الأحد 22 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

نجيب محفوظ أيام الألم..  الذين اغتالوه.. يوميات مواجهة الموت بسكين الإرهاب (1)

حرف

- المجرم شاب فى العشرين والحادث لم يستغرق أكثر من ثوانٍ معدودة وتم بطريقة صامتة حتى لا يلفت الأنظار

- الجرح كان شديدًا وأحدث تهتكات شديدة بالرقبة بطول مقدمة المطواة التى استخدمت فى الحادث

- «أديب نوبل»: أشعر بالأسف من أن شبابًا من شبابنا يكرس حياته للمطاردات والقتل فيطارد ويقتل وذلك بدلًا من أن يكون فى خدمة الدين والعلم والوطن

- نجيب: المجرم كان من الممكن أن يكون بطلًا رياضيًا أو عالمًا أو واعظًا دينيًا فلماذا اختار هذا السبيل؟.. لست أفهم

- أحد المتهمين: خططنا لاغتيال نجيب محفوظ لأنه سب الله ورسوله وأمهات المؤمنين فى قصة من قصصه

- الإرهابى عمر عبدالرحمن أصدر فتوى بإهدار دم نجيب محفوظ بعد حصوله على جائزة نوبل

ليس صحيحًا أن نجيب محفوظ نجا من محاولة اغتياله التى جرت وقائعها فى 14 أكتوبر 1994. 

نجا الجسد، لكن الروح كانت قد أصيبت فى مقتل، خرج الكاتب الكبير من مستشفى الشرطة الذى تلقى فيه العلاج وهو محطم تمامًا، فليس أصعب على الكاتب من الشعور بأنه لم يستطع أن يغيّر مجتمعه، وأن كل ما بذله من جهد من أجل تعليمه وتثقيفه وتنويره وتحديثه راح أدراج الرياح. 

أنفق نجيب محفوظ عمره منذ أول مقال له نشره فى العام 1 سبتمبر من العام 1929 وعمره 18 عامًا، وهو مقال «الأساليب» الذى نشرته له صحيفة «السياسة» عندما كان لا يزال طالبًا فى السنة الرابعة التوجيهية، وحتى اللحظة التى غرس فيها إرهابى ضال السكين فى عنقه، ليمنح الآخرين حياة قائمة على المحبة والسلام، لكنه وهو يواجه شبح الموت لم يجد محبة ولا سلامًا. 

عالج الأطباء الجسد، لكنهم عجزوا عن علاج الروح. 

عندما كان أسيرًا لفراشه فى مستشفى الشرطة يتلقى علاجه، سأله أحد أصدقائه عن أكثر شىء يخاف منه بعد هذا الحادث الذى تعرض له. 

كانت إجابة نجيب مفزعة، تعكس ما فعلته به السكين. 

قال: أكثر ما أخاف منه أن أُرغم على تغيير أى شىء فى أسلوب حياتى واختلاطى بالناس وتمشيتى بينهم فى الشارع، سيعز علىّ كثيرًا أن أرغم على الابتعاد عن الناس، وأن تكون بينى وبينهم حواجز أمنية، إن حياتى كانت دائمًا وسط الناس، ولم أرَ منهم إلا كل الحب، فقد كانوا دائمًا يقبلون علىّ وأنا أسير فى الطريق ويصافحوننى ويطمئنون علىّ، أخاف أن أُحرم من كل ذلك؟

وتساءل نجيب فى أسى: لماذا أحرم من دفء المشاعر الإنسانية التى طالما أحاطنى بها الناس؟ 

وفى نوبة تحدِ ليست جديدة عليه، قال: لن أغير أسلوب حياتى، والله الذى حفظ إذا أراد أن يحفظ سيحفظ، أما إذا كان يريد الأخرى فنحن أيضًا نحب أن نلقاه. 

ما تعرض له نجيب محفوظ بعد محاولة اغتياله كان ملحمة من الألم والصمود، أعتقد أنه من المهم أن تعرفها الأجيال التى لم تعاصره ولا تعرف عنه الكثير، فالقصة طويلة وتفاصيلها مؤلمة، وأعتقد أنه من حقه علينا أن نرويها كاملة. 

الدكتور هشام بالعناية المركزة والدكتور يسرى الحفناوى أثناء علاج يد الكاتب نجيب محفوظ 

كان ما حدث مروعًا، وصفته الصحف بتقارير حيادية تخلو من الروح، وهو ما يبدو من صياغتها للخبر. 

فطبقًا لما قالته الصحف: تعرض الأديب الكبير نجيب محفوظ إلى حادث أثيم مساء ١٤ أكتوبر ١٩٩٤، فقد حاول شخصان اغتياله أمام منزله بمنطقة العجوزة بطعنه بمطواة فى رقبته، بينما كان يهم بركوب سيارة أحد أصدقائه، وهرب الجانيان فى سيارة مرسيدس. 

السيارة التى كان الكاتب الكبير يستقلها عندما حاولوا قتله

وقع الحادث الأثيم فى الساعة الخامسة والنصف، وكان الأديب الكبير فى طريقه لحضور الندوة الأسبوعية التى يشارك فيها مساء كل يوم جمعة، وعقب دخوله سيارة حمراء اللون لأحد أصدقائه- ويعمل طبيبًا بيطريًا- وجلوسه بجواره، اقترب أحد الأشخاص وباغته فجأة واستل مطواة وطعنه بها فى رقبته وأحدث بها جرحًا غائرًا، وفر المجرم فى سيارة مرسيدس صفراء كانت تنتنظره وبداخلها زميل له.

شهود العيان أشاروا إلى أن المجرم شاب فى العشرين، وكان يرتدى قميصًا وبنطالًا وفر هاربًا فى سيارة مرسيدس جمرك السويس، وأسرع بالهرب فى اتجاه الجيزة، وأن الكاتب الكبير أصر فى البداية على السير على قدميه رغم إصابته الخطيرة، وأن الدماء كانت تتدفق بغزارة من رقبته. 

كما أكدوا أن الحادث لم يستغرق أكثر من ثوانٍ معدودة، وتم بطريقة صامتة حتى لا يلفت الأنظار لتمكين المجرم من الفرار. 

ما حدث فعلًا وعلى خلاف شهود العيان أن الدكتور محمد فتحى هاشم، صديق الكاتب الكبير، أسرع بالرجوع إلى الخلف بسيارته، حيث مستشفى الشرطة بالعجوزة على بُعد أمتار من منزله، وتم إدخاله على الفور إلى غرفة العمليات، وتم استدعاء عدد كبير من كبار الأطباء للإشراف على حالة الكاتب الكبير، وتبين أن إصابته جاءت فى الشريان الرئيسى للرقبة، ما أدى إلى حدوث نزيف حاد، استلزم نقل الدم له، وحتى الساعة الثامنة والنصف من مساء يوم الحادث قد نقل إليه ثمانية أكياس من الدم فصيلة «B»، وأعرب عدد كبير من الموجودين بالمستشفى عن استعدادهم للتبرع بدمائهم من أجل الأديب الكبير. 

