تفكيك الأسطورة الكبرى
أشرف الصباغ: نجيب سرور تمتع بحرية كاملة وكان «دلوعة زمنه»
أكاذيب كثيرة دارت حول هذا الشاعر الاستثنائى، يفندها الروائى أشرف الصباغ فى كتابه الجديد «نجيب سرور.. بين العبقرية والبطولات المزيفة»، الذى لا يكتفى فيه باستعراض حياة الشاعر الراحل وأعماله، بل يخوض فى عمق الشائعات التى نسجت حوله، كاشفًا عن وجه آخر لعبقريته التى امتزجت بالمعاناة والتجربة الخالصة.
«حرف» أجرت حوارًا مع أشرف الصباغ حول كتابه الجديد، وحول رؤيته للمشهد الثقافى العربى، الذى رأى أنه غالبًا ما يتغذى على الأساطير بدلًا من الحقائق، وكذلك رؤيته للمستقبل الغامض فى سوريا.
■ فى كتابك «نجيب سرور بين العبقرية والبطولات المزيفة».. لماذا اعتبرت أن «مرحلة موسكو» ذروةَ التحوُّلِ فى حياةِ الشاعر الراحل؟
- لأن نجيب سرور خرج من مصر، فى بعثة دراسية حكومية لاستكمال دراساته العليا على نفقة الدولة، وهو مؤمن تمامًا بمصر وبالدولة المصرية، وبالتجربة الناصرية، فضلًا عن إيمانه بكل الشعارات السياسية والاجتماعية المطروحة، سواء بالنسبة للداخل المصرى، أو لعلاقة مصر بمحيطها الإقليمى.
ولا يمكن هنا استبعاد إيمان نجيب سرور بالكثير من الأفكار الاشتراكية التى كانت موجودة وناشطة وفعالة فى هذه المرحلة بين الكثير من الأجيال.
أى ببساطة كان مؤمنًا أيضًا بالتجربة السوفيتية، التى كانت ترفع شعارات الاشتراكية والتحرر والعدالة الاجتماعية. ولكنه عندما وصل إلى موسكو، بدأ يدرك حجم المأساة التى توزعت على مسارين: مسار شخصى، ومسار عام. فغالبية المبعوثين الحكوميين المصريين كانوا محافظين وغير ناشطين سياسيًا، بينما نجيب سرور الشاعر والفنان مهموم بالشأن السياسى المصرى والعربى، ويمتلك طاقة رهيبة على الحركة والكلام.
وهنا حدث الصدام الأول بينه وبين المبعوثين الذين وصفوه بأنه «شيوعى»، بل وبدأوا يعزلونه ويحاصرونه ويكتبون فيه تقارير للسفارة.
ومن جهة أخرى، بدأ مبعوثو الأحزاب اليسارية العربية وحزب البعث والطلبة الفلسطينيون وشيوعيو المشرق يشككون فيه وفى نواياه، ويتساءلون: كيف يمكن لهذا الشخص أن يتحدث بكل هذه الصراحة والشفافية وكأنه معارض للسلطة فى مصر. وهذا كان غمزًا واضحًا ومباشرًا فى اتجاه أنه «مباحث» ويعمل لصالح «النظام المصرى».
أما المسار الثانى، فقد كان القشة التى قصمت ظهر البعير، عندما وصلت أنباء مقتل شهدى عطية الشافعى فى سجنه بمصر، وتذويب جثة فرج الله الحلو فى الأحماض بسوريا. وفى الوقت نفسه كانت العلاقات المصرية- السوفيتية «سمنة على عسل»، والزعماء يلتقون بالقبلات والأحضان ويقلدون بعضهم البعض الأوسمة والميداليات.
هنا ظهرت الحساسية المفرطة لدى الشاعر والفنان نجيب سرور، ونظر إلى الأمر بمعزل عن السياسة والمصالح السياسية، ومع الوقت فقد الثقة فى النظامين السياسيين. ونظرًا لعناده الشديد، ومحاولات تبرئة ساحته من اتهامات المبعوثين المصريين، ومن اتهامات الشيوعيين العرب ومبعوثى الأحزاب اليسارية العربية، بدأ يتخذ مواقف راديكالية تمامًا.
