صاحبة بيت الجاز.. نورا ناجى: الروائى غير النسوى ليس كاتبًا
- لا أكتب الرواية التاريخية مُطلقًا.. وأفضل التركيز على إحباطات جيلى
- أنا من المخلصين للرواية وأعترف بعدم القدرة على الكتابة للطفل
- الحياة الحقيقية موجودة فى محاضر الحوادث وليس على «فيسبوك»
- كتبت الرواية بدافع من الإحباط بعد «سنوات الجرى فى المكان»
وصلت إلى أرفف المكتبات المصرية والعربية، قبل نحو أسبوعين، رواية جديدة للكاتبة نورا ناجى، تحمل اسم «بيت الجاز»، لتنضم إلى مجموعة من أعمالها الروائية المميزة، بداية من «بانا» و«الجدار» و«بنات الباشا» و«الكاتبات والوحدة»، مرورًا بـ«أطياف كاميليا» الفائزة بجائزة يحيى حقى لعام 2020.
وتدور رواية «بيت الجاز» حول 3 سيدات يعشن فى منطقة قريبة بمدينة طنطا، ينتمين إلى طبقات اجتماعية مختلفة، ويجمع بينهن المكان فقط، الأولى تعيش فى كوبانية الغاز، والثانية تعمل طبيبة فى مستشفى الجذام، والثالثة تسكن فى بيت مجاور للمقابر، ورغم الاختلاف الواضح بينهن، تتقاطع حيواتهن جميعًا بشكل ما.
وتأتى هذه الرواية ضمن مشروع كامل تعمل عليه نورا ناجى، وتنحاز فيه إلى المهمشين والفئات الضعيفة فى المجتمع. لذلك لا تهرب من اتهامها بـ«النسوية»، بل تفخر بذلك، وترى أن الأدب كله «ينبغى أن يكون نسويًا»، أى يناقش أحلام وطموحات وأوجاع الضعفاء والمهمشين، معتبرة أن من يهرب من وصفه بـ«الكاتب النسوى»، يزيح عن نفسه صفات الكاتب من الأساس.
فى السطور التالية، تتحدث نورا ناجى إلى «حرف» عن رواية «بيت الجاز»، والدوافع التى حفزتها لكتابتها، إلى جانب تفاصيل مشروعها الإبداعى ككل، بما يتضمنه من عمل أيضًا فى مجال الترجمة، وغيرها من التفاصيل الأخرى.
■ فى البداية.. ما الذى دفعك لكتابة رواية «بيت الجاز»؟
- «بيت الجاز» لها وجود قديم فى رأسى، مثل كل أعمالى التى كتبتها من قبل. كان هناك مخزون كبير من الأفكار، وفى كل حين تصر فكرة ما على الخروج فأكتبها بعد إلحاح طويل منها، وأنا لدىّ دفتر ملاحظات أسجل فيه ما أريده أولًا بأول.
«بيت الجاز» منطقة من مناطق طنطا، كثيرًا ما كانت مُثيرة لى، ضمن مُثلث من ٣ أضلاع يضم المقابر ومستشفى الجذام وكوبانية الجاز، حيث يوجد شىء ما يجمع بين هذه الأماكن الثلاثة، وبين الناس فيها. كانت لدىّ فكرة غير متبلورة، مفادها أن هناك تشابهًا شديدًا بين الذين يعملون فى كوبانية الجاز والمجزومين والموتى فى المقابر، وهذا التشابه قائم على فكرة وجود شىء ناقص أو هش، بل بمعنى أدق شىء ميت.
فالعاملون فى كوبانية أو بيت الجاز حياتهم متطايرة مثل الغاز، يعيشون الحياة من السطح، اعتقد أنهم يملكون المال لكنهم يعيشون مُعدَمين وكأنهم غاز متطاير، لا ينتمون إلى الحياة الحقيقية، ويعيشون بشكل فسيولوجى فقط، من دون التعمق فى شىء ما. ونزلاء مستشفى الجزام نفس الشىء، لا هذا شكلهم الحقيقى ولا تلك حياتهم الحقيقية. والموت أكثر وجه مزيف للحياة، فأنا أرى أن الحياة زيف للموت والموت زيف للحياة.
