ملاحظات ثقافية على عمليات النصب الإلكترونية.. هل يسرق الجن أموال المصريين؟

- لن تنتهى عمليات النصب على المصريين إلا إذا تغيرت ثقافتهم فيما يتعلق بالعمل والتفكير العلمى
لم يكن هناك أى شىء جديد على الإطلاق فى تفاصيل قضية النصب التى انفجرت فى وجوهنا باسم منصة «FBC»، بل يمكنك أن تقول إننا أمام فيلم مصرى نعيد مشاهدته من وقت إلى آخر دون أن نمل.. والأهم دون أن نتعلم.
بدأت الأخبار تتسرب ببطء عبر المواقع الإلكترونية.
المواطنون الضحايا يتحدثون بحسرة عن المنصة الإلكترونية التى نصبت عليهم، وتأكدت القضية عندما تقدم ١٠١ مواطن إلى وزارة الداخلية ببلاغات قالوا فيها إنهم تعرضوا لعملية احتيال من منصة إلكترونية.
الذين أبلغوا الداخلية عن عملية النصب عليهم أكدوا أنه تم الاستيلاء منهم على قرابة المليونى جنيه، بزعم استثمارها فى مجال البرمجيات والتسويق الإلكترونى وإيهامهم بمنحهم أرباحًا مالية كبيرة، ولم يكن هؤلاء فقط هم مَن تم النصب عليهم، فمن لم يتقدموا ببلاغات أضعاف أضعاف من فعلوا ذلك.

توصلت وزارة الداخلية من خلال تحرياتها إلى أن هناك تشكيلًا عصابيًا يتزعمه ٣ عناصر يحملون جنسيات أجنبية، اتفقوا مع ١١ شخصًا وقاموا بتأسيس شركة بالقاهرة، وروجوا من خلالها لمنصة إلكترونية عبر شبكات التواصل الاجتماعى وتطبيق الواتساب، ووفروا خطوط هواتف محمولة لتفعيل محافظ إلكترونية عليها بيانات وهمية لاستخدامها فى تلقى وتحويل الأموال التى استولوا عليها، ثم قاموا بإغلاق المنصة واختفوا من مقر الشركة.
ضبطت الداخلية ١٣ متهمًا من الذين أسسوا الشركة، وبحوزتهم عدد من الهواتف المحمولة و١١٣٥ شريحة هاتف محمول وجهاز لاب توب، ومبالغ مالية من عملات مختلفة قيمتها مليون و٢٧٠ ألف جنيه.
المحامون الذين تولوا الدفاع عن الضحايا كشفوا عن معلومات تفصيلية عن عملية الاحتيال، حيث أكدوا أن ضحايا المنصة يزيدون على مليون مواطن، وقد جمع منهم المحتالون مبلغًا يصل إلى ما يقرب من ٦ مليارات دولار، وبحسبة بسيطة وبسعر البنك يقترب المبلغ من ٣٠٠ مليار جنيه.
الضحايا استخدموا حساباتهم على الفيسبوك لكشف ما جرى.
إحدى الضحايا وهى طالبة جامعية دفعت ١٥ ألف جنيه للمنصة كتبت على حسابها: أنا طالبة وبصرف على نفسى ودخلت البرنامج على أساس إنه حقيقى، أنا مش عارفة أعمل إيه دلوقتى.. أنا مقهورة من إمبارح.
أحد الضحايا قال: المنصة عرضت مُغريات كبيرة لترقية العضويات، وهو ما دفع المشاركين لدفع مبالغ كبيرة أملًا فى الحصول على مبالغ أكبر، ثم يوم السحب توقفت المنصة بحجة وجود إجازة، وتم إرجاء سحب الأموال إلى الأسبوع التالى، وخلال هذا الأسبوع تم عرض مغريات أخرى ليدفع المشاركون مبالغ إضافية، وفى النهاية أعلنت المنصة عن تعرضها للقرصنة وتوقف عملها نهائيًا.

مواطنة مُسنة من الدقهلية اشتركت فى المنصة بـ٥٠ ألف جنيه، وعدها المسئولون عن المنصة بـ٨٠ ألف جنيه وأرسلوا لها رصيدًا بالفعل، لكنها اكتشفت أن الرصيد وهمى، وأن أموالها ذهبت بلا عودة، فارتفع ضغطها وتُوفيت فى الحال.
