تفكيك الأسطورة الكبرى
عبير درويش: نجيب سرور لم يدخل السجن ولا مستشفى الأمراض العقلية
دائمًا ما يرتبط الحديث عن الشاعر والكاتب المسرحى نجيب سرور بديوانه «الـ.. ميات»، ووقائع الخيانات الزوجية، وكيف أنه عاش مُطاردًا من النظام فى زمنه، مرورًا بإيداعه السجن، وحتى ما قيل عن الزج به فى مستشفى الأمراض العقلية.
لكن الكاتبة عبير درويش، فى روايتها الجديدة «عابر على جسر»، الصادرة عن دار «روافد»، وتشارك بها فى الدورة المقبلة من معرض القاهرة الدولى للكتاب، نهاية الشهر الجارى، تقدم سيرة روائية مغايرة عن «سرور»، بعيدة تمامًا عن تلك الصورة الذهنية المرسومة عنه.
تحاول عبير درويش، فى «عابر على جسر»، الاقتراب من الجانب النفسى لشخصية نجيب سرور، وكيف كان ذلك «الشخص النقى للغاية الذى ارتكب جميع الأخطاء»، و«الشخص المتسامح مع الجميع ما عدا نفسه»، من خلال «حقائق» رواها لها أشخاص «قريبون جدًا» من الشاعر المثير للجدل.
عن الرواية، وما تقدمه من صورة مغايرة عما هو متداول ومعروف عن نجيب سرور، يدور حوار «حرف» التالى مع عبير درويش.
■ لماذا قررتِ كتابة رواية عن نجيب سرور رغم كل ما كُتب وقيل عنه؟
- لم أكتب السيرة الذاتية لنجيب سرور كى أرسم ظلًا مأساويًا آخر، يُضاف إلى قائمة مآسيه، بل لأننى وجدت أن مَن كتب عنه لم يلامس حتى القشرة الخارجية لحقيقته، حقيقة هذا الفتى فائق الطول، الذى يتسلح بلسان بذىء كى لا يدرك الآخرون مدى هشاشته.
أما الشق الآخر من السؤال: «رغم كل ما كتب وقيل عنه»، فهناك اجتهادات من بعض الأشخاص لا يفقهون شيئًا سوى النقل، فلان حكى وأخبر عن تعذيب نجيب سرور، فلان شاهده مُكبَلًا ومسجونًا، ومن سمع يحكى لآخر وهكذا، حتى تطورت المسامع والأقاويل إلى «شبه حقائق» تُكتَب فى «شبه مقالات»، ويقرأها «شبه متعلمين» على مسامع «شبه متلقين». كل مَن كتب لم يفِ الحقيقة قدرها، ومن الممكن أن أكون مثلهم أنا أيضًا.
المؤكد أن كل مَن كتب عن نجيب سرور لم يفه حقه، فمن كتب نقدًا مسرحيًا لم يفه حقه فى التجريب، ومن تناول حصاده الشعرى لم يتطرق إلى عمق تأويلاته، وتفرده أو لغته، أخذوا شعره بجريرة «الـ.. ميات». وحتى الرواية التى كُتبت عنه، مع احترامى للكاتب، وهذه رؤيته، كُتبِت بطريقة الأصوات، وكان بها خط سردى أكبر حجمًا ومواز لسيرة «نجيب»، بينما صوت «نجيب» نفسه داخل الرواية محدود، مع تعمد الكاتب إظهار نجيب «الشتام.. اللعان.. الخارج عن الناموس.. سليط اللسان»، دون الاقتراب من بعض الحقائق عملًا بطريقة «الكتابة الآمنة». لذا فكل هؤلاء لم يقتربوا من «نجيب الإنسان» أبدًا.
■ نبدأ بعنوان روايتك.. لماذا «عابر على جسر»؟
- «عابر على جسر» عبارة مجتزأة من قصيدة لأبى العلاء المعرى، والراوى فيها بضمير المتكلم هو نجيب سرور، الذى يأخذنا من حيث انتهى. هو يبحر فى ذاكرته إلى بداية نشأته ليقص علينا فصول سيرته الذاتية، ما بين طفولة وصبا ومراهقة وشباب، ثم شيخوخة مبكرة طغت عليه، مُرتبةً فى تتابعها وسيرة أسرته: نشأته، والده ووالدته وإخوته وجدّيه، وبلدته الصغيرة «إخطاب» وما يحدث فيها وما يحدث حولها، إلى ما تعداها.