■ أنت تعيد تفكيك الصورة الذهنية عن نجيب سرور المضطهد المقموع.. ما حجتك فى ذلك؟
- للأسف الشديد، طغت العنعنات والصور الذهنية على سيرة نجيب سرور، وكأنه بحاجة إلى بطولات إضافية، بإضفاء المزيد من القداسة على شخصه. بينما هو شاعر وفنان طبيعى لديه حساسية زائدة مثل أى فنان حقيقى بكل تناقضاته ووجهات نظره المختلفة أحيانًا، والمتطرفة فى أحيان أخرى، إضافة إلى انفتاحه وصراحته اللذين عرضاه لصدامات مباشرة مع من حوله.
إن تركيبته المعقدة، من حيث إنه شاعر ذو حساسية مفرطة، يتميز بذكاء فطرى ووعى نقدى، وليس لديه أى حسابات على الإطلاق، وهذا كان سبب كوارثه.
لكنه كان يمتلك فى الوقت ذاته طوق نجاته من حيث التفرد الإبداعى، والصلابة الروحية والنقاء، والإخلاص لما يؤمن به، إضافة إلى درعه الواقية الأساسية، وهى عشق مصر، فهو فى الحقيقة كان يعشقها ويعشق ناسها بشكل مَرَضى.
ومثل هذه الثروة الوطنية بحاجة إلى «تنقية» و«تفكيك»، لكى نقف على مصادرها وينابيعها الأساسية، لا أن نشوهها بأساطير إضافية، وصور ذهنية تبعدنا عن الأساسى فيها، وهو الإبداع، والإخلاص للفن، والإنتاج الذى يمتلك قيمة استثنائية.
نجيب سرور لم يكن مقموعًا، ولا سجينًا سياسيًا، ولا مريضًا نفسيًا تم إيداعه فى مصحة للأمراض العقلية، بل على العكس، كان «دلوعة» زمنه. ولم يحظ أحد بما حظى به من انتشار بعد عودته من المجر عام ١٩٦٤، حيث كانت أعماله تجوب مسارح الدولة، ومسارح الثقافة الجماهيرية والأقاليم المصرية بدون أى منع.
■ ذكرت أن المثقفين فضلوا «سرور الميت» أكثر من «سرور الحى».. لماذا؟
- نجيب سرور الميت لا يمكنه أن يرد على من يقولون إنه كان مضطهدًا، أو مقموعًا سياسيًا، ولا على الذين يصورونه بطلًا خارقًا كان يقف فى مواجهة «النظام»، ومواجهة الرأسمالية والصهيونية، ولا على من يقولون إنه كان يعانى من الهلوسات وفوبيا التعقب.
وبصراحة شديدة لا تقل عن صراحة نجيب سرور، هناك «تار بايت» بينه وبين الكثير من مثقفى جيله والجيل التالى، للأسباب التى ذكرتها أعلاه، فهو كان عدوًا لدودًا للانتهازية «والميوعة الفكرية» و«التلون». وأعتقد أننا نعرف جيدًا أن غالبية معارك المثقفين وصراعاتهم تدور ليس عما يتحدثون عنه فى العلن، وإنما بسبب مصالح قصيرة النظر، أو عداوات شخصية، أو كلام قيل على المقاهى أو فى جلسات النميمة الخاصة.
■ ما دور التنظيمات السرية وبعض أفراد الأحزاب اليسارية فى مأساته؟
- هذا الموضوع جاء لاحقًا، بعد عودته من الخارج. إذ تراجع «سرور» إلى الوراء خطوة أو خطوتين بعيدًا عن الشعارات الكبرى، وانتقد فى العلن سياسات الاتحاد السوفيتى الذى كان يمثل «قبلة المريدين» والممول الرئيسى للتنظيمات والأحزاب، أو على الأقل الداعم الأول لهذه التكوينات والهياكل.
