسب، ولكنه كان يحلو له منادمة البؤساء الضائعين من المشتغلين بالصحافة فى تلك الأيام، وكان معظمهم من مجهولى الأسماء، الذين يلتقطون أرزاقهم بالمشقة والعناء، وحين شعشع الغرور فى رءوسهم يزعمون مزاعم من أعاجيب الأوهام، فيقول أحدهم إنه أصلح أسلوب طه حسين فى كتاب «على هامش السيرة»، عندما راجعه وصححه، ويزعم آخر أنه هو الذى ألف كتاب «حياة محمد» للدكتور محمد حسين هيكل، ويدعى ثالث أنه فرغ منذ ساعة من كتابة مجلة «الصباح» كلها من الجلدة للجلدة، وكان محمد مصطفى حمام هو السيد فى هذه الأوهام، فقد كان الصعاليك المجهولون يسمعونه كل ليلة وهو يقلد شعر شوقى وحافظ، أو أسلوب طه حسين والعقاد، فأوهمهم الغرور المشعشع بما يقولون، كان هذا الأديب موهبة خارقة فى تقليد الأصوات والأشعار وأساليب الأدباء، فضاعت مواهبه الحقيقية وتبددت على مناضد المقاهى التى كان يجتمع حولها هؤلاء الصعاليك؛ ليطربهم ملك الصعاليك محمد مصطفى حمام. 

ما ادعاه محمد مصطفى حمام لم يصمد إذن بسبب أدائه فى الوسط الأدبى والثقافى بشكل عام، فقد تعود منه الجميع أنه كان يقول الشىء ثم يكذبه بعد ذلك، وقد ردد كلامًا كثيرًا على معاصريه وصدقه الناس، فإذا به بعد ذلك يعود إلى تكذيب نفسه، مدعيًا أنه يفعل ذلك من باب الدعابة، وهو ما تكرر فيما يخص قصائد أحمد شوفى، فقد ادعى فى البداية أنها لشوقى، وأنها أمليت عبر وسيطة روحية، ثم عاد ليقول إنه من كتبها، ولذلك لم يصدقه أحد. 

الغريب فى الأمر أن الوسيطة الروحية التى قد يكون لها اتصال بمحمد مصطفى حمام لم تؤكد ما قاله ولم تنفه، لكن بالنسبة لى هذه الصيغة أقرب إلى التصديق. 

لأنه على فرض أن أحمد شوقى كان يملى الرسائل على الوسيطة الروحية، فلماذا توقف عن الإملاء بعد وفاتها، أم أنه كان متعاقدًا مع صاحب مجلة «عالم الروح»، ولما أغلقت أبوابها توقف عن الإملاء، فلو أن شوقى فعل ذلك مع وسيطة واحدة، لفعله مع غيرها من الوسطاء. 

عباس العقاد

لم يتوقف الدكتور رءوف عبيد عند هذا الحد، فقد فعل ما هو أكثر من ذلك. 

ففى العام ١٩٧١ أصدر كتابًا عنوانه «عروس فرعون»، وأعلن عن أنه يضم مسرحية جديدة أملاها أحمد شوقى بعد وفاته على الوسيطة الروحية نفسها. 

على غلاف الرواية كتب عبيد الآتى: «من إملاء روح أمير الشعراء أحمد شوقى على وسيطة الإلهام السيدة حرم الدكتور سلامة سعد.. عروس فرعون.. وشوقيات جديدة من عالم الغيب عن الأحداث الجارية وغيرها مع رأى أعلام الشعر والنثر والأدب.. عرض وتحليل بقلم الدكتور رءوف عبيد». 

وفى تقديمه لمسرحية شوقى الآتية من عالم الغيب، يقول عبيد: «إذا كنت أقدم إلى القارئ العزيز رواية (عروس فرعون) ومعها هذه الباقة من الشعر والنثر التى لم تنشر من قبل، وكلها منسوبة إلى روح شوقى أمير الشعر والشعراء، فإنما أقدم إليه فى الوقت نفسه أخطر حقيقة كونية أجمعت عليها الفلسفات العريقة والحديثة فى العالم، وهى حقيقة خلود الروح حاملة العقل والشخصية». 

ويتساءل رءوف عبيد: مَن يصدق أن أمير الشعراء الذى ودعناه إلى مثواه الأخير فى أكتوبر سنة ١٩٣٢ لا يزال حيًا؟، بل إنه الآن الأكثر حيوية مما كان وأوفر رزقًا وسعادة وأقوى رغبة فى الشعر وفى النثر، وفى أن يبعث بأشعاره ومشاعره وآرائه ونصائحه وحكمه وأخلاقياته ورواياته ومآثره، مما كان فى غابر الأيام، قبل أن يتحرر من ردائه الجسدى البالى الذى داراه التراب معنا غير آسف عليه. 

محفوظ عبدالرحمن

وكما فعل رءوف عبيد عندما نشر قصائد شوقى فى كتابه «الإنسان روح لا جسد»، فاستطلع آراء نقاد وشعراء أقروا بأن القصائد لشوقى، تحدث إلى ١٧ متخصصًا فى الأدب، فأكدوا أيضًا أن المسرحية والأشعار التى عرضها عليهم قريبة بالفعل من أسلوب شوقى الذى من الصعب تقليده. 

بحثت عن أثر لمسرحية «عروس فرعون» فلم أجد إلا مقالًا كتبه الكاتب والأديب الكبير محفوط عبدالرحمن فى جريدة البيان الإماراتية فى العام ١٩٩٩ تحديدًا فى ١٩ مايو. 

يشير محفوظ طبقًا لما جمعه من معلومات أن شوقى أملى القصيدة الروحية على حرم الدكتور سلامة سعد فى العام ١٩٦٥، وقبل أن يقول رأيه فى المسرحية ظل قليلًا مع ما فعله الدكتور رءوف عبيد. 

