عصر الانفلات الكبير.. كيف وصلنا إلى مستنقع وسام شعيب؟
- خرجت علينا لتفضح مرضاها وترفع عنهم ستر الله وتحكى عما رأته فى عيادتها أو المستشفيات التى تعمل معها
- على شبكات التواصل الاجتماعى حالة هستيرية فى تناول كل شىء يخص ما فعلته وسام وما قالته
وأنت تقرأ ما أكتبه الآن، ستكون الضجة التى أثارتها الطبيبة وسام شعيب هدأت أو ربما تلاشت تمامًا من على صفحات التواصل الاجتماعى، ليبدأ الجمهور العريض مجهول الملامح والهويات فى مضغ قصة جديدة تمهيدًا ليتقيأها.
هذه حالنا الآن... نمضغ ونتقيأ طوال الوقت.
الطبيبة التى خرجت علينا لتفضح مرضاها وترفع عنهم ستر الله، وتحكى عما رأته فى عيادتها أو المستشفيات التى تعمل معها، لم تفعل شيئًا جديدًا.
كثيرون من الأطباء يفعلون ذلك، لكنهم لا يخرجون على الناس فى بث مباشر عبر الـ«فيسبوك» أو الـ«تيك توك»، فلا يتعرضون للحملة الشرسة التى تستحقها بجدارة الطبيبة، التى وضعت نفسها تحت مقصلة المجتمع الحادة.
وسام شعيب طبيبة النساء والتوليد، التى أصبحت شهيرة من طريقة حديثها، لم تخرج عن طبيعتها لا سمح الله، فهى دائمة الحديث عن مرضاها وكشف حكاياتهم وأسرارهم، الفارق هذه المرة أن ما تقوله خرج من جلسات النميمة المحدودة إلى منصة الفضائح غير المحدودة.
سوف أكون صريحًا معكم.
عندما شاهدت فيديو وسام شعيب، واستمعت لما قالته لم أندهش، ولم أتعجب، ولم أشعر بأن المجتمع ينهار، لسبب بسيط أن الطبيبة الشابة فى النهاية فرد تتحدث عن تجربتها الشخصية، عما رأته فى نطاق عملها، لا يمكن أن نأخذ مما تقوله شيئًا نتهم به المجتمع كله، أو نعمم النماذج التى تحدثت عنها، فهى نماذجها هى... هى التى قابلتها، وحتى لو تكررت هذه النماذج فى عيادات أخرى ومع طبيبات أخريات، فإنها تظل الاستثناء الذى يؤكد قاعدة المجتمع السليمة.
ما أدهشنى بالفعل، كان رد الفعل على ما قالته الطبيبة.
وما أفزعنى جدًا، كان طريقة تعاملنا معها.
لا أقصد بالطبع دفاعًا عن وسام شعيب، فما فعلته لا يمكن لأحد أن يدافع عنه، أو يقبله تحت أى مبرر.
ولكنى أشير إلى الفخ الذى يقع فيه المجتمع كل مرة يجد نفسه فى مواجهة مع أحد يكشف بعض ما يحدث على الأرض من جرائم أو مخالفات أو سقطات أخلاقية.
تعالوا نتفق على أننا لسنا مجتمعًا من الملائكة.
الملائكة لا تعيش على الأرض.
وتعالوا نتفق على أننا جميعًا لنا أخطاؤنا وعثراتنا، ولا يمكن لأحد منا أن ينظر إلى نفسه فى المرآة دون أن يبادلها نظرة يعرف من خلالها ما الذى فعله من خير أو شر.
وتعالوا نتفق على أن المجتمع وضع صيغة للتعامل مع أخطائه، وهذه الصيغة مكونة من طبقتين إحداهما شعبية توافق عليها الناس من واقع سلوكهم، والثانية دينية تدارسناها كثيرًا على يد علماء الدين ورجاله.. وهذه الصيغة هى «الستر».
إننا نحافظ على قوام مجتمعنا وإيقاعه واستمراره بالستر الذى نتبادل العمل به مع بعضنا البعض، فى اتفاق غير مكتوب وغير معلن لكننا توافقنا عليه، وعززنا هذا الاتفاق بثقافتنا الدينية «فمن ستر مسلمًا ستره الله يوم القيامة»، و«كما تدين تدان».