وبالتالى، فانتقادات نجيب سرور الوضع داخل الاتحاد السوفيتى، والكوارث التى رآها هناك والتى تتناقض تمامًا مع ما يتم الترويج له من ازدهار وبحبوحة وتنمية ورخاء، إضافة إلى سياسات موسكو التى تكيل بمكيالين، وتنافق حتى أتباعها ومريديها، كل ذلك كان من شأنه فضح الشعارات، وفضح من يتبنونها، وإفشال جانب مهم من «نضالهم» بشأن الاشتراكية والعدالة الاجتماعية و«التحرر الوطنى».
وهذا الكلام لا يعنى أن الصورة كانت معتمة حتى النهاية، وإنما للحقيقة أيضًا، كان هناك مخلصون فى هذه التنظيمات والأحزاب، يعملون من منظور وطنى، ويفهمون أيضًا ما كان نجيب سرور يقوله ويقصده.
هنا كان لابد من حصار نجيب سرور، ومعاقبته، بل والانتقام منه. وفى الحقيقة، فانتقامات المثقفين عندنا قاتلة لا تصدر إلا عن قتلة حقيقيين يمارسون إعدام خصومهم بدم بارد تحت شعارات وأفكار كونية مطلقة تبدو بريئة للغاية.
وفى نهاية المطاف، بدأ عزله تارة، والترويج للشائعات تارة أخرى، والتقليل من قيمة إنتاجه الإبداعى لصالح الترويج للعنعنات والقصص الوهمية، والمبالغات المثيرة للسخرية، وإعلاء شأن قصيدته «الأميات» على بقية إنتاجه، ووصفه بالكسل تارة، وبالتصلب تارة أخرى، وباللامبالاة والعدمية تجاه نفسه وتجاه أسرته تارة ثالثة.
■ أنت تقول إن نشر سردية المقهور المضطهد كان بدافع الانتقام؟
- هذا شكل من أشكال الانتقام الممنهج الذى مارسه المثقفون الذين كانوا يدركون القيمة الإبداعية لنجيب سرور، من أجل إعدامه إبداعيًا وتوجيه الأنظار إلى تفاصيل هامشية أخرى.
وكان أيضًا شكلًا من أشكال الجهل والكسل من جانب القراء والمتابعين لإنتاجه والمعجبين بشخصيته. ولا شك أن إحدى آفاتنا تكمن فى صناعة الصور الذهنية، والترويج لها، وتفضيلها على الواقع والحقيقة، بل وترك ما يجرى أمامنا على أرض الواقع والذهاب بعيدًا لمناقشة وبحث كل القضايا الافتراضية الممكنة.
وبطبيعة الحال، يجد الناس فى رواية إدخال «سرور» مستشفى الأمراض العقلية «أكشن» يبرر روايات معينة، بينما من أطلق الأكذوبة وروَّج لها كان يؤسس لجنون نجيب سرور وعدم أهليته وعدميته.
وكل ما فى الأمر أن أخته أدخلته لعدة أشهر مصحة لعلاج الإدمان على الشراب، وهذه مسألة خاصة تمامًا قد يعانى منها الكثيرون، سواء كانوا كتابًا أو نجارين أو حدادين أو فنانين. لكن الدولة لم تسجنه، ولم تدخله مستشفى المجانين، ولم تراقبه أو تعادى أعماله الفنية. إنهم ببساطة حاولوا خلط «اللحم بالذباب»، وسعوا للاستفادة القصوى من نجيب سرور للترويج لموضوع الاضطهاد والقمع والرقابة من جهة، وللتأكيد على عدم أهلية نجيب سرور وعدميته من جهة أخرى، ومحاولة إزاحة أعماله المهمة وإنتاجه الخلاق إلى الظل من جهة ثالثة.