إحدى الضحايا كشفت تفاصيل أكثر، قالت: الحكاية كلها بدأت يوم الخميس ٦ فبراير، الناس سحبت فلوسها الطبيعية، لكن المنصة قامت يوم الجمعة ٧ فبراير برفع عدد مهام وأرباح المستوى من ٣٥٠ إلى ٤٩٠ جنيهًا لجمع أكبر عدد من الناس فى المنصة، ونزّلت المنصة هدايا ٥ آلاف جنيه كهدايا لرمضان، لإغراء المشتركين أكثر، وفى يوم الخميس ١٣ فبراير وهو يوم السحب المنتظر أوقفت السحب بحجة أنهم يحتفلون بعيد الشجرة.
لم يعدم المحتالون وسيلة لخداع الناس، والمضحك أنهم استخدموا عيد الشجرة، ورغم أنه ليس عيدًا مشهورًا فى مصر ولا يهتم به المواطنون، فإن الحيلة دخلت على المشتركين واستسلموا لها، وانتظروا أن ينتهى المؤسسون للمنصة من الاحتفال بالعيد، لكنهم لم يظهروا بعد ذلك.
المفاجأة أن الحديث عن عيد الشجرة كان نوعًا آخر من النصب، حيث يتم الاحتفال به هنا فى مصر فى ١٥ مارس من كل عام، وكان الاحتفال الأول به فى العام ١٩٧٥، لكن وكعادتنا أهملنا الاحتفال به لعدة سنوات حتى عاد الاهتمام من خلال معهد بحوث البساتين التابع لوزارة الزراعة، وأصبحنا نحتفل به لكن دون تغطية إعلامية مناسبة، وهو ما جعل عيد الشجرة أمرًا هامشيًا فى ثقافة المصريين، ولا يلتفت إليه أحد.
ولذلك لم يعرف الضحايا أن الاحتفال بعيد الشجرة ليس فى فبراير ولكنه فى مارس، لكن لأنهم مستسلمون لحيلة من نصبوا عليهم فقد صدقوا ما قيل لهم، ولم يبحثوا خلفهم على الأقل ليعرفوا صدقهم من كذبهم.
استطاعت الداخلية القبض على المتورطين فى النصب على المصريين.
ودخل الضحايا فى موجات من القلق والتوتر والاكتئاب والمرض وماتت واحدة منهم، فى حالة مكررة ومشابهة لحالات كثيرة وقعت وحالات ستقع فى المستقبل، فليس معنى أن الناس عرفوا أن من يدعونهم إلى استثمار أموالهم فى كيانات وهمية غامضة ليسوا إلا مجموعة من النصابين، أن يتوقفو ا عن تقديم أموالهم طواعية وبرضا نفس إلى من سيحتالون عليهم.
ما يشغلنى ويجب أن يشغل المجتمع هو: لماذا تتكرر هذه القضايا بنفس التفاصيل؟
صحيح أن هناك ابتكارًا كل مرة فى عمليات النصب، لكنها تظل فى النهاية عمليات نصب، يتم الوعد فيها بأرباح كبيرة، يتقدم الناس بأموالهم، يحصلون على بعض الأرباح بالفعل، وبعد شهور يتبخر كل شىء، ويضيع تعب السنين فى الهواء دون أن يبقى له أثر.
خلال السنوات الماضية تقاطعت بدرجة كبيرة مع عدد من الضحايا لشبكات المستريحين من محافظات مختلفة، استمعت إليهم سواء بشكل مباشر، عندما استضفت عددًا منهم فى برامجى التليفزيونية، أو عبر مداخلات تليفونية.
من خلال ما استمعت إليه يمكننى أن أقول إن استسلام المصريين للنصب المتكرر عليهم بهذه الطريقة له سبب ثقافى فى المقام الأول.
قد يفسر البعض ما يجرى بأسباب سياسية.
فالمواطنون فى مصر لا يثقون بدرجة كافية فى الحكومة، وهو ما أورثهم حالة من عدم الثقة فى البنوك، لا يفضلون التعامل معها، ولذلك يلجأون إلى كيانات أخرى حتى لو كانت مجهولة النسب، ويثقون فيها رغم أنه لا يوجد أى سبب أو مبرر لهذه الثقة، فالسوابق كلها تقول ذلك، لكن القناعة بأن الحكومة لا تعطى للناس حقوقهم بل تستولى عليها تجعلهم ينصرفون عنها.
