آفة حارتنا الثقافية.. متى نتوقف عن الحركة فى المكان؟
- المهمة الآن فى البحث عن حلول عملية وواقعية ومنطقية وطرحها فى المجال العام دون تعالٍ
- لقد تعرضت الشخصية المصرية وعبر عقود طويلة وممتدة إلى تجريف ممنهج والآن هى تجنى الحصاد المر
كانت لدى المفكر الكبير جمال حمدان نظرية مهمة يقرأ من خلالها حركة التاريخ ويفسر مجرياته المتعاقبة، ويشرح على هامشها صعود أمم وانهيار أخرى، ويضع ما يمكننا اعتباره حلولًا سحرية للخروج من مآزقنا الممتدة.
كانت النظرية تقوم على أن حركة التاريخ دائمة، ولكن اتجاهها ليس ثابتًا، والعهد بها أنها تكون إلى الأمام خطوتين مرة.. وإلى الوراء خطوة مرة أخرى.
فى سنواته الأخيرة- مات موتًا غامضًا فى ١٧ أبريل ١٩٩٣- أجرى حمدان تعديلًا على هذه النظرية، فعندما سألوه عما يحدث فى مصر وما يجرى لها وبها وعليها، وكيف يقرأه فى ضوء نظريته؟
قال: فى مصر لدينا الآن بعد مغاير تمامًا، فحركتنا ليست إلى الأمام خطوتين ولا إلى الوراء خطوة واحدة.. نحن نتحرك عن عمد إلى أسفل.
يقفز أمامى ما قاله جمال حمدان دائمًا وأنا أقلب فى أوراق أرشيف الصحافة المصرية، وهى هواية تلازمنى منذ درست مادة تاريخ الصحافة المصرية فى السنة الثالثة بقسم الصحافة بكلية الإعلام جامعة القاهرة، وعندما أعددت رسالتى للماجستير فى تخصص تاريخ الصحافة، وتحديدًا فى الفترة من ١٨٧٧ وحتى العام ١٨٨٢، وهى الفترة التى شهدت مقدمات وأحداث الثورة العرابية، بما فيها من ملابسات وتفاصيل وشد وجذب وصعود وهبوط فى المجتمع المصرى.
أمسكت بيدى أوراق الصحف المصرية التى صدرت خلال القرن التاسع عشر، تجولت فيها لأعرف ما الذى كان عليه الناس، وعندما ناقشت رسالة الماجستير وحصلت على الدرجة العلمية، لم أودع الهواية التى اكتسبتها، وظل معى أرشيف الصحف المصرية أنيسى ومؤنسى ومعينى على فهم كثير مما يدور حولنا.. فلا شىء فى حياتنا جديد على الإطلاق، وكأننا نشاهد الفيلم نفسه دون زيادة ولا نقصان.
أوراق الصحف المصرية عبر عقودها المختلفة- فى العام ٢٠٢٨ تتم من عمرها ٢٠٠ عام- تقول لنا شيئًا واحدًا هو أننا أبناء النخبة الفكرية والصحفية بتطبيق عملى وحرفى، للإضافة التى وضعها جمال حمدان على نظريته، فنحن لا نتقدم إلى الأمام خطوتين، ولا نتراجع إلى الخلف خطوة، ولكننا نتحرك بإصرار شديد وربما بتعمد صارخ يصل إلى درجة العند إلى الأسفل.
منذ سنوات كنت أجلس مع واحد من المهندسين المعماريين أصحاب السمعة الطيبة.
سألنى: هل تعرف الفارق بيننا وبين الدول المتقدمة؟
حاولت أن أتفلسف، تحدثت عن اختلافات كثيرة فى نمط التفكير ونمط السلوك، وحاولت أن أستعرض معلوماتى أمامه عما حققته الدول الغربية فى مجالات العلم والفكر والثقافة والتكنولوجيا، بينما نحن مجرد مستهلكين لما ينتجون ويبدعون، وهو ما جعلنا عالة ليس عليهم فقط، ولكن على حركة التاريخ نفسها.
تخفف المهندس المعمارى قليلًا مما قلت له، سحب نفسًا عميقًا من سيجارته، وقال لى: اسمع.. بدون فلسفة، هناك فارق وحيد وعميق بيننا وبين الغرب.. هم يسيرون فى خط مستقيم إلى الأمام.. أما نحن فنسير فى دائرة.
