جمعية المحافظة على التراث
كانت مصر من أوائل دول العالم التى عرفت العمل الأهلى وأنشأت الجمعيات الأهلية، منذ النصف الثانى من القرن التاسع عشر، وما إن أطل القرن العشرون حتى كان بها العديد من الجمعيات الأهلية، التى تعمل فى مجالات اجتماعية وثقافية، والمؤتمر المصرى العام الذى عقد فى العام ١٩١٢ برئاسة أحمد لطفى السيد، إنما جاء تعبيرًا عن ازدهار العمل الأهلى، إذ ناقش كيفية النهوض بمصر فى جميع المجالات بعد ابتلاء البلاد بالاستعمار الإنجليزى فى العام ١٩٨٢، وجامعة القاهرة التى كانت أول جامعة حديثة فى مصر والمنطقة العربية جاءت نتيجة لجهود أهلية وتبرعت الأميرة فاطمة بقطعة أرض لبنائها.
ورغم أن الجمعيات الأهلية فى الفترة الأخيرة، شاب عمل العديد منها الكثير من العوار، وحاد دورها عن الأساس الذى بنيت عليه، حيث إن العمل الأهلى عطاء لا أخذ، وهو نفع عام، وليس نفعًا خاصًا، فالبعض حولها إلى وسيلة تربح وتكسب مالى، كما أن أيادى خفية بعضها أجنبى امتدت إليها، واستخدمت هذه الجمعيات لتحقيق مآرب سياسية، ولقد كتبت المثقفة الراحلة سناء المصرى كتاب «تطبيع وتمويل» يتناول تفصيليًا دور بعض الجمعيات الأهلية؛ ليكون الباب الخلفى الذى يدخل منه كل ممنوع وغير مشروع، وضار بالصالح الوطنى، وقد استبانت حقيقة ذلك بعدما اكتشف أمر جمعيات عدة، كانت تعمل لصالح جماعة الإخوان المسلمين بعد ثورة يناير ٢٠١١.
لكن هناك جمعية أهلية، يجب الانتباه لها، والتعريف بدورها، وهى جمعية المحافظة على التراث المصرى، فهذه الجمعية تعمل فى صمت، وتعد نموذجًا فريدًا فى العمل الأهلى الآن، فهى ليست جمعية اجتماعية تؤدى خدمات تتعلق بالبر والإحسان، وليست جمعية ثقافية نخبوية تهتم بالشأن الثقافى الإبداعى كأتيليه القاهرة أو جمعية محبى الفنون الجميلة أو نادى القصة، لكنها جمعية تلعب أدوارًا أهم وأعمق من حيث التأثير فى المحيط المصرى، فهى تهتم بكل ما يتعلق بالحضارة المصرية وتجلياتها، قديمًا وحديثًا، وتعريف المصريين بها على أساس علمى ومعرفى حقيقى.
تقيم الجمعية ندوات، وتعقد مؤتمرات تتعلق بالتراث والتاريخ المصرى، يحاضر فيها أكاديميون ومتخصصون وتنشط بزيارات ورحلات لمواقع أثرية ومعمارية متباينة، ومتاحف وحدائق، وكل ما هو مصرى أصيل ومستحق للمشاهدة والتعريف به، ليجلب الفخر والتأمل والاعتزاز.
أعضاء الجمعية، ينتمون إلى شرائح اجتماعية مختلفة، ونماذج متباينة، فمنهم من هم أكاديميون متخصصون، وهناك أطباء ومهندسون وكتاب وتجار وربات بيوت وجميع تلاوين المهن والأعمال، وكل ما يربطهم هو تعزيز الانتماء لمصر عبر معرفة جوانبها الحضارية المختلفة وتجذير المعرفة بها من خلال ما هو علمى موضوعى، بعيدًا عن العواطف السطحية والكليشيهات الجاهزة، فلا يكفى أن نقول «مصر حضارة سبعة آلاف سنة»، فهناك أكاديميون بالجمعية، ومتخصصون فى حضارة ما قبل التاريخ يؤكدون أن حضارة مصر تعود إلى خمسين ألف سنة.
أعضاء الجمعية من المسيحيين والمسلمين، وهى نموذج جميل للوحدة الوطنية على أصولها، ودون افتعال أو ادعاء، يزورون جميعًا الأديرة والكنائس القديمة وجوامع مصر الفاطمية والمملوكية وغيرها من المزارات الدينية، ويتناقشون فيما يتعلق بها، ضمن إطار علمى معرفى بعيدًا عن التشدد والتعصب ضيق الأفق، كما يذهبون إلى كل بقعة على الخريطة المصرية، سواء المجهول أو المعلوم منها والمشهور، بصحبة من يشرح ويوضح معرفيًا للأعضاء على ضوء من التخصص المعرفى الدقيق.
الجانب الترفيهى والإنسانى غير غائب، عن كل ذلك النشاط، فمتعة المعرفة توازيها متعة الارتحال والانخراط فى محيط مجتمعى يترابط من خلال خيط لاضم متين هو حب مصر.
الجميل فى هذه الجمعية، أن أعضاءها مواطنون عاديون، أبعد ما يكونون عن مفهوم النخبة، لكنهم راغبون فى معرفة بلدهم وتاريخه، ولكن ليس على طريق الجمعية التاريخية ذات الطابع الأكاديمى البحت، ولكن على نحو يتواشج فيه المعرفى، بكل ما هو إنسانى ترفيهى محبب. وأنشطة الجمعية الداخلية كالندوات والمحاضرات تعقد فى مقر متواضع بسيط، عبارة عن شقة صغيرة بحى شعبى بشبرا، فالجمعية لا تتربح وعندما تعقد المؤتمرات، تكون فى بعض المقرات التابعة للدولة، كبيت السنارى أو قصر الأمير طاز، أو المجلس الأعلى للثقافة، جمعية المحافظة على التراث، نموذج صادق للعمل الأهلى المصرى القديم القائم على العطاء وليس الأخذ، والحرص على العام دون الخاص، وهى نموذج لافت لكيفية تجذير مفهوم الوطن والانتماء له.