■ ما المساحة الزمنية التى تدور حولها الرواية؟
- يبدأ زمن الرواية من الأربعينيات حتى نهاية السبعينيات المريرة. عنونت فصولها بعناوين إبداعاته الشعرية والمسرحية، وهى عناوين تمثل مدخلًا لما يحويه الفصل من أحداث وإشارات، مع تضمن نص الرواية الكثير من الوثائق، مثل عناوين ومانشيتات بعض الصحف، وخطاباته الشخصية ومراسلاته، ومقتطفات من بعض أعماله المقروءة، وغير المقروءة التى لم تنل حظها من الطباعة.
■ الرواى فى «عابر على جسر» هو نجيب سرور.. هل هناك جديد يرويه عن سيرته هذه المرة؟
- نجيب سرور سيروى عن «نجيب الإنسان»، قرية «أخطاب»، وميلاده وطفولته وجيرته ومراهقته فى المنيا، شبابه فى القاهرة، أزماته مع والده، تعليمه المضطرب، عمله، وسفره إلى روسيا والمجر، ثم العودة إلى القاهرة.
وفى «عابر على جسر» أتناول سيرة نجيب سرور من زاوية مغايرة، زاوية واحدة هى الصدق، فأنا لم أكتب السيرة الذاتية لنجيب سرور كى أرسم ظلًا مأساويًا آخر، يُضاف إلى قائمة مآسى الشاعر المسرحى الراحل، الذى وسم بـ«المغدور»، كما سبق أن ذكرت، وإنما كتبت وسعيت، وأعنى هنا السعى الحق الحثيث، خلف الحقيقة، وأحسب أننى وفقت على قدر ما استطعت، فقد حاولت النقل بالحرف والكلمة والصورة وبالحكى، واستخدمت المراوحة بين رصد المكان وتوصيف الحدث، والتعمق فى التكوين النفسى للشخصية.
■ أشرتِ فى تصريحات صحفية إلى استعانتكِ بوثائق عن الفترة التاريخية التى عاشها نجيب سرور، فهل يمكن اعتبار «عابر على جسر» رواية توثيقية معرفية؟
- قطعًا لا، هى لا توثيقية ولا تعريفية، ليس معنى ورود بعض مانشيتات الأخبار فى النص أنه توثيقى أو معرفى، هو فقط تأريخ اجتماعى للأحداث التى مرت على الشخصية، حتى فى استخدامى لمراسلات بعينها، وبعض المقاطع النقدية، كل ذلك كان له استخدام ورسالة. يبدأ الخيال أو الرواية حين يتحدث إلينا نجيب سرور، وينتهى بعدما ينتهى وينجو من الحياة: «أمس الحياة بلا معنى، وسقط الجدار الذى بينى وبينى، والأجدى أن أسعى إلى النجاة منها.. الأجدى أن أعبر الجسر».
■ لماذا قلتِ أيضًا إنك سعيتِ إلى كشف «حقيقة سيرة ومسيرة نجيب سرور».. هل هذا يعنى أن ما نعرفه عنه غير حقيقى؟
- أغلب ما نُسج عن نجيب سرور لا أساس له من الصحة، هو لم يُزج به إلى سجن، ولا مستشفى الأمراض العقلية. «نجيب» درس وسافر بمنحة، ورجع بعد تخليه عن جوازه وجنسيته، وبعد رجوعه عمل فى التدريس، وعرض أعماله، ومرة دخل مستشفى المعمورة بإرادته، وثالثة فى «بهمان» بحلوان، وعاد إلى التدريس والعروض وأخفق للمرة بعد المائة، ولم يقترب منه أحد، هو لم يناضل بالمعنى المتعارف عليه، ولم يُكبَل ولم يُعذب ولم يُحجب عنه الضوء، ربما هو سيئ الحظ مع مجمل خذلان من بعضهم ومن ذاته إلى ذاته.. «نجيب» خذل «نجيب».
■ إلى أى مدى حققتِ ما هدفتِ إليه فى تناول سيرة نجيب سرور بصورة جديدة؟
- لا أعرف ولا يوجد مقياس لهذا، لكن أظن أننى راضية بعض الشىء، وهو أيضًا قانع بما وصلت إليه من الحفر فى حائطه. أنا استخدمت كل ما يمكن أن يخدم النص، ويصل بالفكرة إلى مبتغاها، لكننى اعتمدت أكثر على التعمق فى التكوين النفسى للشخصية.
