الخميس 12 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الوطن الذى يذهب لا يعود.. درس حلب.. وكل حلب

حرف

منذ دخلت الفصائل المسلحة حلب، أصبح طقسى اليومى فى متابعة الأخبار يبدأ بقنوات «التليجرام»، التى تبث ما يحدث على الأرض السورية دقيقة بدقيقة، ثم بعد ذلك أتابع ما وراء الأخبار عبر مصادر متعددة ومختلفة، محلية ودولية. 

علمتنى الصحافة، منذ زمن طويل، أن أتابع الأحداث بلا قلب، فأنا لست طرفًا فيها، فقط أجمع ما تفرق من الأخبار، أضعها إلى جوار بعضها البعض لتكتمل الصورة، حتى القصص الإنسانية التى نحرص على صياغتها على هامش الوقائع الكبرى لا أسمح لها بالنفوذ إلى روحى. 

عرفت مبكرًا أننى لو سمحت بذلك، فلن يهنأ لى العيش بهدوء.

وأنا كل ما أسعى إليه هو الطمأنينة والسلام. 

قبل ٢٠١١ كانت الصحافة مهنة هادئة مسالمة، حتى المظاهرات والاعتصامات التى كانت تأتينا تغطياتها لم تكن فى النهاية سوى حراك صاخب، لم تصل إلى العنف والدم إلا فى ٢٨ يناير ٢٠١١، عندما أصبحت أخبار مَن يتساقطون فى الميادين هى سيدة الموقف. 

بعد ٢٠١١ أصبحت الصحافة ترجمة حرفية لحالة الحرب التى دخلتها المنطقة، ويبدو أنها لن تخرج منها قريبًا، فالحلقات تتعقد وتتشابك فى دائرة جهنمية تدور بسرعة مجنونة. 

مرت الثورة بتونس مرورًا عابرًا، وعندما وصلت القاهرة بدأت الدماء تنتشر على ثوب الوطن الأبيض، ازدادت دائرة الدماء فى سوريا وليبيا واليمن. 

كنا فى مصر أسعد حظًا، ربما لأن الدولة كانت مكتملة، وبيقين أننا نمتلك جيشًا ولاؤه واحد، فلا قبائل ولا عشائر ولا جماعات ولا جهات خارجية، جيش كل همه وعمله وهدفه ورسالته، أن يحافظ على أمن وسلامة ووحدة هذا الوطن. 

كنت أجلس إلى جوار أحد الطيارين الذين اشتركوا فى ضربة القوات الجوية المصرية لمواقع تمركز تنظيم داعش فى ليبيا فى ١٦ فبراير ٢٠١٥، بعد أن قام كلاب جهنم بقطع رءوس ٢١ من الأقباط المصريين، وبثوا بذلك فيديو مصورًا هدفوا من ورائه لتحقيق هدفين، الأول: بث الرعب فى قلوب كل خصوم التنظيم، والثانى: زرع الفتنة بين المسلمين والمسيحيين فى مصر. 

سألته بعد أن حكى لى تفاصيل الضربة كاملة: «فى رأيك لماذا استطاع الجيش المصرى أن يحافظ على وحدة مصر رغم كل التحديات والشائعات والفتن والتحرشات السياسية والعسكرية بمصر؟». 

قال بلا تردد وبثقة كاملة: «لأننا جيش الشعب المصرى فقط.. لا ندين بأى ولاء لأحد غيره، ولا نسعى لتحقيق أهداف فئوية». 

فى ٢٠١١، ورغم أن الثورة التى قامت كانت على الرجل الذى كان فعليًا القائد الأعلى للقوات المسلحة، فإن الجيش المصرى، وعبر المجلس العسكرى، أعلن عن أنه ينحاز إلى مطالب الشباب المشروعة، بل نزلت دبابات الجيش لتمنع الفوضى، ولتقف ضد أى محاولة لإشعال الحرب الأهلية فى البلاد. 

وفى ٢٠١٣ عندما استفاق الشعب من سكرته، وأدرك أنه وقع فى فخ الجماعة الإرهابية، وخرج ليسترد وطنه ممن اختطفوه، كان الجيش على العهد به، يساند الشعب فى مطالبه المشروعة، بل يتعهد بأنه سيقف فى وجه كل مَن يريد أو يرغب أو يخطط للاعتداء على المصريين.