وأصدرت وزارة الداخلية بيانًا عن الحادث، أعلنت فيه عن التفاصيل الأولية لما جرى للكاتب العالمى الكبير نجيب محفوظ، وأن أجهزة الشرطة تواصل جهودها لضبط الجانيين، وبدأت الإجراءات بفحص السيارات التى تحمل لوحة معدنية «تربتك» جمرك القادمة عبر ميناء السويس. 

وكان الجانى قد ترك المطواة المستخدمة فى الجريمة، وتم العثور عليها فى مكان الحادث، وتم العثور والتحفظ عليها، وقام خبراء المعمل الجنائى برفع البصمات، والتى من المرجح أن تساعد أجهزة الأمن فى تحديد شخصية الجانى فى حالة كشف ملابسات الجريمة. 

وصرح مصدر أمنى بأن مباحث الجيزة كانت قد طلبت من الأديب الكبير مرافقة حارس شخصى فى تنقلاته، إلا أنه كان دائمًا يرفض هذا الإجراء ويعتبره مقيدًا لحركته العادية. 

فى أقواله أمام النيابة قال نجيب عن الحراسة: إن رجال الأمن طلبوا منى مرافقة حراسة لى خلال تنقلاتى حرصًا على حياتى، لكنى رفضت الفكرة لأنها تسبب لى متاعب كثيرة لكثرة تنقلاتى، واكتفت الداخلية بتعيين حارس على المنزل، لكنه لم يكن موجودًا وقت الجريمة. 

وفى حديث له مع يوسف القعيد وهو لا يزال فى المستشفى، تحدث نجيب مرة أخرى عن الحراسة، قائلًا: قبول فكرة الحراسة أؤجلها لحينها، لقد هُددت من قبل وعرضت علىّ الحراسة، ولكن كنت أخشى على من سيحرسنى من التعب، كنت مشّاء أمشى كثيرًا جدًا كل يوم، وقلت: ما ذنب الحارس حتى أبهدله معى؟.. لكن الآن اختلف الأمر. 

قال له يوسف: كنت أشاهد فى بعض الأحيان حراسة على باب البيت. 

فرد نجيب: هذه حراسة كانت من القسم، ولكنها لم تكن منتظمة، كان العسكر المكلف بها يحضر يومًا، ولا يحضر الآخر، وأنا لم أكن مهتمًا. 

وفى تصريحات أخرى جاء نجيب على مسألة الحراسة، قائلًا: سوف أنظر فى مسألة الحراسة على ضوء الممكن والظروف، وإلى أى درجة أحافظ فيها على حريتى، وفى الوقت نفسه لا أريد تحميل الأمن أعباء إضافية، فالحكاية تحتاج منى إلى تفكير، إننى أذهب فى كل مشاويرى سيرًا على الأقدام، وبالتالى فالحارس سيبذل مجهودًا خرافيًا ورائى من المنزل إلى شهرزاد إلى الأهرام ثم إلى المنزل مرة أخرى، وأخشى أن يرهق الحارس من كثرة السير، قيقتلنى هو حتى يتخلص منى. 

لم تكن الحادثة عادية ولا عابرة. 

من اللحظة الأولى أدرك أطباء مستشفى الشرطة أن إصابة الكاتب الكبير ليست بسيطة، فتم تشكيل فريق عمل من الجراحين والأطباء فى محاولة لإنقاذه، وقد دخل غرفة الجراحة بعد الساعة الخامسة بقليل وظل تحت الجراحة لعدة ساعات. 

بعد حوالى ١٠ ساعات من الحادث أكدت مصادر طبية من داخل مستشفى الشرطة أن الأديب الكبير تجاوز المرحلة الخطيرة واستقرت حالته تمامًا، وتحدث فى ساعة مبكرة من صباح ١٥ أكتوبر مع الأطباء المرافقين، وطلب منهم السماعة الخاصة به ثم خلد إلى نوم عميق. 

وذكرت المصادر أن الجرح كان شديدًا وأحدث تهتكات شديدة بالرقبة بطول مقدمة المطواة التى استخدمت فى الحادث، إلا أن الأطباء نجحوا بعد جراحات عاجلة فى السيطرة التامة على النزيف. 

وأضافت المصادر أن إصابة الكاتب الكبير بمرض السكر كانت سببًا رئيسيًا فى تدهور الحالة وقت بداية الإصابة، وما أعقبها من نزيف، حيث تم نقل كميات كبيرة من الدم إليه. 

سأترك أطباءه الذين قاموا على علاجه يتحدثون كما رسموا ملامح وتفاصيل الحكاية للصحف وقتها. 

الطبيب الأول هو العقيد طبيب يحيى سلامة رئيس وحدة العناية المركزة بمستشفى الشرطة، يقول: دخلت إلى غرفة العمليات بعد التعقيم، وذلك للمساعدة إذا ما تطلب الأمر تقديم العون، كان بالغرفة الدكتور البشرى والعقيد طبيب مصطفى الشربينى، واستشارى التخدير الدكتور على صادق، والنقيب طبيب أسامة النحاس. 

نجيب محفوظ كان موضوعًا على جهاز التنفس الصناعى الموصل بالمونيتور لمتابعة قياس النبض والضغط. 

رأيت بركة من الدماء يحاول الدكتور البشرى وقف النزيف الدموى، طبيب التخدير ينقل إليه الدم فى الوقت نفسه الذى يراقب فيه النبض، ثم حضر الدكتور سامح همام وبعده الدكتور عادل إمام. 

كل الأمور كانت طبيعية فيما عدا بعض الضربات الأذينية البسيطة، لم ينخفض ضغط الدم أثناء العملية التى استغرقت أربع ساعات، وهذا يحسب لكفاءة أطباء التخدير. 

هدأت النفوس بعد أن تمت السيطرة على النزيف، وبدأ الفريق الجراحى فى إصلاح ما أحدثته الطعنة. 

بعد الإفاقة صاحبت الأستاذ نجيب إلى قسم العناية المركزة، وتابعت مع الدكتور هشام شوكت قياس الضغط والنبض والحرارة وتركيب المحاليل، وظللنا نراقبه عن طريق المونيتور والشاشة المركزية. 

لم نكن نعلم التاريخ المرضى لنجيب محفوظ، استدعينا كل الاستشاريين من مختلف التخصصات حتى نطمئن تمامًا على أن العلاج يسير فى طريقه السليم، وحتى لا نترك أى مجال لحدوث خطأ أو تقصير. 

فى منتصف الليل استدعينا الدكتور شريف مختار، رئيس مركز الحالات الحرجة بقصر العينى، ليشترك معنا فى وضع نظام علاجى متكامل. 

وفى الساعة الواحدة صباحًا، أى بعد ثلاث ساعات من الجراحة، تنبه كاتبنا الكبير وطلب نظارته والسماعة، وفعلًا أحضرتهما زوجته من المنزل وأعطيناه مسكنًا لكى ينام. 