شخصية مثل نجيب سرور شخصية مركبة، وتحتاج مساحة سيكولوجية أكبر حتى نصل إلى تصور يقارب ملامح شخصيته. «نجيب» شخص متسامح مع كل الأشياء إلا مع نفسه. كتب شعره كأنه نزيف صادق، شق قلبه وأخذ من نزفه هذا وخط به على الورق. «نجيب» تشبث بموهبته فى النزف كى لا يفقد ذاته الخضراء، هو شخص نقى للغاية ارتكب الأخطاء جميعهًا، وهو مدفوع بغريزة البحث عن صورة أخرى غير التى يراها الآخرون داخله وعلى ملامح وجهه.
وما استندت عليه لتحقيق ما هدفت إليه فهو بحث وسعى وصبر ٥ أعوام، وقراءة أغلبية أعمال نجيب سرور المسرحية والشعرية والنقدية، المطبوعة وغير المطبوعة، أعمال عرفت خلالها نجيب سرور عن قرب. اعتمدت أيضًا على حقائق مروية من أشخاص «مقربين منه جدًا»، بل التحموا به، مثل أبنائه الثلاثة: ثروت وشهدى وفريد، والسيدة فريدة شقيقته، وزوج شقيقته. كلها مُسجَلة ومُثبتة. أما عن مدى تحقيقها فالقارئ هو من سيجيب.
■ البعض يعتبر روايات سير الأشخاص الواقعيين فخًا قد لا تنجو منه سوى قلة.. ما رأيك؟
- بالتأكيد فخ! وأدعو كل يوم للنجاة منه، ربما من سيفهم كلماتى هم من قرأوا المسودة الأولى للرواية، حيث كان أول ما تبادر إلى أذهانهم سؤال واحد هو: متى كتب نجيب سيرته؟! هل هناك فخ أكبر من هذا؟!
■ فى مسيرتك الإبداعية ٥ مجموعات قصصية و٣ روايات.. أى اللونين السرديين الأقرب إليكِ والأكثر تطويعًا فى التعبير؟
- بلا منازع القصة، والأكثر تطويعًا الرواية. لكنى عندما كتبت «حدود الكادر»، وحصلت عنها على «جائزة يوسف أبورية» شعرت بأننى أكتفيت بهذا القدر، الآن ومؤقتًا، على أن أسبر غور الرواية لأثبت نفسى فيها، ثم بعض تجربتين فى المسرح وإلى الآن، أنا مجبولة على كتابة الرواية بلا تفسير، حتى إشعار ثان من داخلى، لكن الأكيد أننى سأعود إلى القصة.
■ لمَ أنتِ بعيدة عن الوسط الثقافى، وكيف ترين المشهد الإبداعى الراهن؟
- لست بعيدة بالمعنى الحرفى، أنا أم وجدة، أعمل وأعول نفسى وغيرى، الوقت غير منصف، والحياة عامة لا يوجد بها تكافؤ فرص، فما بالك بالوسط الثقافى! المشهد الإبداعى ثرى للغاية، فقط نحتاج أن نستوعب كل الأطياف، ونتقبل أن هناك غيرنا، مثلنا يكتب ويبدع أيضًا. وكل تلك الأمانى تحتاج لتتحقق ردحًا من الزمن... حلوة «ردحًا»؟!
■ هل بقاؤك بعيدًا عن القاهرة حد من شهرتك وانتشارك؟
- أنتِ كصحفية عرفتينى وراسلتينى، وانتزعتِ سيرتى من على صفحات «السوشيال ميديا» وغيرها، فما الذى سيختلف عليه وجودى من عدم وجودى فى القاهرة؟ هناك كُتّاب فى العاصمة لا يسمع بهم من فى الأقاليم مثلنا، وهناك كُتّاب من الإسكندرية وغيرها تخطوا مركزيتهم وخصصوا نصف الشهر للسفر إلى القاهرة لكسب الود والانتشار، وعقد الصداقات، وعملًا بمحو المسافات وغيرها من كل هذا «الزحف»، لكنهم أيضًا غطاهم «الغبار الرمادى القاهرى»، وأمسوا مثل أسدى قصر النيل عندما طليا بطلاء مستهجن. أبحثِ عن جار النبى الحلو من حلوان، والجميل أحمد أبوخنيجر من أسوان، وعبدالهادى شعلان من الإسكندرية، ومصطفى نصر من الإسكندرية، ومحمد المخزنجى من حلوان، والقائمة طويلة.