رءووف عبيد

يقول محفوظ: «يبدو أن الدكتور عبيد عرض شعر شوقى بعد موته ومعه (عروس فرعون) على عدد من الثقات ليقولوا رأيهم فيه». 

ويستعرض محفوظ ما قاله عدد من المتخصصين، ويبدو أن عبيد أخفى ما قاله فلم يلتفت إليه. 

الدكتور إبراهيم أنيس، الذى كان عميدًا لكلية دار العلوم، وكان متخصصًا فى الصوتيات واللغويات، قال إنه لا يجد فى شعر ما بعد الموت ما يؤكد أنه من شعر شوقى، وتهرب من الحكم وقال إنه يترك الأمر للمختصين. 

الدكتور أحمد الحوفى، الذى كان أستاذ الأدب العربى فى دار العلوم، حصر أوجه الشبه بين شعر شوقى فى حياته وبين شعره فى مماته، وقال إن هناك تشابهًا كبيرًا، ثم قال: «أسجل فى صراحة وجلاء أن وراء هذا سرًا لا أعلمه».

الشاعر الصوفى الوكيل أكد التشابه، لكنه أشار إلى عيوب فى النظم ما كان يقع فيها شوقى فى حياته، وألمح إلى أن موسيقى الشعر بعد الرحيل أقل مستوى من موسيقى الشعر قبل الرحيل. 

ويصل محفوظ عبدالرحمن إلى شهادة الدكتور شوقى ضيف التى يعتبرها كانت دافعة للاهتمام بـ«عروس فرعون»، فقد كان الدكتور شوقى رئيس المجمع اللغوى لسنوات طويلة، وأستاذًا للأدب العربى فى كلية الآداب، وكان من المهتمين بشعر شوقى، وله فيه كتابات عديدة، وعليه فهو خبير لا يختلف عليه أحد. 

يقول ضيف: «أعجبت بما نظمت السيدة الجليلة حرم الدكتور سلامة سعد من أشعار تمثلت فيها روح شوقى الشاعر الكبير، وهى لا ريب تمثل شعورًا متدفقًا بأن روح شوقى تتراءى لها وتملى عليها، وفى رأيى أن السيدة ذات بصيرة شعرية قوية أتاحت لها أن تتمثل فى قوة روح شوقى تمثلًا حيًا نادرًا». 

أمير الشعراء أحمد شوقى مع ابنائه فى حديقة قصره بالمطرية

ويلاحظ شوقى ضيف ملاحظتين مهمتين على ما قرأ من أشعار شوقى من عالم الروح، وهما: الأولى: إن طائفة من الأبيات تهبط عن مستوى شوقى لما يجرى فيها من بعض هنات عروضية، وضعف فى الصياغة والنسيج اللفظى. 

الثانية: كيف تكون لشوقى اهتمامات بالموضوعات الآنية وهو فى العالم الآخر، فيكتب قصيدة لحفيدته فى زفافها، وقصيدة أخرى بمناسبة الاحتفال بذكراه فى سنة ١٩٥٨. 

ويختم محفوظ عبدالرحمن مقاله برأيه الشخصى فى هذه القضية. 

يقول: «أنا أؤمن ببعض المسلمات، أولاها أننا نجهل الكثير، وأن فى الدنيا ظواهر من الصعب تفسيرها، وأيضًا أؤمن بأن الروح استعصت على العلم، لذلك يحاول وصفها وشرحها، لكنه لا يستطيع تفسيرها أو مضاهاتها، وأعتقد أن البعض يحتاجون إلى المباهاة بأنهم يعرفون ما لا يصدقه الآخرون، ولربما وصل الأمر إلى إحساسهم بأنهم أصحاب رسالة». 

ويضيف عبدالرحمن: «وكل الثقات الذين قرأوا شعر شوقى بعد موته، وقالوا إن هناك تشابهًا كبيرًا هم على حق، فقد تمثل القائل أو القائلة شعر شوقى وقلده، وكان الكثيرون يفعلون ذلك، ومنهم الشاعر محمد مصطفى حمام، الذى قال عنه رءوف عبيد إنه قلد جميع الشعراء إلا أحمد شوقى، ولا أدرى من أين أتى بهذا الاستثناء». 

ويفجر محفوظ عبدالرحمن مفاجأة عندما يقول: «لقد حضرت جلسات حمام فى صباى، وكان يروى قصائد ينسبها إلى شوقى، وخدع بها الجميع، وكان المقلد أو المقلدة ليس فى مستوى شوقى، فقد وقع فى أخطاء عديدة بررها أحد النقاد بأنها أخطاء النقل عن الروح». 

وهناك ما يجعل محفوظ لا يصدق ما ذهب إليه رءوف عبيد بأن الشعر لشوقى. 

يقول: «لو كان أحمد شوقى فى حياته قدم هذا الشعر للناس لما اعتبروه أعظم شعراء العصر، ولما بايعوه بإمارة الشعر فى العام ١٩٢٧، فالشعر المنقول عن الروح يفتقد الروح والإحساس والشخصية، وما أغرب أن تكون روح أحمد شوقى بلا روح». 

الغريب أن الدكتور رءوف عبيد ظل حتى وفاته فى العام ١٩٨٩ يرفض بشكل قاطع أن يقتنع بأنه هو وصاحب مجلة «عالم الروح» تعرضا لعملية نصب باسم أحمد شوقى، بل ظل يردد أن الأشعار كانت لأمير الشعراء، وهو أمر أعتقد أنه محسوم تمامًا، فلو أن شوقى فعلها مرة، لكان فعلها أكثر من مرة.. لكنه لم يفعل.