لازمناه طوال الليل، كنا نرسل عينات للتحليل لمتابعة مستوى السكر ووظائف الكلى وإنزيمات السيولة، وكانت النتائج تصلنا فور تحليلها، كنا نعطيه جرعة الإنسولين المناسبة بعد التحليل، وبذلك أمكن لنا السيطرة على نسبة السكر. 

واستخدمنا السوائل فى الوريد كأسلوب للتغذية، وتداركنا نسبة المحاليل حتى لا يحدث أى خلل لوظائف الكلى. 

وفى اليوم التالى استدعينا الدكتور محمد هانى حافظ استشارى الكلى، الذى أجرى فحصًا كاملًا بالموجات فوق الصوتية على الكليتين، وأعطى تعليماته بتعديل بعض جرعات المضادات الحيوية حتى لا تؤثر على وظائف الكلى، وبالفعل ومن خلال إجراء التحاليل المتتالية وجدنا أن وظائف الكلى قد عادت إلى عملها، وتمت إزالة القسطرة البولية ووقف المحاليل فى اليوم الرابع، وبدأنا تغذية عن طريق الفم بالسوائل والعصائر بالإضافة إلى الوجبات الخفيفة. 

ثم بدأ نجيب محفوظ فى الحركة داخل الوحدة، والذهاب إلى الحمام، صباحًا كان يعانى من الإمساك لكنه بعد أن أخذ الملين تحسن الوضع، وبدأت الأمور تأخذ شكلها الطبيعى، وكان العلاج يُعدل يوميًا حسب الحالة، أشياء تُلغى وأدوية تُضاف. 

أخذنا مسحة من الجرح لعمل مزرعة حساسية، وجاءت نتيجتها أنها سلبية لأى ميكروب، وهذا يدل على نظافة الجرح. 

كما أثبت التحليل أن نسبة الهيموجلوبين فى حدودها الطبيعية. إن الفترة الحرجة قد انتهت تمامًا، ووجوده فى الوحدة حتى الآن لتخفيف عبء زواره، وهو يمارس حياته بشكل شبه طبيعى، وقد قلت فترة رقاده وطالت فترة حركته. 

الطبيب الثانى هو سامح همام أستاذ جراحة الأوعية الدموية بطب القاهرة، والذى قاد فريق الجراحين فى حجرة العمليات، يقول: كانت الطعنة التى أصيب بها قد أحدثت تهتكًا فى عضلات الرقبة اليمنى، وتهتكًا بالوريد الودجى الخارجى والداخلى الأيمن، كما أدى عمق الطعنة إلى حدوث إصابة للشريان الفقرى الأيمن المخترق للنتوءات المستعرضة للفقرات العنقية. 

وقد التأمت كل الجروح، الحالة الصحية فى تقدم مستمر، جميع أجهزة الجسم الحيوية تعمل بكفاءتها المتوقعة، وطبيًا يمكن أن يغادر المستشفى، مع استمراره فى جلسات العلاج الطبيعى لذراعه اليمنى، السبب فى حالة الذراع يرجع إلى إصابة الجزع الخامس من النخاع الشوكى العنقى نتيجة للطعنة التى لم تؤد إلى قطعه، نتج عن الإصابة وجود تجمع دموى يضغط على العصب، ستتحسن الحالة عندما يمتص هذا التجمع، واستمرار العلاج الطبيعى سيؤدى إلى عودة العضلات إلى عملها. 

كان من المفروض أن يغادر الأستاذ قسم العناية المركزة، وهناك جناح خالٍ مخصص له، لكننا فضلنا- نحن الفريق المعالج له- أن يستمر وجوده فى العناية المركزة حتى نتمكن من التحكم فى عدد زائريه ومحبيه من مختلف الطوائف والجنسيات والبلاد العربية ورجال الإعلام المصرى والعربى والأجانب. 

الطبيب الثالث كان عادل إمام أستاذ جراحة القلب بالمعهد القومى للقلب، يقول: كنت وقت الحادث فى زيارة لمنزل صديق يقع على بُعد ثلاثة منازل من مستشفى الشرطة، وعندما استدعونى ذهبت مترجلًا، وكان الأستاذ فى غرفة العمليات بعد دقائق من استدعائى، وذلك لعلمهم بأن نجيب محفوظ كانت قد أجريت له عملية استبدال الجزء السفلى من الشريان الأورطى، وهى حالة تتطلب المحافظة على كمية السوائل بالجسم وعدم ارتفاع أو انخفاض ضغط الدم حتى لا يتعرض لمتاعب فى الكلى أو بالقلب نتيجة لنقص بعض الأملاح الضرورية مثل الصوديوم والبوتاسيوم والكالسيوم. 

انحصر دورى فى ملاحظة القلب وضرباته للتدخل بالعلاج اللازم فى حالة حدوث انخفاض أو اضطراب بالضربات، تنفسنا جميعًا الصعداء بعد انتهاء العملية وإفاقته من التخدير الذى قام به ببراعة الدكتور على صادق استشارى التخدير. عندما تحركت جميع أطرافه تأكدنا أنه لا توجد أى إصابة بالأعصاب الرئيسية أو النخاع الشوكى. 

المضاعفة الوحيدة التى تعرض لها نجيب محفوظ كانت فى الساعة السابعة من صباح يوم السبت ١٥ أكتوبر، عندما حدث له ما يسمى بالذبذبة الأذينية وهى ازدياد غير منتظم فى ضربات القلب نتيجة الكمية الكبيرة من الدم، التى نقلت إليه ما أدى إلى نقص البوتاسيوم فى الجسم، اُستدعيت فورًا، وتمت السيطرة على الحالة وعاد القلب إلى حالته الطبيعية خلال عشر دقائق من وصولى. 

الطبيب الرابع كان أسامة الحوفى أستاذ طب وجراحة العيون بقصر العينى، الذى يقول: تم استدعائى للكشف على عينى نجيب محفوظ بعد أن اشتكى من ضعف إبصاره، وبالكشف عليه وجدت تحللًا فى مقلة العين، وهى نقطة فى الشبكية تعتبر من أكثر مراكزها حساسية للرؤية، وهذا التحلل موجود بدرجة أكبر فى العين اليسرى، وناتج عن كبر السن، وهو العامل الأساسى المسبب للضعف الشديد فى قوة الإبصار، وهى حالة ليس لها علاج جراحى أو طبى أيضًا، ووجدت ارتشاحات بالشبكية نتيجة للإصابة بالسكر منذ وقت طويل. 

كما اتضح وجود مياه بيضاء «كتراكت» غير ناضحة بالعينين، لكن درجتها أكبر فى العين اليمنى، والنتيجة أن ضعف الإبصار نتيجة لتحلل الشبكية أساسًا وللمياه البيضاء جزئيًا، وهذه الحالة ليست لها علاقة بالحادثة، كل ما يحتاجه هو إجراء كتراكت للعين اليمنى، مع زرع عدسة فيها، ولا يمثل تأخرها بعض الوقت أى تهديد لصحته، سننتظر حتى يسترد صحته بالكامل وسأجريها له خلال شهر من الآن. 

