الأربعاء 18 ديسمبر 2024
المحرر العام
محمد الباز
المحرر العام
محمد الباز

الرقص على جثث الأوطان.. البكاء على أعتاب الجحيم السورى القادم

حرف

- منذ 2011 وسوريا ممزقة تتصارع على أرضها جماعات مسلحة مختلفة المشارب والاتجاهات

مساء ١١ فبراير ٢٠١١ كنت أتابع عن قرب ما يحدث خلف جدران الغرف المغلقة فى الساعات الأخيرة لنظام مبارك، ظلت الإشارات تتضارب، المصادر التى أتواصل معها تقول كلامًا متناقضًا، لا أحد يملك معلومة مؤكدة، الجميع يتحدثون من باب.. نعتقد.. نظن.. احتمال.. كل شىء جائز... ربما. 

كان بينى وبين ميدان التحرير دقائق، أخذت طريقى إليه وسط زحام رهيب، وعندما اقتربت من كوبرى قصر النيل، سمعت الهتاف يهز أرجاء المكان: «ارفع راسك فوق أنت مصرى». 

وجدت كل من حولى يردد الهتاف بحماس، حاولت دخول الميدان، فلم أستطع، فعدت مرة أخرى قاصدًا مكتبى، كان الشارع ينفجر من الفرحة، زغاريد تنطلق من كل مكان، صرخات تشق صدر السماء، أغان فى كل مكان، شباب وبنات يرقصون لا تسعهم الدنيا من الفرحة. 

دون قصد منى اصطدمت برجل كبير، طاعن فى السن، من ملامحه وانحناءة ظهره أدركت أنه يقف على أعتاب الثمانين من عمره، اعتذرت له وأنا أمسك بكتفيه، قال لى وهو يبتسم: النهارده عيد.. ولا حرج عليك.. الحمد لله أننى عشت حتى أرى هذا اليوم.. اليوم مصر حرة.

تركت الرجل وراء ظهرى، وعبرت على كلماته دون اهتمام، ودون أن أدرى وجدتنى أشعر بحزن شديد، تسيطر علىّ حالة من الخوف لم أعرف لها مصدرًا، شعرت بانقباضة فى قلبى، أمسكت بصدرى، وأنا أقول: ربنا يستر. 

أعدت النظر فيمن حولى ممن يرقصون تكاد الفرحة تقفز من عيونهم، وسألت نفسى: هل ما حدث يستحق كل هذه الفرحة؟ ووجدتنى أقفز بسؤالى إلى اليوم التالى، وأنا أردد بينى وبين نفسى: ما الذى يمكن أن يحدث غدًا؟ 

كان سؤال الغد هو ما يشغلنى، الفرحة- التى كانت من حق من تظاهروا- سرعان ما ستزول، ثم ستأتى الفكرة التى كنت أعرف أنها معقدة بلا شك. 

على شاشات التليفزيون رأيت فرحة السوريين بخروج بشار الأسد وعائلته من سوريا، تابعتهم وهم يوزعون الحلوى فى الطرقات، قرأت ما قالته سيدة تبلغ الستين عامًا من عمرها، تقول إن ما تحقق كان حلمًا ظل يراودها كل صباح والحمد لله أنها عاشت حتى رأت هذا اليوم، احتفالات فى شوارع وميادين الدول التى لجأ إليها السوريون خلال السنوات الماضية، ورقص متواصل ابتهاجًا بما جرى. 

لا يمكننى أن أصادر إحساس الفرحة الذى غمر السوريين، من حقهم أن يعبروا عما يشعرون به، كما من حقهم تمامًا أن يرسموا خريطة وطنهم فى السنوات المقبلة، لكن اقتحمنى السؤال نفسه: ما الذى سيحدث غدًا؟ وهل سيكون للسوريين وحدهم أن يقرروا مصيرهم؟ وأن يرسموا ملامح دولتهم بعد كل هذا العناء؟ أم أن الوضع القائم الآن على الأرض لن يسمح لهم بذلك؟ 

بعد أيام من تخلى مبارك عن منصبه كنت أركب إلى جوار سائق تاكسى، وجدته فرحًا متهللًا، اقتحمنى دون استئذان، قال لى: هى فلوس مبارك هتوصل إمتى؟ 

قلت له: أنهى فلوس؟ 

نظر إلىّ متعجبًا وكأننى لا أعيش فى الدنيا، وقال: الـ٧٠ مليار اللى هربهم بره. 