■ كيف صغتِ هذه الأفكار فى الرواية؟
- كنت أذهب إلى هذه الأماكن كثيرًا لرصد مَن يعيشون فيها، ثم قررت العمل على هذه الفكرة، بعد الانتهاء من روايتى «سنوات الجرى فى المكان». كان لدىّ إحباط كبير من الكتابة، وأحببت أن أعبر عن إحباطى برواية ببنية مختلفة قليلًا، والكتابة نفسها لدىّ هى فن تحويل الزيف إلى حقيقة والحقيقة إلى زيف.
وصلت إلى التعبير عن هذه الأفكار من خلال رواية تدور حول ٣ سيدات، كلهن من مجتمعات وطبقات مختلفة، ويجمع بينهن المكان فقط، واحدة تعيش فى بيت الجاز، والثانية طبيبة فى مستشفى الجذام، والثالثة بيتها مجاور للمقبرة، وكل واحدة فيهن مختلفة جدًا عن الأخرى، لكن تتقاطع حيواتهن جميعًا بشكل ما.
■ هل يمكن اعتبار أن الهشاشة هى ما يجمع كوبانية الجاز ومستشفى الجذام والمقابر فى علاقة مشتركة؟
- نعم، الهشاشة هى التى تجمع بين هذه الأماكن الثلاثة، إلى جانب أشياء أخرى تجمعها فى الرواية، فـ«بيت الجاز» مليئة بالصراعات والأفكار، مثل الأمومة والبنوة والفقد، والأمور التى تحول دفة الحياة برمتها، إلى جانب الكثير من التساؤلات حول الحقيقة والزيف، وهل ما يعيشه الشخص هو الحقيقة أم لا، وما الذى يمكن أن يعيشه فى خياله؟.
أنا مهمومة ولدىّ الكثير من التساؤلات عن تفكير الإنسان، عن العنف والموت والحياة والقسوة الإنسانية، الإنسان قاسٍ لكنه يملك مشاعر، يملك كل التناقضات داخله، لذا لا يمكن أن نتهم شخصًا ما بأنه شرير أو ملاك على الإطلاق. أنا مهمومة بكل هذه الأفكار، وأطرحها فى رواياتى.. ما الذى يمكن أن يجمع بين طبيبة وكاتبة وفتاة صغيرة فى بيت الجاز؟.. هذا ما تدور حوله هذه الرواية.
■ لكِ مشروع محدد تعملين عليه.. أيمكن اعتبار «بيت الجاز» ضمن هذا المشروع؟
- كما سبق أن ذكرت، أنا أكتب ما يهمنى، وبالتأكيد هناك روابط خفية فيما أكتب، هذه مسألة تختلف من قارئ إلى آخر. أكتب عما يهمنى، عن أفكارى التى أراها طوال الوقت، عند المشى، أو التفكير فى شىء ما، أو قراءة حادث معين فى جريدة، قصة حقيقية أتأثر بها وتجعلنى أنشغل بالحياة الغريبة التى نعيشها، وبتعقيدات الإنسان.
المشاكل التى نسمعها فى برامج الـ«توك شو»، ما نقرأه فى «بريد الجمعة»، ما نقرأه من مشاكل فى الصحف، ما يحكيه البعض للشيوخ فى البرامج الدينية، كلها قصص حقيقية يحكيها الناس وتشغلنى، كلها أمور تجعلنى أفكر وأتعجب جدًا وأتابعها بدأب، لأنها تكشف لى عن جوانب كثيرة جدًا، عن البشر الحقيقيين وليس المزيفين، الذين نقابلهم ونجلس معهم ونصادقهم ونتعرف بهم على «فيسبوك»، كل هذا زيف، الحياة الحقيقية موجودة فى محاضر الحوادث.
أنا أعبر عن نفسى فى رواياتى، وأواجه الكثير من الاتهامات ككاتبة، اتهامات تطاردنى دائمًا، كالقول إن أحدهم يكتب رواياتى، وأن هناك من يساعدنى فيها، وأن ما أكتبه هو حياتى الحقيقية، وأشياء أخرى كثيرة أُتهم فيها دون حتى تعمق فيما أكتب. لا أحد يفكر بعقل فيما أكتب، لمجرد كونى امرأة كاتبة. لذا، فى هذه الرواية كنت أريد أن أقول للجميع: لو أنكم صادقين فيما تقولونه علىّ، بإمكانكم أن تستخرجوا الحقيقة من هذه الرواية.