الطبيب الخامس هو العميد طبيب يسرى الحفناوى مساعد مدير الإدارة العامة لشئون الخدمات الطبية والعلاجية، الذى يقول: فى صباح اليوم الثانى للجراحة بدأت تظهر أعراض الشلل على الذراع اليمنى، فحركتها غير طبيعية، طلب الدكتور همام البدء فى العلاج الطبيعى فورًا، بدأت منذ الأحد ١٦ أكتوبر عمل تنبيه عصبى كهربائى لأعصاب اليد اليمنى «تيار فارادى» لمدة ربع ساعة، تتبعه تمرينات سلبية يؤديها الطبيب بمساعدة المريض، ثم تمرينات سلبية إيجابية يؤديها المريض بمساعدة الطبيب. 

كانت الاستجابة مرضية منذ اللحظات الأولى، ويوم الخميس وصلنا إلى أن الكتف والكوع يؤديان حركاتهما الإيجابية، وهذا أعطى تأكيدًا بوجود تجمع دموى ضاغط على العصب الخارج بين الفقرتين السادسة والسابعة وليس قطعًا للعصب. 

نجيب محفوظ مريض غير عادى، لم يكتئب ولم يفقد إيمانه بالله وصبور إلى أقصى درجة، لديه إصرار وقوة إرادة مكنته من أن يؤدى الحركات التى تطلب منه. 

بدأت معه منذ يوم السبت صباح يوم الجراحة تمرينات التنفس لتنشيط الرئة، مع محاولة تحريك جسمه فى السرير تحسبًا لحدوث جلطات أو قرح فراش. 

عندما انتهى الأطباء من عملهم كان الكاتب الكبير محمد سلماوى يجلس مع زوجة الأستاذ نجيب السيدة عطية الله وابنتيه فاطمة وأم كلثوم فى قاعة الانتظار بالقرب من غرفة العناية المركزة التى كان يرقد فيها الأستاذ، وإذا باللواء وجيه عيسى نائب مدير الإدارة العامة للخدمات الطبية بمستشفى الشرطة يقول له: الأستاذ نجيب يطلبك. 

وقبل أن يدخل سلماوى إلى الغرفة وجد اللواء وجيه يقول له: انتظر إننا لا نسمح بالزيارة، لكن حين أخبرنا الأستاذ نجيب بأنك فى الخارج، طلب أن يراك، لذلك نتمنى ألا تزيد الزيارة على ٣ دقائق بالعدد وإلا سأضطر للتدخل. 

دخل سلماوى إلى الأستاذ نجيب، الذى وجده يحييه: أهلًا وسهلًا... أهلًا وسهلًا، وقبض بشدة على يده وقبّلها. 

بكى سلماوى وقال للأستاذ: إننى لا أصدق ما يقال يا أستاذ نجيب، فها أنت سليم معافى كما عرفتك دائمًا. 

فرد نجيب بصوت واهن: الحمد لله... الحمد لله.

سأل سلماوى الأستاذ نجيب عما جرى. 

فقال: أنا لم أر الشاب الذى اعتدى علىّ، لم أر وجهه، الذى حدث أننى وأنا أهم بركوب السيارة لأذهب لموعدى مع أصدقائى فى الندوة الأسبوعية، وجدت شخصًا يقفز بعيدًا، وكنت قد شعرت قبلها بثوانٍ معدودة وكأن وحشًا قد نشب أظافره فى عنقى، وقد دهشت ولم أدرك بالضبط ما حدث. 

لكننى حين شاهدت هذا الشخص يرمى خنجرًا كان فى يده فهمت على الفور ما حدث وعرفت أن هذا الخنجر هو الذى كان فى عنقى، وبدأت أشعر بالدماء تنزف من عنقى فوضعت يدى على رقبتى لأوقف النزيف، بينما انطلق صديقى الدكتور فتحى هاشم بالسيارة إلى مستشفى الشرطة الملاصق لبيتى. 

سأله سلماوى: ماذا كان آخر شىء تتذكره؟ 

قال نجيب: عند وصولنا إلى المستشفى نزلت من السيارة وأردت أن أصعد السلم الذى توقفت السيارة عنده، لكن بعض الناس الذين لا أعرف من هُم أصروا على حملى، وأصررت أنا على السير، ولا أكاد أذكر ما حدث بعد ذلك.

يقول نجيب: إن شعورى مزدوج، فمن ناحية أشعر بالأسف لتكرار جرائم الرأى، فهناك الشيخ الذهبى والأستاذ مكرم محمد أحمد، والسيد فرج فودة، وأقول إن هذا ليس الطريق للتعامل مع الرأى، إنه لشىء مؤسف جدًا ومسىء جدًا لسمعة الإنسان فى العالم أن يؤخذ أصحاب الرأى، أصحاب القلم، هكذا ظلمًا وبهتانًا، ومن ناحية أخرى، فإنى أشعر بالأسف أيضًا من أن شبابًا من شبابنا يكرس حياته للمطاردات والقتل فيطارد ويقتل، وذلك بدلًا من أن يكون فى خدمة الدين والعلم والوطن. 

وأضاف نجيب: إن الشاب الذى رأيته يجرى كان شابًا يافعًا فى ريعان العمر، كان من الممكن أن يكون بطلًا رياضيًا، أو عالمًا، أو واعظًا دينيًا، فلماذا اختار هذا السبيل؟.. لست أفهم. 

فى نفس اليوم دخل الكاتب الكبير ثروت أباظة إلى غرفة العناية المركزة بمستشفى الشرطة بعد انتهاء العملية التى حاول الأطباء بها إنقاذ حياته، قابله نجيب بابتسامته الهادئة الوديعة وقال له: أنت بتسأل عليا يا ثروت.. وأنا المفروض أسأل عليك. 

ثم تنهد وقال: شوف بيعملوا فينا إيه فى آخر العمر. 

لم يستطع ثروت أباظة الحديث وأجهش بالبكاء، فقال له نجيب محفوظ مداعبًا: إنت بتطمن عليا.. ولا أنا اللى حتطمن عليك، الله هو أنت جى تعيط هنا.. هو أنت اللى انضربت ولا أنا؟ 

بعد ١٢ يومًا من دخوله إلى المستشفى زاره يوسف القعيد، الذى يقول: كنت عنده فى التاسعة والنصف صباحًا، فى أول يوم يخلع فيه ملابس المستشفى الخضراء، ويلبس بيجاما مقلمة من الكستور أحضروها له من منزله، وهذا أول يوم أيضًا يحلق فيه ذقنه، بعد أن رفض أن يقوم له أحد بذلك، والشعر الذى يحيط بالجرح كما هو لم يقترب منه موس الحلاقة، وكان بالقرب من السرير منضدة عليها صحف الصباح. 

يبدو ساهمًا يفكر، وتعبير غرفة العناية المركزة أقرب إلى المجاز منه إلى الحقيقة، فهو عنبر كبير فيه أكثر من مريض، والعناية المركزة لا تزيد على توافر ما يطلبه القلب والضغط، أى مواجهة كل ما هو طارئ من الأمور. 

همسوا له باسمى، فقال إننى أُعتبر من أهل بيته، ويرحب بى فى أى وقت أشاء. 