قررت ألا أصدمه بما أعرفه، فقد كانت حكاية الـ٧٠ مليار دولار مجرد كذبة نسجتها جريدة «التليجراف» البريطانية، وعادت ونفتها واعتذرت عنها، لكن أحدًا لم يلتفت إلى الاعتذار، تلقف المتظاهرون فى الميدان الكذبة، ونسجوا حولها هتافًا ردده الجميع: حسنى مبارك يا طيار.. جبت منين ٧٠ مليار؟ 

قلت لسائق التاكسى: وإيه علاقتك بفلوس مبارك؟ 

توقف فجأة والتفت لى وهو يقول: يعنى إيه علاقتى إيه؟.. الفلوس دى مش بتاعتنا؟ ولما هتيجى هتتوزع علينا، أنا مثلًا عندى أسرة فيها خمسة، أنا ومراتى وولدين وحماتى عايشة معانا، لو قسمنا الفلوس علينا، ممكن كل واحد فينا يطلع نصيبه ٥ ملايين جنيه، يعنى نصيبنا كده بالصلاة على النبى ٢٥ مليون جنيه. 

بدأت أتفاعل بجدية مع ما قاله، قلت له: ولما يبقى معاك ٢٥ مليون جنيه هتعمل بيهم إيه.. إيه المشروع اللى ممكن تحط فيه الفلوس دى؟ 

رد مستنكرًا: وأعمل مشروع ليه.. وأشتغل ليه من الأساس؟ أنا هاحط الفلوس دى فى البنك وأعيش من فوايدها... بذمتك يبقى معايا ٢٥ مليون جنيه وأشتغل؟.. دى تبقى قلة عقل. 

وجدت أن الحوار معه لن يجدى، لكننى وضعت يدى على قلبى مرة أخرى، وقلت من جديد: ربنا يستر. 

مثل هذه الأحلام البسيطة الساذجة تراود الآن السوريين الذين يحلم كثير منهم بالعودة إلى بلدهم واستئناف حياتهم من جديد، ليعوضوا ما فاتهم من سنوات الضياع والتشرد والحرمان، يستمعون إلى أن موارد بلدهم تكفى ليعيشوا أفضل من المواطن الأوروبى فى أفضل حالاته. 

لا يلتفت السوريون الآن إلى أن عملتهم فى أسوأ حالاتها، فالدولار الأمريكى يساوى ٢٢ ألف ليرة سورية، وفى مدينة حلب وصل الدولار إلى ٣٦ ألف ليرة، ولا يتوقفون فى الغالب إلى أنهم يحتاجون إلى ما يزيد على نصف تريليون دولار لإعادة إعمار ما تهدم، ولا يدركون خطورة وجود كل هذه المجموعات المسلحة التى لا رقيب ولا حسيب على سلاحها، وهى مجموعات لديها أطماعها وطموحاتها وتطلعاتها، ولا تترك المائدة السورية ليجلس عليها غيرهم. 

كل ذلك يمكن أن يحول الحلم الذى يحلم به السوريون الآن إلى كابوس.

بعد أيام أخرى من تخلى مبارك عن منصبه كنت أجلس أمام التليفزيون أتابع تحركات من أطلقوا على أنفسهم «ائتلاف الثورة المصرية»، وكان بالقرب منه ائتلافات كثيرة خرجت من رحم الثورة، وأصبح كل ائتلاف يتحدث وكأنه الوكيل الحصرى للثورة، وبدأت المناوشات والصراعات والخلافات والاختلافات والشتائم والسباب واللعنات تسيطر على لغة الحوار العام. 

وبالقرب من هذه المهزلة كانت جماعة الإخوان الإرهابية تعيد ترتيب صفوفها لتقفز على الثورة وتسحق الثوار، وتخرج هى بالغنيمة وحدها دون أن يشاركها أحد فى ذلك. 

أطلت الجماعات السلفية برأسها، وبعد أن كانت تعتبر العمل بالسياسة حرامًا شرعًا، سارعت إلى تكوين أكثر من حزب سياسى، وبدأت تقتحم المجال العام محاولة أن تفرض عليه قناعاتها ورؤيتها وأسلوبها فى الحياة، وفى لحظة معينة لم تمانع أن تتحالف مع جماعة الإخوان لتحصل على جزء من الكعكة الكبيرة التى كانت تتظاهر بأنها زاهدة فيها ولا تريد منها شيئًا. 

لم تكن الجماعات الجهادية التى استرد رموزها حريتهم بعد الخروج بعيدة عن المشهد، أدركوا منذ البداية أنهم بسبب بعدهم عن المشهد لن يستطيعوا أن يعملوا بمفردهم دون مظلة تحميهم وتمكنهم من الدخول إلى المدينة مرة أخرى، فألقوا بأنفسهم بين أحضان الإخوان وظلوا مخلصين لهم حتى النهاية. 