■ من يقرأ رواية «بيت الجاز» سيتهمك - إن صح التعبير- بالكتابة النسوية.. ما ردك على ذلك؟
- فى الحقيقة، أنا ليس لدىّ أى خشية من تصنيفى كنسوية أو كاتبة نسوية، على العكس، أنا أفتخر بذلك. لا أؤمن بموضوع التصنيف كنسوى وغير نسوى، بل إن فكرة التصنيف فى حد ذاتها لا تعنينى على الإطلاق.
أرى أن الروايات كلها نسوية بشكل أو بآخر، لأن النسوية نفسها، فى تعريفها الحقيقى، هى الدفاع عن المهمشين والضعفاء، وليس فقط النساء، لذا أرى أن الأدب كله لا بد أن يكون نسويًا، لا بد أن يكون متحيزًا إلى الضعيف والمهمش.
لو قال لك أحدهم: «أنا لست كاتبًا نسويًا»، فهذا يعنى أنه يزيح عن نفسه صفات الكاتب من الأساس، فالدفاع عن المهمشين والانحياز لهم من المفترض أن تكون وظيفة أو مهمة الفنان والكاتب، المبدع بصفة عامة. لذا أنا لا أخشى من تصنيفى ككاتبة نسوية بل أفتخر به. أحب أن أكتب عما ما يعنينى ويهمنى، القضايا التى تشغلنى، وأرى أنه من الطبيعى جدًا أن أكون منحازة إلى الفئات الأضعف فى المجتمع حاليًا.
■ مَن يرى الغلاف سيظن أن الرواية تاريخية بشكل ما.. هل هذا صحيح؟
- الرواية لا تدور حول مرحلة قديمة، وأحداثها تقع بين عامى ٢٠١١ و٢٠٢٤، فى مكان يسمى «الكفور القبلية»، وهو بين القرية والمدينة، فليس متمدنًا بقوة، وكذلك ليس ريفًا خالصًا، والناس هناك ليسوا فلاحين لكنهم شعبيون.
يمكن أن يوحى شكل الغلاف بأنها رواية تاريخية، لكننى لا أكتب الرواية التاريخية مطلقًا، رغم أننى أحبها، وأفضل فى المقابل الكتابة عن هذا العصر، الكتابة عن إحباطاتى وإحباطات جيلى.
■ لكِ تجربة مميزة فى الترجمة.. هل نرى أعمالًا مترجمة جديدة بتوقيعك قريبًا؟
- تصدر ترجمتان لى قريبًا عن دار «كيان» لروايتين من تأليف الروائية الأمريكية كولين هوفر، الأولى تحمل اسم «صدمات» والثانية «بدون ميريت»، وأعتقد أنهما ستطرحان فى الدورة المقبلة من معرض القاهرة الدولى للكتاب.
وبصفة عامة، عندما أنتهى من رواية أعمل فى الترجمة، والعمل فى الترجمة مرهق لكنه ممتع للغاية، ويحافظ على لياقتك اللغوية، إن جاز هذا التعبير. ومن الممكن أن تكون لى ترجمات أخرى مع غير دار «كيان» بعد انتهاء معرض الكتاب.
■ بين هذه الترجمات أعمال للأطفال.. هل يمكن أن نراكِ كاتبة للأطفال يومًا ما؟
- أنا ترجمت للأطفال بالفعل، وليست لدىّ مشكلة فى الترجمة لهم مرة أخرى، مع أننى أراها مرهقة جدًا، فما بالك بالكتابة للطفل؟ الكتابة للأطفال خارج مقدرتى، لا أستطيع فى الحقيقة أن أكتب للطفل، الأمر صعب جدًا.
رغم وجود أفكار ودوافع كثيرة، أرى أن الكتابة للطفل ليست من لونى، وأنا من المخلصين جدًا لما أكتبه، من المخلصين جدًا للرواية. من الممكن أن أكتب قصصًا قصيرة، أكتب نصوصًا، ولدىّ مشروع فى ذلك أعمل عليه حاليًا. لكن إخلاصى الرئيسى والدائم للرواية، للكتابة للكبار، لذا لا أعتقد أننى سأكتب للأطفال، فى هذه المرحلة على الأقل.
■ كثير من كُتّاب طنطا لم يتخلوا عن مدينتهم وفضلوا إياها عن القاهرة مثل أحمد خالد توفيق وعادل عصمت وأنت تسيرين فى ركبهم.. هل انتهت «مركزية» القاهرة بسبب «السوشيال ميديا» وغيرها؟
- عادل عصمت وأحمد خالد توفيق لم يتركا طنطا بالفعل، وحتى ترك نبيل فاروق للمدينة يرجع إلى أسباب عائلية وأخرى تتعلق بالدراسة. أعتقد أنه لا يوجد الآن ما يسمى بـ«مركزية» القاهرة، والتى كانت السبب فى خلق الصراع بين المثقفين فى القاهرة والأقاليم، وفى شعورهم بالتخلى عن مركزيتهم.