ضحك وهو يسلم علىّ: منذ أن انقطع لقاء الثلاثاء الأسبوعى وأنا لا أعرف من أخبار الدنيا الكثير. 

أشرت إلى الصحف الكثيرة، قال لى: أستمع إلى العناوين فقط كل صباح، ولكن من يقول إن هذه العناوين تكفى، إنها تستثير رغبة الإنسان فى أن يعرف المزيد أكثر من أن تروى عطشه للمعرفة. 

قلت له: إنها جرائد فقط، ولكن أين المجلات؟ 

قال: منذ دخولى المستشفى وأول طلب لى من زوجتى كان شراء الصحف والمجلات وتجميعها فى البيت، فى انتظار عودتى لكى أعيش معها الجانب الآخر من الحادث. 

سأل نجيب محفوظ: كيف الحال؟ 

قال وكأنه يحكى حكاية: كان الأمر سلسلة من المصادفات الحسنة، التى ساقت الدكتور محمد فتحى هاشم، لقد أنقذ حياتى، فلديه من المعلومات الطبية الأولية ما جعله يتصرف بحكمة الطبيب وحب الصديق، ثم كان مستشفى الشرطة قريبًا جدًا، لا تزيد المسافة على ٢٠٠ متر، إننى كمن انتقل من بيته إلى بيته، خُيل لى كما لو كان المستشفى بنى فى هذا المكان فى الأصل من أجل هذه المهمة، إنه بجوار بيتى، ولكن تشاء الأقدار ألا يدخله الإنسان سوى فى هذا اليوم وعلى هذه الصورة. 

ورغم أن اليوم جمعة، فإن الاستعداد فيه فاق كل توقع، ووزير الداخلية اللواء حسن الألفى كان حاضرًا، بل وحرص على زيارتى أكثر من مرة للاطمئنان علىّ، من كان يتصور أن كل هذا سيحدث، لقد هممت أن أمد يدى للقاتل كى أسلم عليه، ولكنه فاجأنى بالسكين. 

قال له يوسف: ثمة كلام عن سفرك إلى الخارج للعلاج؟ 

فقال نجيب: لا أريد السفر إلى الخارج، إنهم يقولون إن عينى فى حاجة إلى علاج، والمياه التى على عينى قديمة منذ سنوات مضت، والطبيب قال لى إنه حتى لو أجريت العملية، فإن هذا لن يؤثر على حالة الإبصار، وأطباء مصر الذين يعالجوننى سواء من آثار الحادث أو الأمراض المزمنة التى أعانى منها منذ سنوات فى مستوى أفضل من الأطباء فى العالم، إن لم يتفوقوا عليهم. 

يمكننا هنا أن نتوقف قليلًا، ونقطع سير الحوار بين نجيب والقعيد.

 

فقد أعلن الأستاذ عن أنه لن يغادر مصر من أجل بعض المياه البيضاء، وصرح: إننى أشكر الأطباء الذين يريدون أن أجرى العملية فى الخارج، لكننى أقول إننى مؤمن بقدراتهم المهنية وأعتقد أن لدينا فى مصر أطباء عظامًا يغنوننى عن السفر إلى أى بلد، لقد أجرى لى الأطباء المصريون هذه العملية بنجاح واقتدار رغم أنها فى موضع حساس تتجمع فيه الأعصاب، فهل يعقل أن أسافر من أجل عملية بسيطة مثل إزالة المياه البيضاء من عينى؟ 

نعود مرة أخرى إلى حديث يوسف ونجيب، فقد استكملا حوارهما على النحو الآتى: 

يوسف: ماذا دار فى التحقيق معك؟ 

نجيب: لقد استغرق ثلاث ساعات ونصف الساعة من بعد ظهر الخميس الماضى، وقفت لكى أسلم على رئيس النيابة الذى كان مهذبًا جدًا ولكنه أصر على عدم وقوفى. 

يوسف: هل هناك كلام عن أولاد حارتنا؟ 

نجيب: طبعًا وهذا مطلوب من وجهة نظرى، لقد تحدثت طويلًا عن هذه الرواية، أليس غريبًا أن البعض يتكلم عنها الآن؟ مع أنها منشورة منذ سنة ١٩٥٩ أى منذ حوالى ٣٥ سنة، إن معظم الذين يتحدثون عن هذه الرواية لم يقرأوها، البعض سمع عنها وصدق ما سمعه دون قراءة، وبنى حكمًا، بعد هذا التحقيق نمت نومًا عميقًا، لقد أراحنى التحقيق ومنذ الحادث تحدث لى هذه الحالة من النوم الطويل والعميق، يبدو أننى استرحت نفسيًا. 

يوسف: كيف وقعت على أقوالك؟ 

نجيب: يدى اليمنى ما زالت تحت العلاج، أنا أحركها الآن، وأحرك أصابعى أيضًا، ولكن مسألة التوقيع ما زالت صعبة، ولذلك بصمت بيدى اليسرى. 

يوسف: تتجه النية الآن إلى التصريح بنشر أولاد حارتنا فى مصر؟ 

نجيب: أنا لا أرحب بهذا، يمكن أن أوافق عليه ولكن بعد فترة من الوقت، ليس الآن على أى حال، إن المطلوب هذه الأيام أن يتكلم الأزهر الشريف، أن يعلن عن موقفه من هذه الرواية المحبة للدين، ولو حدث هذا لكان أفضل من التصريح بطبعها فى مصر، يمكن أن يكون الطبع بعد هذا. 

يوسف: عن الحادث الذى جرى له، ألا يطوف بخياله القصصى الآن؟ 

نجيب: هذا الحادث من الأمور المهمة التى وقعت لى فى حياتى، ويمكن أن أتناوله مستقبلًا فى يوميات أو مذكرات، أما رواية فهذا صعب، إننى من ناحية الكتابة الفنية لا أقدر سوى على القصة القصيرة فقط.

كانت الدولة كلها موجودة فى جناح نجيب محفوظ بمستشفى الشرطة. 

زاره رئيس الوزراء الدكتور عاطف صدقى، ورحب به نجيب: كتر خيرك دى خطوة عزيزة، فداعبه الدكتور صدقى: اللى عملوا كده يا أستاذ نجيب خفافيش ولا حرافيش، فرد نجيب: لا دول أكيد خفافيش لأن الحرافيش أصحابى. 

وزاره وزير الداخلية اللواء حسن الألفى. 

قال له نجيب: أنتم تخوضون معركة للدفاع عن الإسلام، وإننى أدعو الله أن يطهر البلاد من الإرهاب، فرد عليه الوزير: سوف ينال كل إنسان جزاءه الذى يستحقه. 

وعندما اقترب منه الدكتور محمد الرزاز وزير المالية ليصافحه، ابتسم له الأستاذ نجيب، وقال له: مسددين الضرايب اللى علينا والله يا دكتور رزاز. 

قبل أقل من ٤٨ ساعة من الحادث وفى ١٦ أكتوبر ١٩٩٤، نجحت أجهزة الأمن فى القبض على أعضاء الخلية التى دبرت ونفذت محاولة اغتيال محفوظ. 