قد يكون فيما قاله المهندس المعمارى تفسير دقيق وحكيم لما نجد عليه حالنا نحن أبناء النخبة الثقافية والصحفية، فنحن بالفعل نتحرك فى دائرة، نبذل جهدًا كبيرًا وخارقًا لنعود لنفس النقطة كل مرة، نناقش القضايا نفسها بالمفردات نفسها مرة أخرى، لم نستطع حسم القضايا الأساسية والجوهرية المتعلقة بالدين والهوية والمرأة والغرب والديمقراطية والحرية.. فنطرق بابها كثيرًا بالأفكار والآراء نفسها، دون أن نبنى على ما توصل إليه من سبقونا.
إننا حتى لم نستقر على مهمة المثقف ودوره فى حياتنا العامة.
ينظر رجل الشارع العادى- الذى لا يطمح من خلال جهده الذى يبذله إلا للحصول على ما يحفظ له كرامته- إلى المثقف على أنه رسول العناية الإلهية إليه، المنقذ الذى يستطيع من خلال أفكاره أن يقدم له حلولًا سحرية لمشكلات حياته.
لكن المثقف المصرى- والعربى بالمناسبة- ينظر إلى نفسه بشكل مختلف تمامًا، فهو ليس رسول العناية الإلهية، وهو ليس منقذًا ولا يحزنون، بل هو فقط من يقوم بدور التشخيص للمرض والداء، وليست له علاقة لا بتوصيف الدواء ولا حتى المساهمة فى تقديمه.
بعد أحداث يناير ٢٠١١ كانت هناك أزمة فعلية، البحث عن قيادات تعمل من خلال مؤسسات الدولة كان متعسرًا بشكل كبير، فالأسماء المطروحة على الساحة من التنفيذيين مشكوك فى ولائهم للثورة ولمن قاموا بها، فبدأ البحث فى دفاتر المثقفين المصريين، على الأقل ليقودوا العمل فى الوزارات التى ترتبط بالعمل الثقافى والتعليم والبحث العلمى.
تم التواصل مع أكثر من عشرة مثقفين- لدىّ أسماؤهم بالمناسبة- وعرضت عليهم جميعًا مناصب وزارية، لكن المفاجأة التى كانت فى انتظار من يديرون شئون البلاد وقتها هى رفض المثقفين العشرة المناصب التنفيذية.
كان الرفض مشفوعًا بما اعتبروه أساسًا وفلسفة ومنهجًا.
فهم يرون أنفسهم فى دور الكاتب الناقد الذى يرشد المجتمع إلى مواطن الخلل، لكنهم لا يمكن أن يشاركوا فى عمل تنفيذى لعلاج الخلل.
لم يقولوا وقتها إنهم غير قادرين على العمل التنفيذى، وأن هناك غيرهم من يمكنه أن يقوم بذلك، ولكنهم أعطوا من تواصلوا معهم محاضرة طويلة عريضة عن المثقف وأبعاد دوره فى منظومة المجتمع، وكان الهدف منها هو الهروب من المشاركة فى محاولات الإنقاذ التى كانت تبذل لانتشال مصر من حالة الفوضى التى دخلتها، وكنا جميعًا شهودًا على وقائعها.
وقبل أن تعتقد أننى عرفت هذه الوقائع ممن عرضوا على المثقفين المناصب الوزارية، سأقول لك إن الأمر لم يكن سرًا، فقد تحدث هؤلاء المثقفون فى حوارات صحفية نشرت بشكل علنى عن هذه العروض، وتفاخروا بأنهم رفضوا المناصب للتدليل على نزاهتهم وتعاليهم على المكاسب المادية، وأنهم لا يريدون سوى إصلاح المجتمع، ولا ينتظرون مقابلًا لما يقومون به.
منهج فاسد بالطبع.. وهروب كامل من المسئولية.. وتحجج بمنطق مغلوط.
ولكنهم للأسف الشديد وجدوا من يهلل لهم ويثنى على ما فعلوه.