مع وجود «السوشيال ميديا» لم يبق شىء اسمه «المركزية»، فى العالم كله وليس مصر فقط. وحتى «مركزية» مصر نفسها ووجودها ككيان ثقافى أوحد وأكبر لم تعد موجودة بقوة، لأن «السوشيال ميديا» قدمت كُتّابًا عربًا مُهمين، سواء فى مصر أو داخل بلدانهم.
لذا، لم نتخلَ عن الحياة فى طنطا، ليس فقط بسبب زوال ارتباط القاهرة بالتحقق والشهرة لدى الكاتب، فهذا لم يعد موجودًا كما سبق أن بينت، لكن أيضًا، وأنا أتكلم عن نفسى هنا، لا أستطيع أن أترك طنطا، لأنها المكان الأنسب لى للكتابة.
طنطا هى المدينة الأكثر هدوءًا، هى التى أستطيع أن أعمل بها، وأكتب وأقضى وقتًا مع عائلتى وابنتى بشكل منظم. أنا لا أحب قسوة القاهرة، سواء قسوة المدينة ذاتها كجغرافيا، أو القسوة التى امتدت لساكنيها أيضًا، هناك يوجد شىء من القسوة والتباعد لا أتحمله. لذا أُفضل أن أعيش فى مدينة أكثر هدوءًا، سواء طنطا أو أى مدينة أخرى.
لو أننى وُلدت فى القاهرة كنت سأبتعد عنها إلى مكان أكثر هدوءًا. سكان القاهرة يضيعون أنصاف أعمارهم فى المواصلات، وهذا كان من الأسباب التى دفعت الدكتور أحمد خالد توفيق إلى عدم العيش فى القاهرة، وكذلك عادل عصمت، اللذين فضلا العيش فى مدينة أكثر هدوءًا، وتتناسب مع الكتابة.
فى المقابل، الحياة فى القاهرة أفضل بالنسبة للأنشطة الثقافية فقط، لأن القاهرة لا تزال هى التى تقدم أنشطة ثقافية بكثرة، ندوات وحفلات توقيع، إلى جانب معرض الكتاب السنوى، ونحن نحب أن نكون موجودين فى هذه الأنشطة الثقافية. لكن كل هذا يهون فى مقابل متسع من الوقت للكتابة.
■ جارٍ تصوير فيلم مأخوذ عن روايتك «بنات الباشا» هل تراعين تحويلها إلى عمل عند كتابتها؟
- أنا لا أراعى هذا أبدًا. «بنات الباشا» كان نصيبها أن تتحول إلى فيلم سينمائى، لأنها رواية مشهدية، وقابلة للتحول كدراما، ومنذ صدورها والجميع يكلمنى على أنها تصلح للسينما. وبعدها، كتبت روايتى «أطياف كاميليا» و«سنوات الجرى فى المكان»، ولا أعتقد أنهما تصلحان للتحويل إلى السينما أو الدراما.
وبصفة عامة، أنا حين أكتب لا أضع السينما أو الدراما هدفًا أمامى، أنا اكتب على حسب الفكرة فى دماغى، وعلى حسب البناء الذى أريده، ولست منشغلة إطلاقًا بتحويل أعمالى إلى سينما أو دراما.
لو حدث سيكون أمرًا جميلًا، أن يتحول عملك من كتابة إلى وسيط آخر بصرى. كل الكُتّاب يحبون أن تنتقل أعمالهم إلى وسائط أخرى، ومن الجميل أن ترى أفكارك تتحول إلى ما هو أقرب للواقع، شخصيات حقيقية من لحم ودم وصوت وحركة.
كما سبق أن ذكرت، لا يشغلنى هذا إطلاقًا أثناء الكتابة. لكن هل سأكون سعيدة إن تحولت أعمال أخرى إلى السينما؟ بالطبع سأكون سعيدة جدًا. وأنا حين أكتب أكون مُخلصة لفن الرواية، الرواية تحديدًا أكثر من القصص القصيرة، لا اهتم بأى شىء آخر، أحب أن أكتب الرواية من أجل أن تكون رواية فقط.