خلال الاشتباك بين أعضاء الخلية وقوات الشرطة فى منطقة عين شمس لقى قائد الخلية التى بلغ عدد أفرادها سبعة مصرعهم. 

المفاجأة أن قوات الأمن وخلال حملات المداهمة التى شنتها فى القاهرة والجيزة والقليوبية للقبض على الإهاربيين كانت قد ضبطت كميات كبيرة من الأسلحة والمتفجرات وأجهزة تفجير القنابل عن بعد وجهاز فاكس، وأسفرت حملات المداهمة عن القبض على ٣٦ إرهابيًا. 

لم تكن الخطة هى اغتيال نجيب محفوظ فقط، ولكن كانت هناك خطة كبيرة. 

من بين المضبوطين الـ٣٦ قررت نيابة أمن الدولة حبس ثلاثة متهمين، وهم محمد خضر وعبدالحميد أبوزيد وحسين على بكر الشرنوبى، ونسبت إليهم تهم المشاركة والتخطيط والإعداد لارتكاب الحادث. 

كانت قاعدة المعلومات عن النشاط الإرهابى فى وزراة الداخلية قد أكدت تحرك بعض العناصر الإرهابية بأسماء كودية، وتم ضبط عبدالحميد محمد أبوزيد ومحمد خضير المحلاوى بمنطقة المطرية أثناء لقاء بينهما، بالإضافة إلى قيام القيادى الإرهابى باسم خليل شاهين وكنيته محمود بتحمل مسئولية تدبير وتنفيذ عملية محاولة اغتيال نجيب محفوظ. 

كان من تولى طعن نجيب محفوظ هو حسين على بكر الشرنوبى، وكان يحمل بطاقة مزورة باسم محمد ناجى مصطفى. 

بعد القبض على الجناة صرح نجيب محفوظ بأنه يعتز بالأمن المصرى، فهو إما أن يلقى القبض على المجرمين بعد ارتكاب جرائمهم بساعات، أو يقتحم عليهم أماكن وجودهم قبل ارتكابها بأيام، ووصف ذلك بأنه شىء عظيم، كما أعرب عن أسفه لأن يكون هناك شباب يلقى بنفسه فى الجريمة دون وعى أو إدراك وخاصة فى قضايا الفكر، مؤكدًا أن الإنسان لو حاسبهم أو حاكمهم لن يجد واحدًا منهم قد قرأ كتابًا، وأشار إلى أنه كان يمكن لهؤلاء أن يكونوا علماء من رجال الدين والدنيا وتستفيد منهم بلدهم ويحفظوا أرواحهم وأرواح ضحاياهم.

أمام النيابة اعترف محمد ناجى بتفاصيل ما جرى. 

قال: قام باسم محمد خليل بمفرده برصد تحركات نجيب محفوظ لمدة ١٥ يومًا على التوالى، ثم كلفت عمر محمد محمد إبراهيم بمتابعة تحركاته نظرًا لعدم انتظام الكاتب الكبير فى الخروج من المنزل، وقمت برصده لمدة ثلاثة أيام متتالية منذ خروجه من المنزل وحتى عودته. 

ويضيف ناجى: تم عقد جلسة اتفقنا فيها على أن أنسب موعد لاغتيال نجيب محفوظ مساء الخميس داخل شقته عن طريق اقتحام المنزل بحجة إعطائه بعض الهدايا بصفتنا من أشد المعجبين به، واتفقنا على شراء باقة من الورود، وكانت الخطة هى طعنه فى صدره بالسلاح الأبيض بمجرد مصافحته. 

وطبقًا لاعترافات ناجى، ففى الموعد المحدد توجه الجميع إلى منزل نجيب، وتنكر الإرهابى باسم محمد خليل فى زى عربى، وارتدى زميله محمد ناجى زى سائق لثرى عربى، وقام باقى الإرهابيين بتأمين المكان. 

ذهب باقى الإرهابيين لشراء باقة الورد لكنهم تأخروا كثيرًا، ما تسبب فى تأخير تنفيذ عملية الاغتيال، ورغم ذلك اقترح باسم دخول شقة نجيب محفوظ للتعرف على محتوياتها وكيفية تنفيذ الجريمة، وطرقوا باب الشقة وخرجت لهم ابنته، وطلبوا منها مقابلة والدها لكنها اعتذرت وأخبرتهم بأنه لا يقابل أى شخص بمنزله، وإذا كانوا يريدون مقابلته فعليهم التوجه إلى كازينو قصر النيل، حيث يعقد ندوته الأسبوعية مساء كل جمعة، وقامت ابنته بتحديد موعد خروج والدها من المنزل فى تمام الساعة الخامسة. 

فى هذه اللحظة بدأ أعضاء الخلية التفكير فى تغيير خطة الاغتيال عن طريق اقتحام المنزل، وإطلاق الرصاص عليه، واتجهوا للاستعانة بإرهابى يدعى وحيد يعلمون جيدًا أنه متخصص فى القتل باستخدام الأسلحة النارية، وقد تمت مقابلته الساعة الرابعة فجر الجمعة للاتفاق معه على عملية الاغتيال. 

فى الخامسة من مساء الجمعة توجه محمد ناجى وعمرو محمد على إلى بيت نجيب محفوظ على أن تكون مهمتهما تأمين المكان خلال قيام وحيد بتنفيذ خطة الاغتيال باستخدام الرصاص. 

خلال هذه اللحظة خرج نجيب من منزله، وكان المكان شديد الزحام، فوجد محمد ناجى الفرصة سانحة لقتل نجيب محفوظ فورًا بالسلاح الأبيض، خصوصًا أن شباك السيارة كان مفتوحًا، ولم يتردد فى تنفيذ جريمته وفر هاربًا، وفوجئ باقى الإرهابيين بهروبه فقاموا بمتابعته واللحاق به حتى وصولًا إلى كوبرى ٦ أكتوبر وأخبرهم بإتمام نجاح العملية. 

حضر المحلاوى شريك ناجى فى محاولة الاغتيال، واعترف بأنهم كانوا قد أعدوا كمية كبيرة من المفرقعات والقنابل والأسلحة للقيام بسلسلة أعمال إرهابية فى دور السينما والمسارح والأماكن الحيوية، وكذلك اغتيال عدد كبير من الكتاب والمفكرين والصحفيين ورجال الشرطة لقيامهم ضد الجماعات التى ينتمون إليها. 

بدأ تفكيرهم يتجه إلى نجيب محفوظ تحديدًا لاختلاطه بالمواطنين وعدم وجود حراسة مرافقة له. 

كان محمد ناجى من أتباع عمر عبدالرحمن، وقد اعترف بأنهم كلفوا أحدهم بقراءة «أولاد حارتنا»، وأنهم أرسلوا تقرير القراءة إلى قيادات الخارج- فى السودان- طالبين الفتوى، وأن أحدهم سافر عن طريق السودان وتسلم الفتوى بقتل نجيب محفوظ. 