وسام شعيب فى الحقيقة ارتكبت الكبيرة الاجتماعية الكبرى بخروجها عن الصيغة التى توافقنا عليها فى حياتنا.
لقد أصدرت نقابة الأطباء بيانًا أكدت فيه أنها ستقوم بالتحقيق العاجل مع الطبيبة المتهمة بإفشاء أسرار مرضاها.
هيئة النيابة الإدارية قررت فتح تحقيق فى واقعة وسام، وبدأت بالفعل فى فحص ما تم رصده عبر شبكات التواصل الاجتماعى، معتبرة أن ما جاء فى فيديو الطبيبة انتهاك لحقوق المريضات ومخالفة لأخلاقيات مهنة الطب ولائحة آداب ممارسة المهنة.
المؤسسة الدينية يتحدث بعض المنتسبين إليها، لإدانة ما قامت به وسام دينيًا، وليس بعيدًا أن يصدر بيان من دار الإفتاء لتوضيح الرأى الشرعى فيما فعلته.
على شبكات التواصل الاجتماعى حالة هستيرية فى تناول كل شىء يخص ما فعلته وسام وما قالته، كتابات من مستويات ثقافية واجتماعية واقتصادية متفاوتة، تمارس طقس السلخ الجماعى لجلد الطبيبة التى أفشت أسرار مرضاها.
لقد هب المجتمع فى الحقيقة ضد وسام شعيب، لأنها خرجت عن الاتفاق، قررت أن تلعب بقواعدها هى وليس قواعد المجتمع.
يمكن أن تفسر سلوكها كما ترى وتهوى.
فقد تكون سعت إلى الشهرة، معتقدة أنها عندما تصبح «ترند» ويتناول الناس اسمها فإنها ستربح الكثير فى حياتها وعملها، ولم يكن فى بالها أنها ستكون ملعونة ومطرودة ومطاردة من الجميع.
وهذا هو التفسير الأسهل، لأنه فى النهاية سيحمل إدانة للطبيبة التى تحاول التكسب غير المشروع من عملها، وفى الطريق ندين أيضًا وسائل التواصل الاجتماعى التى أصبحت وسيلة هدم لمنظومة المجتمع الأخلاقية والقيمية، وبعد أن ننهى وصلات السباب والشتائم للطبيبة ومنصات التواصل الاجتماعى، نعود إلى حياتنا بشكل طبيعى، فى انتظار ضحية جديدة.
وقد يستسلم البعض إلى التفسير الذى حاولت أن تدفع به وسام شعيب لتبرئ نفسها من التهم التى يلاحقها بها المجتمع، فهى تعتبر أن ما فعلته لم يكن إفشاءً لأسرار مرضاها، ولكنه كان دقًا لناقوس خطر حتى ينتبه المجتمع لما يحدث، وهو التفسير الذى وافقها فيه زوجها وهو طبيب أيضًا، فهى بالنسبة له لم تفشِ أسرار المرضى لأنها لم تذكر أسماءهن ولا تشير إلى شىء يمكن لأحد من خلاله أن يتعرف عليهن.
والحقيقة أن وسام شعيب لم تفش أسرار المرضى، ولكنها أفشت أسرار المجتمع، معتقدة أن هذا المجتمع يمكنه أن يرحب بها، ويستقبلها استقبال الفاتحين، لأنها تدله على عوراته وآثامه وخطاياه، لكن ما حدث أن المجتمع لم يتسامح معها، بل قرر أن يحاكمها.
التحقيق مع طبيبة النساء فى النقابة أو حتى فى النيابة الإدارية أو سؤالها أمام النيابة العامة ووقوفها فى المحكمة بعد ذلك، كلها أمور ستمر مهما كانت النتائج.
فما الذى يمكن أن تفعله النقابة؟ هل يمكن أن تشطبها من سجلاتها وتمنعها من ممارسة مهنة الطب؟
هذا أقصى ما يمكن للنقابة أن تفعله، وأعتقد أنها لن تصل إلى ذلك أبدًا.