■ ذكرت أيضًا أن نجيب سرور كشف محنة المثقف المصرى.. فما هى؟ وهل لا تزال هذه المحنة سارية؟
- هذا سؤال يصلح لحوار وطنى حقيقى يشمل كل مجال العمل الذهنى فى الفنون والآداب والعلوم والصحافة. وكثيرون لفوا وداروا حوله بطرق مختلفة، بداية من نجيب محفوظ ويوسف إدريس وتوفيق الحكيم وصلاح عيسى ونبيل عبدالفتاح وشريف يونس، مرورًا بالعديد من مثقفى اليسار الحقيقيين، ومثقفى التيار الليبرالى أيضًا، إضافة إلى مثقفى الدولة، وليس من يطلق عليهم تسمية «الدولجية».
أما نجيب سرور فقد دخل التجربة بالمعنى الصوفى، أى جَرَّب على نفسه هذه المحنة، لأنه ببساطة كشف عن محنة عامة كبيرة يعيش فيها المجتمع الذى ينتج نخبًا ومثقفين مأزومين، تتحول أزماتهم إلى محن صغيرة، مثل المزاوجة بين الدين والعلم، وبين الاشتراكية والإسلام، وبين العلم والإيمان، وتمارس أعلى مراحل العدمية والتلصص والانتقام.
■ يبدو أبطال روايتك «مراكب الغياب» امتدادًا لعوامة رجب القاضى والأستاذ أنيس فى «ثرثرة فوق النيل».. إلى أى مدى يتشابه الظرف الاجتماعى والتاريخى؟
- لا أستطيع أن أجزم بشىء. إنهم ببساطة أبناء زمنهم وظروفهم التاريخية والاجتماعية. هم أبناء الثمانينيات والتسعينيات، ومخلفات المحنة الكبرى بأجيالها السابقة. وليس مطلوبًا منهم أن يصلحوا ما فات، بقدر ما ينبغى أن ينقذوا أنفسهم فى ظروفهم وزمنهم.
ولكن الواقع له أيضًا «ألاعيبه». وهم فى نهاية المطاف بشر لهم متطلباتهم واحتياجاتهم. عوامة رجب القاضى كانت جرس إنذار فى سياقها العام، حيث ضمت كل روث المجتمع بمختلف وظائفه. وأظهرت ما يتم التستر عليه وإخفاءه من قمامة تحت السجاجيد.
■ هل أفسدت الجوائز الأدبية الوسط الثقافى والإبداع نفسه؟
- نعم وبلا أدنى تردد. والإفساد هنا يتعلق بالقيمة الفنية والجمالية، وبنوعية الخطاب الفنى والدرامى. لقد نجحت الجوائز فى تفريغ الأدب من كل مضامينه الروحية والإنسانية، ونسفت تلك العلاقة العضوية بين الأدب وحركة المجتمع، وألقت به فى أتون ليس فقط الفساد الثقافى والإعلامى ومافيا دور النشر، بل وأيضًا فى متاهات اللغة والغرق فى الأوهام، والجلوس فى أحسن الأحوال تحت الجميزة واختراع اللغة التى تولد اللغة، والصور التى تبيض لنا صورًا جديدة، ولا خطابات أو مفاهيم أو رسائل، لأننا ببساطة تربينا على أن جمال السرد فى اللغة، وجماليات الأدب فى الجملة والعبارة، لكى نستطيع أن نمدد أرجلنا فى راحة واسترخاء ونقول: «الله».
■ لك رؤية مغايرة حول المشهد السورى.. هل توضحها لنا؟
- فى الحقيقة، تجارب الإسلام السياسى والجماعات الإرهابية تثير الفزع فى أوساط الرأى العام، وفى وسائل الإعلام.
وإذا اعتمدت السلطات الجديدة فى دمشق أيًا من النموذجين الأفغانى أو الإيرانى، أو حتى نموذج الإخوان المسلمين فى مصر، فستسقط خلال عام أو عامين على الأكثر. وهذا يفسح المجال لسيناريوهات عديدة. لكن إذا تم إعداد برامج تنمية واضحة تحت رقابة صارمة «شىء شبيه بمشروع مارشال فى ألمانيا مثلًا»، إضافة إلى دستور مدنى واضح، فإننا هنا نكون أمام معادلة جديدة نسبيًا.