فى أوراق القضية يمكننا أن نتوقف قليلًا عند اعترافات المتهم الرابع حسين على بكر عوض، لأنها جاءت كاشفة ليس لخطة اغتيال نجيب محفوظ فقط، ولكن لما كانت تخطط له الجماعة الإسلامية وقتها. 

يقول عوض: بدأت التزامى الدينى عن طريق رجل يسكن بجوارى ويدعى أحمد هاشم، الذى طلب منى أن أذهب معه إلى مسجد الهدى النبوى بعزبة معروف بعين شمس، وهناك تدعو جماعة القطبين إلى الدين ولا دخل لهم بأمور الحكم أو السياسة، وفى هذا المسجد تعرفت على شخص يدعى جلال محمود سيد الذى انتقل من جماعة القطبين إلى الجماعة الإسلامية، وتعرفت من خلاله على ثلاثة أشخاص- طارق مرسى وشريف خليل وخالد النظامى- وهم من جناح الدعوة بالجماعة. 

وبعد أن أصبحت عضوًا فى الجماعة تكلم معى أحد أعضائها ويدعى سامر صالح وهو طالب بالمعهد الأزهرى وفلسطينى الجنسية، وتحدث معى عن الأدلة القرآنية التى لا أتذكر منها شيئًا، وكل ما أتذكره الآن أنه قال: يجب إقامة خلافة إسلامية فى مصر بالقوة، وذلك بتفجير محال الخمور ونوادى الفيديو وما شابه ذلك، وكذلك اغتيال الوزراء والمسئولين وضباط الشرطة.

كان أعضاء الجماعة يتبرعون من أموالهم لتمويل أعمالهم، وكنت أنا القائم على صندوق التبرعات، كنت أجمع هذه الأموال وأسلمها إلى أحمد مرشد المسئول عن الجماعة بمنطقة عين شمس، الذى كان يسلمها بدوره إلى ثروت حجاج من القيادات الكبيرة داخل الجماعة

كان تنظيم الجماعة الإسلامية يبدأ مع أعضائه دائمًا بإعطاء عناصره فكرة غير واقعية عن حجم هذه الجماعة وعملها، فقد كان لها فى مصر أميرًا عامًا وهو غير معروف إلا للقيادات التنظيمية الكبيرة، ولذلك فأنا لا أعرفه، ولكن المفتى العام للجماعة الإسلامية هو الدكتور عمر عبدالرحمن الموجود- حاليًا- بالولايات المتحدة الأمريكية، ويوجد فى كل محافظة أمير، وفى كل مدينة من مدن هذه المحافظات مسئول عن الجماعات داخلها، وفى كل محافظة يوجد جناح عسكرى، والمحافظة الوحيدة التى يختلف فيها وضع الجماعة نتيجة للأمن المكثف داخلها هى محافظة القاهرة فهى تنقسم إلى مناطق لكل منطقة مسئول عن الجماعة وجناح عسكرى.

كما قد خططنا لاغتيال كاتب يدعى نصر حامد أبوزيد، أستاذ بجامعة القاهرة، والذى حدد اغتياله عضو التنظيم مصطفى صديق، ورغم اتفاقنا على عملية الاغتيال مع بعض أعضاء التنظيم إلا أننى لم أعرف السبب وراء اغتياله. 

لقد وضع مصطفى صديق خطة الاغتيال بأن يذهب إلى مسكنه بالهرم ويطعنه بسكين، وأراقب أنا مع شخصين آخرين- أحدهما يدعى طارق مرسى والآخر على ولا أعرف باقى اسمه- الطريق.

ولكن لم نحدد موعد تنفيذ العملية. 

كما قال لنا عضو التنظيم مصطفى صديق إننا سنقوم بتفجير سينما هليوبوليس لأنها تعرض فيلم الإرهابى، وقد أحضر لنا لوحة رقمية ورسم مخارج ومداخل السينما وأين توضع المتفجرات، كان مصطفى يخفى المتفجرات فى منزله، ولكن أجهزة الأمن ألقت القبض على هذا العضو، ولذلك لم ننفذ أى عمليات اقترحها.

وكان مصطفى يتلقى التكليفات من شخص يدعى باسم محمد خليل الذى التقيت معه وأمرنى بمراقبة سيارة تصل- يوميًا- الساعة ٧.٤٥ إلى شارع جنينية الشريف، وقمت بتنفيذ المهمة ودونت أرقام السيارة دون معرفة الأسباب وراء المراقبة لهذه السيارة ولم يخبرنى هو بالأسباب.

باسم خليل عضو التنظيم هو الذى ربطنى بمحمد ناجى وعمرو محمد إبراهيم ومحمد المحلاوى، وهم جميعًا اشتركوا فى محاول اغتيال نجيب محفوظ. 

خططنا لاغتيال نجيب محفوظ لأنه سب الله ورسوله وأمهات المؤمنين فى قصة من قصصه، وأعتقد أنها زقاق المدق أو أولاد حارتنا، ولكن لم أقرأ أيًا من القصتين من قبل ولم أقرأ أى قصة من قصص الأديب، وقد سرد لنا محمد المحلاوى حديثًا شريفًا لا أتذكره ولكن معناه أن من سب الرسول أو أهل بيته يجب أن يقتل، وبعد ذلك كلفنا بوجوب قتل الأديب، ووضع الخطة لعملية اغتيال وقتل من يتدخل من رجال المرور أو الشرطة عند تنفيذ العملية وحتى نتمكن جميعًا من الهروب، وكنا سنستخدم فى ذلك القنابل التى أعدها باسم خليل والطبنجات، وكان اقتراحه فى بداية الأمر اغتيال الأديب بالقنابل والطبنجات. 

يوم تنفيذ العملية لم نصل جميعًا صلاة الجمعة لأن ظروفنا منعتنا من أداء صلاة الجماعة، وأشار المحلاوى ونحن فى طريقنا لاغتيال الأديب إلى فيلا بالمهندسين يحرسها اثنان من جنود الأمن أحدهما يحمل سلاحًا آليًا والآخر جهازًا لا سلكيًا، وأن شخصًا ما سوف يأتى لنا بسيارة لتنفيذ العملية بإطلاق الرصاص على الحارسين. 

بعد عملية محاولة اغتيال الأديب تناقشنا فى محاولة لاغتيال رئيس المحكمة العسكرية العليا وقتل الحارسين اللذين يقفان أمام منزله، وقد أشار المحلاوى ونحن فى طريقهما لتنفيذ عملية اغتيال الأديب إلى شقة بمنطقة الدقى يسكنها مستشار وقال لنا: إننا سوف نقتل ابنه لأنه يعمل ضابطًا فى مباحث أمن الدولة، كما اتفقنا فيما بيننا على تفجير مترو الأنفاق وجراجات هيئة النقل العام والمنشآت العامة واتفقنا على قتل جنديين يحرسان فيلا بالدقى وسرقة سلاحهما لاستخدامهما فى العمليات الإرهابية.