حالة الرفض التى قام بها المثقفون العشرة- وقد يكون آخرون قاموا بذلك أيضًا- تجسد أمامى الفكرة التى اعتبرها تمثل أحد الداءات التى نعانى منها بشدة.
فنحن بارعون جدًا فى الاتفاق على ما نرفضه.. لكننا لسنا كذلك فى الاتفاق على ما نريده.
فى ثورتى ٢٥ يناير و٣٠ يونيو تجسد هذا الداء.
فى الأولى اجتمعنا على رفض نظام مبارك.
وبعد أن تخلى عن منصبه رغمًا عنه تحولنا إلى أشلاء مبعثرة، تنظيمات وائتلافات وأحزاب وجماعات وجمعيات، كل منها يريد جذب الوطن إلى الوجهة التى يريدها، ويصر على أنها الوجهة الصحيحة، وفى ظل هذا الاختلاف وقعت مساخر هائلة.
وقتها تحققت نبوءة محمد سعد فى فيلمه «عوكل»: إيه اللى جاب القلعة جنب البحر، عندما وقف رموز العمل السياسى الليبرالى والعلمانى إلى جوار مرشح جماعة الإخوان الإرهابية فى مؤتمر فيرمونت الشهير يمنحونه تأييدهم وأصواتهم.
وفى الثانية توافقنا جميعًا على رفض جماعة الإخوان الإرهابية.
وبعد أن سقطت، كان المفروض أن نتوافق على بنود خارطة الطريق التى أعلنها وزير الدفاع فى اجتماع ٣ يوليو ٢٠١٣، لكن وجدنا من يخرج عن الصف، وتحولت الساحة إلى ما يشبه الاقتتال الداخلى، ولولا قوة وصلابة وصمود الجيش المصرى كنا تحولنا إلى ساحة إلى الحرب الأهلية التى لم يكن يعلم مصيرها ولا مصيرنا إلا الله.
هذه الآفة «اجتماع على ما لا نريد.. وتفرق أمام ما نريد» ليست فى الأصل إلا ترجمة حرفية لآفتنا الكبرى التى أشار إليها جمال حمدان، وهى أننا نتحرك إلى أسفل، لا إلى أمام ولا إلى وراء.
يعتقد كثيرون أن مشكلتنا الكبرى التى نعانى منها هى مشكلة اقتصادية بالأساس.
ورغم أننى لا أنكر ذلك أبدًا، فتجليات الأزمة الاقتصادية ظاهرة للعيان، انعكاساتها واضحة على الجميع، لا أحد ينكرها، لا من المسئولين ولا من الشعب، إلا أننى أعتقد أن مشكلتنا فى الأساس ثقافية.
إننا نناقش كل الحلول الممكنة للأزمة الاقتصادية، لكننا لا نلتفت إلى أن الحل ثقافى، يكمن فى قناعاتنا وسلوكنا واقتناعنا الكامل والتام بأننا نستطيع أن نتغلب عليها إذا غيرنا سلوكنا الاستهلاكى على الأقل حتى تنتهى الأزمة.
وقد تعترض وتقول: إذا كانت الحلول موجودة ومطروحة فى عرض الطريق، فلماذا لا نستطيع أن نخرج من أزمتنا الاقتصادية؟
أقول لك: لأننا نتحرك فى المكان طول الوقت، نلف فى الدائرة، نعيد ونكرر ما نعرفه جميعًا، دون أن تكون هناك رغبة فى أن نفعل شيئًا، نكتفى بالجدل الهائل حول المشكلة، نلقى باللائمة على بعضنا البعض، دون أن تتقدم الأطراف جميعها لتتحمل مسئوليتها.
لقد تعودنا أن ندور حول مشاكلنا، لا نقترب من سرتها وبؤرتها وقلبها، نكتفى بالطواف حول أسبابها وأعراضها ونتائجها، لكن لا نقترب بجدية من حلولها، لأن الحلول مكلفة، ونحن لا نريد أن ندفع تكلفة شىء، مهما كانت هذه التكلفة صغيرة.