النيابة الإدارية يمكن أن تصدر بحقها قرارًا بالوقف عن العمل، حتى ينتهى التحقيق، الذى ستكون قراراته متناسبة مع اللوائح والقوانين، فالنيابة الإدارية لديها ما تتقيد به فى التحقيق مع موظفى الدولة، ولا تأخذ فى الحقيقة بانفعال الرأى العام ولا ابتزازه، فالقانون عندها لا يمكن تخطيه.
الأخبار جميعها تشير إلى أن وسام شعيب تم القبض عليها، وسيتم التحقيق معها بمعرفة النيابة العامة، ثم ستقف أمام القاضى، ويمكن أن تنتهى قضيتها، لأننا فى ساحات المحكمة لا بد أن يكون هناك مجنى عليه، مدعى على المتهمة، واحدة من اللاتى فضحت وسام سترهن، تتقدم وتقول إنها تحدثت عنها، ولأن هذا لن يحدث أبدًا، فستظل التهمة على المشاع.
ولذلك تحرك المجتمع كله على اختلاف توجهاته وطبقاته وحتى مواقفه السياسية، فعندما راجعت من تحدثوا، وجدت أن وسام شعيب وحدت بالفعل بين المؤيدين والمعارضين، المتدينين والملحدين، الأغنياء والفقراء، الرجال والنساء، الكل يواجه محاولة كشف الستر عن المجتمع.
جريمة وسام شعيب بالنسبة لى متشعبة فى الحقيقة.
أولًا: لأننى فرد فى هذا المجتمع، فأنا أسير على دماغه، وأُدينها كما يدينها الجميع، لأنها خالفت قواعد اللعبة الكبيرة، قررت الخروج عن الإجماع العام الذى لا يلتفت إلى ما توافق عليه الناس وأقروه، ومن يخرج عنه لا بد أن يعاقب على الفور دون تأخير.
ثانيًا: لأننى أرى فيما قامت به من حديث خروجًا على كل أصول اللياقة الإنسانية، ولن أقول آداب المهنة ومواثيق الشرف، ومقتضيات عمل الطبيب، فمؤكد أنها كانت تعرف كل ذلك وهى تفعل ما فعلته، لكنها تفتقد إلى أدنى درجات الإنسانية والشعور بمن فضحتهن، وإذا ادّعت أنها لم تذكر أسماءهن، فهن حتمًا يعرفن أنفسهن، والآن مؤكد أنهن يعانين من تعرية وسام لهن أمام أنفسهن، وهى تعرية أكثر قسوة من التى تحدث أمام المجتمع.
ثالثًا: الطبيبة الشابة جاهلة تمامًا، وساذجة تمامًا، حصلت على مجموع كبير فى الثانوية العامة أهّلها لدخول كلية الطب، تعلمت خلال سنوات الكلية علومًا ومعارف كثيرة ومتشعبة وعظيمة، لكنها خرجت من الكلية جاهلة تمامًا بالمجتمع الذى تعمل فيه، ولهذا زلت قدمها فى مستنقع من الصعب أن تخرج منه أبدًا.
قد يخفف البعض مما فعلته وسام شعيب، على اعتبار أننا نقابل هذا النمط فى حياتنا، النمط الذى يعتقد أنه يفعل الصواب دائمًا عندما يتحدث عن عيوب الناس ومشاكلهم وخطاياهم وآثامهم، وعندما تراجعهم فى ذلك، يقولون لك: إنهم يقولون الحقيقة، ويتساءلون فى دهشة واستغراب شديدين: هى الحقيقة بتزعل الناس كده ليه؟
بالفعل الحقيقة لا تريح أحدًا، لا يمكن أن تمنح أحدًا الطمأنينة والسلام، وهو ما يجعل المجتمع أكثر شراسة وهو يواجه أمثال وسام شعيب.
لقد حاولت وسام ومن ورائها زوجها الطبيب التخفيف من وطأة ما فعلته، متحججة فى ذلك بأنها تحاول كشف ما يحدث حتى ينتبه الناس، وهو ما يؤكد سذاجتها المطلقة والمفرطة، فالمجتمع بالفعل لن ينتظر طبيبة مثلها ليعرف منها ما يحدث على الأرض وفى الغرف المغلقة وعلى هامش العلاقات الاجتماعية المتشابكة والمعقدة، فالمجتمع يعرف وكلنا نعرف، لكن ولأننا قررنا التعايش مع بعضنا البعض، فإننا نتغاضى عن الكثير حتى تستمر الحياة، التى لن تطيب أبدًا إذا أصبحنا فى مواجهة دائمة ومكاشفة دائمة ومصارحة دائمة ومستمرة.