لم ينفرد الإخوان بالساحة، كانت هناك محاولات من القوى المدنية للتحالف وتكوين أحزاب، وعندما اصطدموا بالإخوان بعد وصولهم إلى الحكم، شكلوا جبهة معارضة لهم، وقادوا عملًا منظمًا ضدهم. 

كل هذه الأطياف والجبهات كان كل منها يمتلك رغبة مسعورة فى إقصاء الآخر المختلف معها، لتنفرد بالساحة دون سواها، وكان يمكن لهذه الجبهات- بعضها كان له ولاء لجهات ودول وأجهزة أجنبية- أن تدخل فى صراع أهلى دموى، لا تكون له إلا نتيجة واحدة وهى ضياع الدولة المصرية تمامًا. 

لكن كان هناك عامل واحد مهم وأساسى فى الحفاظ على الدولة وحمايتها من الضياع والحفاظ عليها من التفتت وصيانتها من التفكك. 

كان هذا العامل هو الجيش المصرى. 

حفظ الجيش المصرى الدولة المصرية مرتين. 

الأولى كانت عندما نزل الجيش إلى الشوارع والميادين مساء ٢٨ يناير ٢٠١١ بعد استدعاء مبارك له، ولولا وجود الجيش لتحولت الشوارع إلى حمامات دماء، فقد أعادت القوات المسلحة ضبط إيقاع الأحداث عندما أعلن المجلس العسكرى عن أنه ينحاز إلى مطالب الشباب المشروعة، وأنه لن تخرج منه رصاصة واحدة ضد شعبه. 

الثانية كانت فى ٣٠ يونيو ٢٠١٣ عندما ساند الجيش ثورة الشعب ضد جماعة الإخوان الإرهابية، التى كانت قد وصلت بالبلاد إلى حافة الهاوية، وأصبحنا على شفا حرب أهلية تهدد الجميع، فقد وصلنا إلى أن حد الفرقة الشاملة، الجماعة ومن يتحالفون معها فى جهة، ومن يعارضونها ويرفضون استمرارها فى الحكم فى جهة أخرى، الشعب يدعو إلى التظاهر والاعتصام فى ميادين مصر كلها، والجماعة تعتصم ومن يقف فى صفها فى ميدان رابعة العدوية. 

صرخ طارق الزمر من على منصة رابعة قبل ٣٠ يونيو بأيام صرخته الشهيرة: إنهم يهدوننا بـ ٣٠/٦ ونحن نقول لهم إننا سنسحقهم جميعًا، وصرح صفوت حجازى: من يرش مرسى بالماء سنرشه بالدم. 

على القرب كان الجيش المصرى يراقب الأحداث، يطلب من الجميع أن يلتزموا الهدوء ويجلسوا للتفاهم، يمنح الفرصة وراء الفرصة للرئيس أن يقوم بمصالحة سياسية تغنينا عن أى مواجهة، لكنه لم يستمع إلا لصوته ولصوت جماعته، فحسم الجيش أمره، وانحاز إلى الشعب ووقف حاميًا له ومدافعًا عنه، ورافضًا أى اقتراب منه، وظل يتحمل لسنوات طويلة فاتورة موقفه التى دفعها كاملة فى حربه ضد الإرهاب. 

منذ ٢٠١١ وسوريا ممزقة، تتصارع على أرضها جماعات مسلحة مختلفة المشارب والاتجاهات. 

تصدرت هيئة تحرير الشام التى قادها أبومحمد الجولانى- أحمد حسين الشرع حاليًا- مشهد إسقاط بشار الأسد، يعاونها الجيش السورى الحر، وفى الغالب لن يستمر التحالف بينهما طويلًا، لكن إلى جانب هذه الجبهة يمكننا أن نرصد ما يزيد على ١٧٠ جماعة مسلحة ومتطرفة وإرهابية تعمل على الأرض فى سوريا الآن، وكلها جماعات مسلحة ولها أغراضها المختلفة والمتباينة. 

لقد بدا المشهد فى سوريا خادعًا إلى درجة كبيرة، ظهر أبومحمد الجولانى قبل أيام من سقوط الأسد فى حلة جديدة وبلغة جديدة هادئة وواثقة، لكن هل هذه اللغة تعكس حقيقته؟ 

إنها فى الغالب كانت ترجمة للخطة التى وضعت للاستيلاء على سوريا، فجذور الجولانى لا يمكن أن تقول لنا إنه يمكن أن يتحول بهذه السهولة، فوراء الكلمات ما وراءها. 