هذا تفسير بائس ولا منطق له على الإطلاق.
هناك من يفسر الظاهرة بأسباب دينية.
فرغم صدور فتاوى عديدة تؤكد أن التعامل مع البنوك ليس حرامًا، وأن المعاملات البنكية أبعد ما تكون عن الربا الذى حرمه القرآن، فإنه لا يزال هناك كثيرون من الدعاة والوعاظ الذين يتعاملون مع المواطنين بشكل مباشر، يقولون لهم: ابتعدوا عن البنوك لأن التعامل معها حرام.
ورغم أن أموال الناس فى البنوك مضمونة، فإنهم يخاطرون بالاستثمار لدى كيانات وهمية معتقدين بذلك أنهم يبتعدون عن الحرام.
السبب الدينى الثانى يأتى من خلال قناع النصب الذى يرتديه المحتالون.
فهم فى الغالب يحرصون على المظهر الإسلامى كما يعتقد الناس، فزبيبة الصلاة تتوسط جباههم، والذقون طويلة بشكل ملحوظ، ولا يزال المصريون ينخدعون بأصحاب المظهر الإسلامى، وباللسان الذى لا يكف عن ذكر الله.
ورغم أن هذه المظاهر لا يمكن أن تكون دليلًا على الإيمان أو التقوى، فإنها عدة تملك قوة سحرية ومؤثرة على الناس، الذين يعتقدون أن أصحاب هذا المظهر «بتوع ربنا» ولا يمكن أن يكونوا نصابين.
لا يمكن أن نغفل كذلك سمة إنسانية ليست مقتصرة على المصريين وحدهم، ولكنها سمة إنسانية وهى «الطمع»، فالإنسان منا يطمع طول الوقت فى الحصول على أكثر مما يستحق أو يمكنه أن يحققه، وكم كانت الثقافة المصرية بارعة فى صياغة المثل الشعبى الشهير «طمَعَنجى بنى له بيت.. فَلسَنجى سكن له فيه».
شىء من هذا يحدث فى عمليات النصب الإلكترونية الكبرى التى يتعرض لها المصريون منذ سنوات، فمن يحملون أموالهم طواعية ليقدموها لأصحاب هذه المنصات ليسوا إلا مجموعة من الطامعين يقعون ضحايا لمجموعة من «الحَلنجية المُفلسين» الذين هم أيضًا بدورهم طامعون فى تحقيق ثروة من الفراغ.
سمة الطمع التى يتصف بها النصابون والمنصوب عليهم تصل بنا إلى المدخل الثقافى لتفسير هذه الظاهرة، وهو مدخل يمكننا أن نسير فيه عبر مسارين محددين وواضحين جدًا.
المسار الأول: هو تدهور قيمة العمل فى حياة المصريين، فمن يقدمون أموالهم لقمة سائغة لمن ينصبون عليهم، تضاءلت لديهم قيمة العمل، كل ما يفعلونه أنهم يحملون أموالهم التى يجمعونها بطرق مختلفة، أحيانًا يبيعون ما يملكون من أراض وبيوت وذهب، ليجلسوا فى بيوتهم ينعمون بالراحة، بينما يعمل بالنيابة عنهم آخرون، ويأتون إليهم بالأرباح على الجاهز.
إننا نطلق على هؤلاء «الحالمين بالثراء السريع».
لا يريدون أن يبذلوا جهدًا، ولا يتحملون مخاطر، ولا يدخلون فى تجارب، يخططون للحصول على أكبر عائد فى وقت سريع دون أن يتورطوا فى أعباء العمل، ولدينا من هؤلاء كثيرون، وأعتقد أننا نعانى منهم فى كل مكان الآن.
هؤلاء فى الحقيقة ليسوا إلا لصوصًا، يسرقون أموالًا دون جهد، وهو ما يجعلنى فى الغالب لا أتعاطف أبدًا مع ضحايا عمليات النصب الكبرى، أراهم لا يقلون جرمًا عمن يقومون بالنصب عليهم، فهم فى السوء سواء.