فى الجلسة التى جمعت فيها القوات المسلحة كل أطياف المجتمع المصرى فى وزارة الدفاع تمهيدًا لإعلان بيان ٣ يوليو ٢٠١٣، كان القائد العام للقوات المسلحة مدركًا تمامًا الثمن الذى سيدفعه الجيش المصرى بسبب موقفه المساند للشعب. 

قال وقتها وزير الدفاع الفريق أول عبدالفتاح السيسى: «إننا نعرف أن القرار ليس سهلًا.. وإن الرد عليه سيكون بالرصاص، وقد قررنا أن نستقبل هذا الرصاص فى صدورنا حماية للشعب ونيابة عنه». 

كان وزير الدفاع يترجم ببساطة ووعى شديدين رسالة الجيش المصرى، فهو مع الشرعية الشعبية، وهو ليس معها بالتعاطف أو الشعارات أو الكلمات الإنشائية، ولكن بمسئولية واستعداد للتضحية، وهو ما حدث، فمنذ ٣٠ يونيو ٢٠١٣ تجاوز عدد الشهداء الذين ارتقوا فى الحرب ضد الإرهاب الـ٣ آلاف شهيد، هذا غير أضعاف هذا الرقم من المصابين والجرحى. 

هذا هو الدرس المصرى الذى فات على شعوب دول مجاورة، فلا شىء يمكن أن يحمى الدولة من التفتت والانهيار والتداعى؛ إلا أن تكون الدولة الوطنية متماسكة، المؤسسات فيها مكتملة، ومؤسسة الجيش فيها ولاؤها للدستور الذى يحكم هذه الدولة، ثم، وهذا مهم جدًا، ألا تكون فى الدولة جماعات أو ميليشيات أو طوائف تحمل سلاحًا يمكن أن ترفعه فى وجه الدولة. 

كنت أتعجب من استمرار المعتصمين فى رابعة والنهضة، ما الذى يمكن أن يعرفوه عن قوة الدولة، أو يتخيلوه عما تملكه من سلاح وإمكانات تستطيع من خلالها أن تفرض سيطرتها وتبسط نفوذها على الجميع؟ 

وقتها كنت أقوم بالتدريس فى إحدى الجامعات الخاصة، وكان من بين طلابى واحد من أبناء جماعة الإخوان المسلمين، والده كان قياديًا بالجماعة، وكان طالبى من بين المعتصمين فى رابعة حتى الساعات الأخيرة. 

سألته: هل كنتم تعتقدون أنكم يمكن أن تواجهوا الدولة وتنتصروا عليها؟ 

كانت إجابته مفاجئة لى، قال: كان كل القيادات فى الاعتصام يؤكد لنا أن الجماعة تمتلك مخازن سلاح تكفى لمواجهة الدولة، وأن أى قوات تفكر فى فض الاعتصام بالقوة ستجد مَن يتصدى لها بمنتهى العنف. 

قلت له: وهل كنتم تصدقون ما يقولونه لكم؟ 

قال: بالطبع كنا نصدق.. رأينا بأعيننا السلاح فى الاعتصام، وكان لدينا يقين بأن الجماعة عندما كانت تحكم كانت تخزن السلاح لمثل هذا اليوم، ما جعلنا نبقى فى الاعتصام حتى نهايته. 

خرج هذا الشاب من الجماعة، ليس لأن الجماعة خدعته وضحكت عليه، فقد كانت تمتلك السلاح الذى جعلها تعتقد أنها يمكن أن تواجه الدولة، وتظن أنها يمكن أن تكسر جيشها وشرطتها، ولكن لأنها لم تفهم أن الجيش الموحد لا يمكن قهره. 

وكان هذا للمرة الثانية، هو الدرس المصرى الذى لم تفهمه الجماعة ولم تستوعبه الجماعات الإرهابية التى رفعت السلاح فى وجه الدولة المصرية، ومنت نفسها بأنها يمكن أن تنتصر عليها. 

حرصت مصر أن تصدّر هذا الدرس للعالم، أعلت من قيمة الدولة الوطنية، قالت إنها هى وحدها القادرة على حماية الأوطان والحافظة لاستقرارها والأمينة على أرواح شعوبها. 