 

لكن السؤال هو: كيف سقط الأسد بهذه البساطة وبكل هذا اليسر؟ 

فى اللقاء الأخير الذى جمع بين بشار الأسد ووزير خارجية إيران عباس عراقجى قبل أيام من السقوط الكبير، شكا بشار من سلوك الجيش السورى. 

عراقجى قال فى لقاء أجراه معه التليفزيون الإيرانى قبل أيام: وجدت بشار الأسد متفاجئًا من سلوك جيشه، قال لى إن الجيش يعيش أسيرًا للحرب النفسية التى تشن ضده، وبدا لى أنه ليس مسيطرًا عليه. 

ما لم يقله وزير خارجية إيران إنه لم يكن هناك جيش سورى على الإطلاق، فقد انشغل خلال السنوات الأخيرة فى حصد مكاسب خاصة بعيدًا عن حماية الدولة، ولذلك كان طبيعيًا أن تصل الفصائل المسلحة إلى أسوار دمشق دون أى مقاومة. 

يمكننا أن نعدد معًا الأسباب التى أدت إلى تقويض نظام الأسد، وإلى سقوط سوريا بين أيدى هذه الفصائل، لكن يظل السبب الأول والأخير هو غياب الجيش الذى لم نجده فى طريق حاملى السلاح الذين لم يتوقعوا فى الغالب أن تكون مهمتهم بكل هذه السهولة. 

الآن سوريا تقف على أعتاب مرحلة جديدة، بعد أيام ستزول السكرة وتحتل الفكرة المشهد، وسنرى ما لا عين رأت على هذه الأرض الطيبة التى عانى أهلها كثيرًا. 

إننى لا أقرأ الطالع، ولا أرجم بالغيب، ولكن المقدمات لا تبشر بنتائج طيبة، وهو ما دعانى لأن أقول بعد خروج الأسد من دمشق بصفقة روسية إيرانية تركية مدعومة من دول عربية، البقاء لله فى سوريا.

عاب البعض على هذا التعبير، لكنه كان تعبيرًا دقيقًا وصادقًا، فأنا أقول البقاء لله فسوريا الدولة الواحدة الموحدة، فما ستكون عليه لن يكون فى صالح أهلها. 

لقد اجتمعت الفصائل المسلحة على هدف واحد هو إسقاط الأسد، لكن هل يمكنها أن تجتمع على هدف واحد هو بناء سوريا دولة حديثة مدنية ديمقراطية لها دستورها وتعمل من أجلها مؤسساتها الوطنية؟ 

أعتقد أن هذا حلم بعيد المنال، فقد تعودنا فى عالمنا العربى أننا نتفق على ما لا نريده، وعندما نأتى إلى ما نريده فإننا نختلف ونتحزب ونتصارع، وهو حتمًا ما سيحدث. 

كل ما أتمناه أن تصبح سوريا دولة قوية موحدة خيرها لأهلها. 

لكن هل يمكن أن يحدث هذا؟

أعتقد أن هذا حلم بعيد المنال، ولست متشائمًا فى ذلك، ولكن من قال إننا يمكن أن نشاهد نفس الفيلم فى نفس قاعة العرض ثم نتوقع نهاية مختلفة للفيلم نفسه. 

إننى أرصد خطابًا سياسيًا وثقافيًا من النخبة العربية، هو نفسه الخطاب الذى تم تصديره فى كل مرة حدث فيها مثل ما حدث لسوريا. 

كلام ركيك ومبتذل عن أحلام وردية تخاصم الواقع الذى نراه بأعيننا، وهو ما يجعلنى أثق فى أن الشعوب العربية تخضع الآن لمحاولة تضليل كاملة فيما يخص سوريا. 

الأيام وحدها ستكون كفيلة لكشف الحقائق كاملة، فنحن الآن فى مواجهة من يرقصون على جثث الأوطان، تأخذهم السكرة بعيدًا عن الحقيقة، وللأسف الشديد فإنهم عندما يستيقظون سيجدون أنفسهم أمام جحيم لن يطيقه أحد، لا فى داخل سوريا ولا فى خارجها. 

القادم صعب، ما فى ذلك شك.

وليس علينا إلا أن ننتظر.

نرجو من الله السلامة لسوريا، لكن من قال إن الرجاء وحده يكفى.. أو أن الأمنيات الطيبة يمكنها وحدها أن تبنى وطنًا.