وأمام النيابة تحدثت أيضًا زوجة نجيب محفوظ السيدة عطية الله إبراهيم رزق- ٥٧ سنة- واستمر التحقيق معها لمدة أربع ساعات وأجراه معها رئيس النيابة هشام بدوى فى مبنى النيابة بمصر الجديدة. 

قالت فى اليوم السابق للحادث زارها شخصان فى الساعة السادسة مساءً، ولم يكن نجيب محفوظ بالمنزل، وتحدثوا إليها «بالإنتركم» بلهجة خليجية مصطنعة، وطالبوا برؤية الأستاذ واعتذرت لهم لعدم وجوده، فطلبوا منها فتح الباب لتسلم بعض الهدايا للأستاذ، وبالفعل فتحت الباب فوجدت شابين فى مقتبل العمر أحدهما يرتدى زيًا عربيًا- جلبابًا وعقالًا وطرحة، وقالا إنهما سيغادران القاهرة غدًا فردت عليهما بأنه يمكن رؤية الأستاذ فى ندوة الساعة الخامسة من مساء اليوم التالى فى كازينو قصر النيل، وانصرف الشابان، وعندما عاد نجيب محفوظ لى التاسعة مساءً أخبرته بهذه الزيارة، وجلس يبحث عن بطاقات تثبت هوية الشخصين فى الهدايا ولكن لم يجد شيئًا. 

وأكدت عطية الله أنها تستطيع التعرف على الشخص الذى سلمها الهدايا، ولكن الآخر فمن الصعب عليها التأكد منه لأن غطاء الرأس كان يخفى جانبًا كبيرًا من وجهه، ولأنها لم تكن ترتدى النظارة، ومن المنتظر أن يتم عرض المتهمين فى القضية على زوجة نجيب محفوظ فى وقت لاحق. 

أما نجيب محفوظ فقد قال أمام النيابة: إن عمر عبدالرحمن أصدر فتوى بإهدار دمى عام ١٩٨٨ عقب حصولى على جائزة نوبل، وأن أحد الصحفيين الكويتيين أبلغنى بهذه الفتوى، وتأكدت من صحتها عندما شاهدت المطواة تسقط من رقبتى فوق ملابسى وكانت مخضبة بالدماء. 

نزلت من منزلى مساء الجمعة الماضى فى موعدى بصحبة صديقى الدكتور محمد فتحى هاشم فى طريقنا إلى الندوة الأسبوعية بكازينو قصر النيل، وبمجرد جلوسى على المقعد المجاور للسائق أغلق صديقى باب السيارة، ولحظتها فوجئت بوحش كاسر أو كلب ولف ينهش رقبتى، واعتقدت أنه كان معى داخل السيارة، لأن جسده بالكامل دخل من الزجاج الذى كان مفتوحًا، وبعد أن سقطت المطواة شاهدت المجرم من ظهره، وهو يجرى مسرعًا. 

وقال: لم أكن أعرف من هو عمر عبدالرحمن إلا عندما أبلغنى صديق صحفى كويتى عقب حصولى على جائزة نوبل عام ١٩٨٨ أن عبدالرحمن أصدر فتوى أباح فيها دمى، وذكر فيها أن الجماعة إذا كانت تخلصت من محفوظ لما ظهر سلمان رشدى، ولم أهتم بهذه التهديدات لأنه لا يوجد أعداء لى، وبعد ٦ سنوات تأكدت بالفعل من حقيقة هذه الفتوى، ومرتكبو الحادث وغيرهم من أنصار هذه الجماعات لم يقرأوا أولاد حارتنا، كما أن لى كتابات عديدة لم يقرأها أى منهم. 

فالرواية لا تتعارض مع الأديان أو الذات الإلهية، فهى تعرض تصورًا للخير والشر، لكن هؤلاء فسروا الرواية حسب هواهم واتخذوا من تفسيرهم لها هدفًا ضدى، وليتهم قرأوها أو قرأوا كتاباتى حتى يمكنهم مناقشتى وسماع أقوالى قبل قتلى دون محاكمة، فهذه الجماعات خاوية بدون فكر أو عقل. 

وقال نجيب: لم أصدق أن رواية صدرت عام ١٩٥٩ ونشرت على صفحات الأهرام تتخذ الآن سندًا بأننى مرتد، فالرواية ليس فيها اجتراء على الذات الإلهية، وهى مثل كليلة ودمنة، توجد عالمًا متطورًا لتوحى بعالم وراءه، بل ذكرت فيها أن الدين لعب دورًا فى تطوير البشرية والدفاع عن أبنائها باسم المبادئ الإلهية. 

واعتبر الكاتب الكبير أن رواية أولاد حارتنا أول تبشير لالتحام العلم والإيمان، يقول: الدين أنقذ البشرية من المظالم، والعلم قادر على الرقى بها، بشرط عدم الحيدة بمبادئ الدين وهى لا تتضمن ارتدادًا أو كفرًا فالجماعات الإرهابية اتخذت الرواية وسيلة لقتلى دون سبب، فهؤلاء لا يقرأون القصص الأدبية بعين أدبية، والقول إننى كافر افتراءً وصادر عن أشخاص لا يعرفون دينهم الصحيح، فمن أدراهم أننى لم أعد لصوابى على فرض ما يدعون، فليس عندهم القدرة على الحوار لأنهم لم يأتوا لمناقشتى فيما كتبت، بل أخذونى غدرًا، فهؤلاء الإرهابيون يغالون فى الدين، لأن الدين نفسه عرض قصة الخير والشر، ورواياتى تقوم حول مفاهيم واضحة. 

تم تحويل القضية إلى المحكمة العسكرية وبعد نظرها فى عدة جلسات أصدرت يوم ١٠ يناير ١٩٩٥ أحكامًا بالإعدام على اثنين من المتهمين، وبالأشغال الشاقة على آخرين، وبالأشغال الشاقة ١٥ سنة على متهم واحد، وبالأشغال لمدة ٧ سنوات على متهمين، وبالأشغال لمدة خمس سنوات على متهم واحد، وبالأشغال لمدة ٣ سنوات على خمسة متهمين، وبراءة ثلاثة متهمين، بتهم ارتكاب جرائم القتل وحيازة أسلحة وذخائر دون ترخيص وحيازة محررات رسمية مزورة. 

وفى فبراير ١٩٩٥ تم التصديق على الأحكام، وفى ٢٩ مارس ١٩٩٥ تم تنفيذ حكم الإعدام شنقًا فى الإرهابيين محمد ناجى محمد مصطفى ومحمد خضير أبوالفرج المحلاوى اللذين أصدرت المحكمة العسكرية العليا قرارًا بإعدامهما فى القضية التى حملت رقم ٢٤ لسنة ١٩٩٤. 

تم التنفيذ فى سجن الاستئناف بالقاهرة، واستغرقت إجراءات التنفيذ ساعة واحدة، حيث تم التنفيذ أولًا فى الإرهابى محمد ناجى، عمره ٢١ سنة حاصل على دبلوم صناعى، ثم الإرهابى محمد خضير المحلاوى وعمره ٢٢ سنة كان طالبًا بالمعهد الفنى ببورسعيد.