لم ينصت كثيرون للدرس المصرى، وراح كل شعب يبحث عن درسه معتصمًا باعتقاده بأنه يمكن أن ينجو بعيدًا عن التجربة الوحيدة الحقيقية فى المنطقة. 

منذ سنوات كان هناك دفع مهم فى المجال العام المصرى، بأننا نتحمل أكثر مما يتحمله الآخرون، وتحديدًا اقتصاديًا، حتى لا نكون مثل الدولة الفلانية أو الدولة العلانية. 

ورغم وجاهة هذا الطرح، فكل شىء له ثمن فى حياة الأفراد وحياة الدول أيضًا، إلا أنه كانت هناك سخريات لزجة لاحقت هذا الطرح، ووصفه البعض بأنه هروب من المسئولية وتهرب من المواجهة، أو أنه على الأقل شماعة تعلق عليها الدولة إخفاقاتها، كما كان يراها أو يعتقدها هؤلاء. 

وكان هناك طرح آخر، فعندما قام الجيش بتسليح نفسه بأحدث الأسلحة وأقواها، خرجت صيحات زاعقة وصارخة تسأل- فى سذاجة-: لماذا كل هذا السلاح؟

وما الذى يمكن أن نفعله به؟ 

ولماذا لا نوفر كل هذه الأموال الطائلة التى ندفعها فى شراء السلاح ونوفرها للأكل والشرب؟ 

وذهب مَن قالوا ذلك- وتصوروا هذا المنطق المتهافت- إلى أن السلاح ليس أولوية. 

وفى كل مرة كان يمر علينا درس من إحدى الدول التى تتعرض للتفكك، نقول لهؤلاء: هل عرفتم لماذا كان الجيش المصرى يعزز تسليحه؟ 

كانوا يلتزمون الصمت، ليس لأن طرحهم ظهر زيفه، ولكن لأنهم فيما يبدو كانوا يريدون أن يظل ظهر الدولة مكشوفًا، حتى ما إذا استُهدفت تكون غير قادرة على المقاومة والدفاع عن نفسها أو ردع مَن يحاول الإيقاع بها. 

توالت الدروس، حتى وصلنا إلى درس حلب. 

قد لا أكون فى حاجة إلى تفصيل ما يجرى فى سوريا الآن، فهو واضح للجميع، قد لا تنشغل مثل كثيرين بخريطة الصراع الحالى هناك، فليس مهمًا كيف بدأ ولا من أين ولا مَن هم المتصارعون؟

الأسماء ليست مهمة. 

وحتى الأهداف قد لا تشغلنا كثيرًا. 

لكن ما يجب أن نتوقف عنده هو مآلات الأمور. 

فمنذ ٢٠١١ والدولة السورية تتعرض لمحاولات تقسيم وتفتيت، وقد تم الاعتماد فى تنفيذ هذه الخطة على صناعة مجموعات وميليشيات تم تسليحها وتوفير الدعم لها؛ لتكون قوة مناوئة للدولة، ترفع السلاح فى وجهها قانعة نفسها بأن لها حقًا لا بد من الحصول عليه. 

ففى مواجهة جيش الدولة ظهر ما يسمى الجيش السورى الحر، وعلى هامش الصراع تكونت جماعات مسلحة مرت بمراحل تكوين وتشكيل، فمن جبهة النصرة إلى جبهة تحرير الشام، التى تضم فى تحالف واضح مجموعة من الجماعات المناهضة. 

كان يمكن لسوريا أن تحافظ على قوامها كدولة لو أنها تملك جيشًا واحدًا، لكن ولأن الأمر أصبح على ما هو عليه الآن، فلا يمكن أن تهنأ سوريا بأمن أو استقرار أو وحدة، فقد أتاح وجود هذه القوى المتناحرة والمتصارعة تداخل قوى خارجية. 

الأرقام لا تكذب، ورغم أنها قادرة أحيانًا على المراوغة، فإنها فى النهاية تضع أيدينا على ما يحدث. 