السؤال الذى لا بد أن نجيب عنه وبصراحة هو: لماذا فعلت وسام شعيب ما فعلته؟
مع ملاحظة أننى لا أسأل عن وسام شعيب شخصيًا، بل عن كل وسام شعيب تفعل ذلك فى المجتمع، ليس شرطًا أن تكون طبيبة، بل يمكن أن تكون صحفية أو مهندسة أو محامية، بل يمكن أن تكون رجلًا، وكثيرون من يفعلون ذلك؟
لماذا لا نصارح أنفسنا أننا نعيش عصر الانفلات الكبير؟
بعض الأصدقاء من المثقفين يفضلون أن نسمى العصر الذى نعيش فيه بأنه عصر البوح الكبير.
فى الحقيقة هو ليس بوحًا كبيرًا، بقدر ما هو انفلات وخلل كبير، إن لم نفهمه ونستوعبه ونحاول التعامل معه، فإنه سيعصف بنا جميعًا.
لا يمكن أن أفصل هذا الانفلات الكبير عما حدث فى يناير ٢٠١١.
وتعالوا نتفق على أن هذا ليس حديثًا عن ثورة ٢٥ يناير ٢٠١١ وليس طعنًا فيها من أى اتجاه، فليس هذا موقفى، وليس هذا موضوعنا الآن.
لقد كان الانفلات الأمنى حاضرًا بعد ٢٥ يناير، تم حرق أقسام الشرطة واقتحام السجون، وتم اقتحام مقرات أمن الدولة فى نفس اللحظة على مستوى الجمهورية، فقد كان هناك اتفاق على ذلك.
اختفى الأمن فسادت الفوضى، ولم نكن آمنين لا على أنفسنا ولا على أولادنا ولا على ما نملك، ولم نلتفت إلى أن هناك بذور انفلات مجتمعى عام وضعت فى الأرض، ولا بد أن يأتى الوقت لتزهر.
بذور الانفلات العام أثمرت بالفعل، وليس ما فعلته وسام شعيب إلا واحدًا من تجليات نضوجها، فنحن نحصد معًا ما خلّفته وراءها أحداث الفوضى، التى فككت مفاصل المجتمع وأخلاقياته وقيمه، وأصبح من الصعب أن تقنع أحدًا بأن ما يحدث خطأ.
المجتمع كله يدين وسام شعيب، لكنها لا تعتقد أنها فعلت شيئًا خطأ على الإطلاق، بل يمكن أن تبرر لما جاءت به، وهى حالة نقابلها كل يوم، فلا أحد فى مجتمعنا اليوم يعترف بأنه على خطأ، وكان من نتيجة ذلك أن زاد التبجح إلى درجة غير طبيعية، وأصبح علينا تقبل الشاذ من الأقوال والخاطئ من الأفعال والمدمر من السلوك، لا لشىء إلا لأن إحداثيات المجتمع كله تعانى من خلل.
إننى لا أحمل وسام شعيب خطايا الكون، يكفيها أن تتحمل نتيجة خطاياها وحدها، أما نحن فيجب أن ننتبه إلى المستنقع الذى نقف أمامه، ولم تفعل وسام ومن هم على شاكلتها إلا أنهم كشفوه أمامنا، نهتم قليلًا وننفعل قليلًا، ثم نعود إلى سابق حياتنا الهادئة، فى انتظار وسام جديدة، لنعيد نفس الكرة.
شىء واحد صدقت فيه وسام شعيب.. أن هناك خطرًا.
بالفعل هناك خطر، ولكنه ليس فيما روته الطبيبة عن مرضاها، ولكن الخطر فى مجتمع لم يعد يعرف إلى أين يتجه ولا ماذا يريد ولا عما يجب أن يدافع.
إننا فى مجتمع يحتاج بشدة إلى إعادة ترتيب من جديد.