يمكنك أن تقول ذلك عن مشكلتنا الاقتصادية، ومشكلتنا الاجتماعية، فالحلول لها جميعًا أمامنا وفى أيدينا، لكننا غير قادرين على حسم موقفنا، لا نستطيع أن نتقدم خطوة واحدة إلى الأمام، وكأننا ننتظر من يتقدم ليتحمل عنا عبء الحلول، والمشكلة الأكبر التى نعانى منها وبشدة أننا لا نساعد من يتقدم لتقديم الحلول، بل نضع فى طريقه العراقيل ونجلس لنتفرج عليه، وعندما لا يحقق النتيجة التى ننتظرها نسخر منه ونحمل عليه ونحيل حياته إلى جحيم، ونطالبه بالرحيل.
لقد تعرضت الشخصية المصرية وعبر عقود طويلة وممتدة إلى تجريف ممنهج، والآن هى تجنى الحصاد المر لهذه الحالة التى أحالت معظمنا إلى أشباح تتخبط فى بعضها البعض داخل غرفة مظلمة، لا هى قادرة على إدراك ما ألم بها، ولا هى قادرة على أن تنهى حالة التخبط التى تعانى منها.
كانت العقيدة الراسخة لدى العالمين بتضاريس الشخصية المصرية تؤكد أننا فى وقت الشدائد نستدعى العبقرية المصرية فى التعامل مع الصعاب، وهى عبقرية كانت قادرة على تجاوز أصعب التحديات وأعقدها، نفعل ذلك ببساطة شديدة أثارت إعجاب كل المراقبين بنا، لكننا الآن غير قادرين على هذا الاستدعاء؟
فما الذى جرى؟
أعتقد أن هذا هو السؤال المحورى الذى لا بد أن نتصدى للإجابة عليه.
لا يجب أن نهرب منه، أو نتجاهل وجوده.
ما الذى جرى لنا كشعب كان يتصرف فى أحلك الظروف وأظلمها بروح وثابة لا تعرف الإحباط ولا الاكتئاب ولا التردد ولا النكوص ولا الاستسلام؟
أبحث فى الأوراق التى تقذفها فى وجوهنا المطابع، دراسات سياسية واجتماعية وروايات وأشعار واجتهادات فكرية وفلسفية من كل شكل ولون ونوع، فلا أجد إلا خواء لا يتسق مع قدرتنا على الإبداع.
كنت أعرف أن ما مرت به مصر من أحداث فوضى وانفلات سيكون لها أبلغ الأثر على أفكارنا وسلوكنا، فما مرت به مصر ليس بسيطًا ولا عابرًا، لكننى لم أتوقع أبدًا حالة استسلامنا لما جرى بهذه الطريقة المخزية.
وهنا تقع المسئولية الكاملة فيما أرى على عاتق من نتعامل معهم على أنهم النخبة الفكرية فى مصر، هؤلاء الذين أصابهم هم أيضًا داء الحركة فى المكان وآفة الاتجاه إلى أسفل، عليهم أن يفيقوا من غفلتهم، أن ينفضوا عن أنفسهم غبار البلادة والجمود والسكون.
توصيف المشكلة لم يعد عسيرًا، رجل الشارع العادى البسيط يمكنه أن يقوم بتوصيف حقيقى وكامل لما نعانى منه.
المهمة الآن فى البحث عن حلول عملية وواقعية ومنطقية وطرحها فى المجال العام دون تعالٍ ولا جلد للذات، وبغير ذلك فلن ينجو أحد على الإطلاق.
يعتقد المثقفون فى حينها أن دورهم يتوقف عند توصيف ما يجرى.
وأذكر أن كاتبًا ومفكرًا كبيرًا كان يجرى حوارًا مطولًا عن مصر أين وإلى أين.
وبدأ فى رسم صورة سوداء كئيبة لما يحدث.
سألته المذيعة بالقرب من نهاية الحوار: هل يمكن أن تقول لنا شيئًا إيجابيًا.. هل هناك ما يجعلنا نتفاءل؟
فهز رأسه وقال: للأسف الشديد لا يوجد شىء يمكننا أن نعول عليه.
آفة مثقفينا أنهم لا يقدرون على صناعة الحياة ليسعد بها الناس.. يجتهدون فقط فى رسم صورة سوداء، رغم أن هناك على الجانب الآخر دائمًا ما يدعونا إلى أن نتفاءل ونعتقد أن الحياة أجمل.
فمن أين لنا بهؤلاء الآن؟