فمنذ أبريل من العام ٢٠١٣، بدأت القوات الأجنبية التأسيس لوجود دائم لها فى سوريا، ولك أن تتخيل أنه حتى الآن يوجد فى سوريا ما يقرب من ٥١٤ قاعدة عسكرية أجنبية، وهو رقم ضخم يقول لنا شيئًا واحدًا إن الدولة السورية لا تستطيع أن تبسط نفوذها أو سيطرتها على أراضيها. 

التمركزات العسكرية الأجنبية فى سوريا تشمل قوات أمريكية وروسية وتركية وإيرانية مقسمة على النحو التالى: ١٠٨ قواعد عسكرية، ٢٥ قاعدة عمليات، ٢ قاعدة أمنية، ٣١٣ نقطة عسكرية، ٢٢ نقطة لوجستية، و١٨ نقطة مراقبة. 

وعلى مستوى الانتشار الجغرافى، تأتى القواعد على النحو التالى: ١٢١ قاعدة ونقطة فى حلب، ٧١ موقعًا فى أدلب، ٥٧ موقعًا فى درعا، ٥٠ موقعًا فى ريف دمشق، ٣٩ موقعًا فى دير الزور، ٣٨ موقعًا فى حمص، ٣٤ موقعًا فى حماة، ٣٢ موقعًا فى الحسكة، ٢٢ موقعًا فى الرقة، ٢٠ موقعًا فى القنيطرة، ١٣ موقعًا فى السويداء، ١٢ موقعًا فى اللاذقية، ٤ مواقع فى دمشق، وموقع واحد فى طرطوس. 

هذه الخريطة تشير إلى أنه لا يوجد مكان واحد فى سوريا يخلو من الوجود العسكرى الأجنبى، ما جعلها أرضًا تتصارع عليها القوى الأجنبية، ولا مكان فيها للدولة السورية. 

وإذا أردنا الدقة، فإن الأمر ليس صراعًا داخليًا سوريًا، ولكن هناك من يخطط من الخارج، ويتربص بها، ساعيًا إلى عملية تفكيك كاملة للدولة. 

فى مساء اليوم الذى دخلت فيه الفصائل المسلحة المدعومة من الخارج حلب، وجدت من يكتب نصًا على حسابه على موقع التدوينات القصيرة «إكس»: «تحررت حلب عاصمة سوريا الاقتصادية ومهد الرجولة والفداء، وقد شاء الله أن تنطلق شرارة الثورة المباركة بعد أن سقطت حجة إيران وحزب الله ومحور المقاومة؛ بتوقيع اتفاق وقف كل أشكال المقاومة مع العدو ووقف إسناد غزة». 

صاحب هذا الحساب نفسه المعروف بانتماءاته الإخوانية المعادية للأوطان، هو نفسه مَن كتب يوم ١ يوليو ٢٠١٥ عندما هاجمت قوات تنظيم داعش كل الأكمنة والارتكازات العسكرية فى العريش للسيطرة عليها: «الليلة قد تسقط العريش بكاملها، والشرطة المصرية اختفت من الشوارع، أحد الضباط لجأ إلى أحد شيوخ العشائر فى سيناء ليجيره، واشترط عليه تسليم سلاحه». 

وكتب يومها أيضًا: «سقطت الشيخ زويد ورفح، والجيش المصرى فى العريش يستعد للانسحاب، رتل من أهل سيناء يتجه إلى بلدة بغداد على طريق نخل فى تحرك خطير». 

ما أشبه الليلة بالبارحة. 

الخطة واحدة والهجوم واحد.. والهدف واحد وهو إسقاط الدول. 

إننا الآن أمام درس من حلب، ويمكن أن نكون غدًا أو بعد غدٍ أمام درس آخر من ألف حلب. 

هذا الدرس يقول لنا شيئًا واحدًا، إن الدولة التى لا تملك جيشًا قويًا مآلها فى النهاية سيكون إلى التفكك والدمار، ما يجعل الجيش المصرى هدفًا دائمًا للكسر والهجوم، لأن مَن يريدون شرًا بمصر يدركون هذه الحقيقة جيدًا. 

فبدون جيش واحد موحد يحمل الولاء الكامل للوطن، فلن تكون هناك مصر، ولن يكون هناك شعب مصر، وهو ما ينبغى أن ندركه جيدًا.. فبدون هذا الإدراك، لن يكون لنا وجود.. أى وجود.