لقد تضاءلت قيمة العمل وتهاوت فى مجتمعنا عندما تضاءلت قيمة العلم والتعليم.
تجد أحدهم يخطط أن يصبح ابنه لاعب كرة أو مطرب مهرجانات أو يوتيوبر أو تكتوكر، فليس مهمًا ما تقدمه من جهد، ولكن ما تحصل عليه من عائد، لا أحد يفكر فى العمل الجاد، فلماذا ترهق نفسك، ما دامت لديك فرصة لأن تحصل على ما تريد دون أن تبذل جهدًا من أى نوع؟.
المسار الثانى الذى يمكن أن يكون مفاجأة فى تفسير هذه الظاهرة هو سيطرة الذهنية الخرافية على عقولنا.
وهنا يمكننى أن أتذكر معكم هذا الحوار الذى دار بينى وبين أحد ضحايا عملية نصب من شبكة تكونت فى «شبين القناطر» منذ عامين.
الضحية كان مواطنًا مصريًا سافر إلى السعودية وعمره ٣٦ عامًا وعاد وهو فى الـ٥٧ من عمره، قضى هناك ما يقرب من ٢١ عامًا، جمع خلالها ما يقرب من ١٢ مليون جنيه.
كانت زوجته تعمل فى إحدى المدارس الإعدادية، تحدثت معها وكيلة المدرسة عن شركة تستثمر الأموال مقابل عائد ربع سنوى ضخم، أقنعت الزوجة زوجها الذى لم يتردد فى أن يحمل الـ١٢ مليون جنيه ويعطيها بثقة لوكيلة المدرسة.
بعد ثلاثة أشهر طالبت الزوجة وكيلة المدرسة بالأرباح ربع السنوية التى وعدتها بها، لكنها راوغتها وتهربت منها.
قال لى المواطن المنصوب عليه: عندما ذهبت لأسال زوج الوكيلة عن مصير أموالى قال لى إن زوجته ركبها جن، وإن هذا الجن سرق الـ١٢ مليون جنيه من تحت مخدتها، وإنهم جاءوا إليها بمشايخ ليخرجوا الجن من جسمها وليعرفوا منه مكان الأموال التى سرقها.
المشكلة لم تكن فى هذه الكذبة المبتكرة، ولكنها كانت فى تصديق الضحية لها، عندما شككت فيما يقوله، فليس معقولًا أن تضع الوكيلة الـ١٢ مليون جنيه تحت المخدة، وليس معقولًا أن يسرقها الجن، فلم نعرف أن جنًا سرق أموالًا من أحد قبل ذلك.
قال لى الضحية: لقد تأكدنا من أن الوكيلة ركبها جن بالفعل، وقد ذهبت زوجتى إليها فى البيت، وكشفت لها الوكيلة عن ظهرها، ورأت بالفعل آثار الضرب عليها، فقد قام المشايخ بضربها بالخرزانة، وكانت علامات الضرب واضحة، لكن الجن لم يخرج ولم يقل لهم أين أخفى الـ١٢ مليون جنيه!
عندما راجعت كلام الضحية وجدت أنه كان ضحية لداعية خرج على القنوات الفضائية وأفتى للناس بأنهم عندما يضعون أموالًا فى أى درج فى البيت لا بد أن يقوموا بإغلاقه بشكل مُحكم، لأن الجن يسرقون الأموال الموضوعة فى أدراج مفتوحة.
أشفقت على الضحية وعلى غيره مما يقتنعون بأن الجن يمكن أن يسرقهم، فقد قالها داعية وأصر على ما قاله، فطبيعى أن يستسلم الناس لعملية النصب عليهم باسم الجن.
الذهنية الخرافية التى تسيطر على الناس تجعلهم يستسلمون ببساطة إلى كل ما يقال لهم، حتى لو كان خارج العقل والمنطق.
ولذلك فلن تنتهى عمليات النصب على المصريين إلا إذا تغيرت ثقافتهم فيما يتعلق بالعمل والتفكير العلمى، وإن لم يحدث ذلك فإن هذه العمليات ستتكرر بنفس التفاصيل، وليس بعيدًا أن نجد أمامنا خلال شهور شبكة نصب جديدة وضحايا جددًا.. ولا عزاء للمغفلين.