عطر زوسكيند .. ذهنية القتل ونفسية المراوغ
- التصور الرجعى للعالم يتحول إلى ممارسة فعلية تتجه صوب القتل فى حال الجماعات الإرهابية المنظمة
لم يكن «جان باتيست جرونوى» بأكثر من مخادع، فى رواية «العطر» للكاتب الألمانى الشهير باتريك زوسكيند، كان باتيست يملك ألف حيلة وحيلة، وإمكانية متجددة للمراوغة، يجعل ضحاياه أسرى وجوده المعنوى المسكون بالتجمل والعطر الأخاذ، كان جان باتيست الرضيع الذى تركته أمه العاهرة وسط القمامة، الطفل الخامس فى عداد القتلى من أبنائها على يديها، لكن حين يفتضح أمرها وينقذ الرضيع الذى يكتشف كل من يعرفه أن جسده يخلو من أية رائحة، يغادره الجميع بمن فيهم القس الذى يخشى من أحواله الغريبة، ليبدأ جان رحلة من التسكع تنتهى به عند العطار الأشهر «بالدينى»، والآخذة صنعته فى التبدد بحكم سنه المتقدمة.
يمنح «جان باتيست جرونوى» شريكه الجديد «بالدينى» مهارة نادرة فى الإحساس بجوهر أى تركيبة جديدة للعطر، بينما يمنحه بالدينى العجوز الخبرة التقنية فى حقل صناعة العطور، فتقوم بينهما صفقة غير معلنة أو معلنة أيضًا، يخرج بعدها جان إلى العالم الباريسى الواسع، محاولًا إغواء «لور»، التى استعصت عليه، وتتواتر سلسلة من القتل الذى يصنعه القاتل الشاب المتعطر بالرائحة، والدماء!، وقد صارت الرائحة هى كل شىء، والعطر مركزًا للسرد داخل الرواية: «بوسع البشر أن يغمضوا أعينهم أمام ما هو عظيم أو جميل، وأن يغلقوا آذانهم أمام الألحان والكلام المعسول ولكن ليس بوسعهم الهروب من العبق، لأنه شقيق الشهيق، معه يدخل إلى ذواتهم، ولا يستطيعون صدّه إن رغبوا بالبقاء على قيد الحياة، إنه يدخل إلى أعماقهم، إلى القلب مباشرة، حيث يتم الفصل الحاسم بين الميل إليه أو احتقاره، بين القرف منه أو الرغبة فيه، بين حبه أو كرهه».
ويبدو جان باتيست قاتلًا بلا أدنى ضمير، وقد استعصت عليه مفردات الشرف والضمير وغيرهما فى أن يشتم رائحتها، مثلما يشتم رائحة كل شىء!.
ستبدو رواية العطر لباتريك زوسكيند أعمق من الإحالة إلى تناقضات النفس البشرية وتحولاتها الدراماتيكية، لتحيل إلى هذا التداعى لإنسانية الإنسان، لتمييع المعنى، واضطراب القيمة وسط سيل من المراوحات اللانهائية بين الدلالة وعكسها، فى عالم تهيمن عليه تلك المزاوجة بين اليقين والشك، الثابت والمتغير، حيث القرن الثامن عشر الميلادى وأوروبا لم تخرج بالكلية إلى طورها الجديد الراهن: «وعندما علم فيما بعد، من الحكايات التى وصلت سمعه، بمدى كبر البحر، وبأن السفن تمخر عبابه لأيام طوال دون أن تلمح اليابسة، امتلكته الرغبة بأن يكون على متن إحدى هذه السفن، فى القفص فى أعلى صواريها، طائرًا عبر رائحة البحر اللامتناهية، التى لم تكن فى حقيقتها رائحة، بل نفسًا، زفيرًا هو نهاية الروائح كلها، وأن يتحلل فى هذا النفس والمتعة تملأ جوانحه».
وفى الآن وهنا، تتحول الجماعات المتطرفة، وعلى نحو مراوغ، إلى حاملى عطور زائفة، ودم، يقدمون خطابا عن العدل ولا يفعلون سوى الظلم، يشيرون إلى الحرية، وهم يكبلون من حولهم بالقيود، ينشرون القبح ويفيضون فى امتداح الجمال!، ولذا تعد الجماعات المتطرفة مصاص دماء العصر الحديث، وهى أعتى من جان باتيست جرونوى، الذى يمنح الآخرين قربانًا من التودد باسم الدين، وكثيرًا ما كان المقدس يستخدم على نحو فاعل فى السيطرة على ذهنية الجماهير، فالتصورات التى ينطلق منها العقل المتطرف تستبيح الدماء، وتبدو إشكالية التلذذ بالقتل انطلاقًا من تصورات يقينية، يرى فيها الإرهابى نفسه ساعيًا صوب تطبيق شرع الله!، وهذا الادعاء الكاذب يتواتر كثيرًا فى أدبيات الجماعات المتطرفة، التى تضع نفسها موضع الوصى على البشر، وتعتقد ليس فقط بامتلاكها الحقيقة ولكن باحتكارها إياها أيضًا، فكل الأشياء تبدأ من عندها وتنتهى، وما العالم لديها سوى قبض ريح، حيث تحمل الجماعات الإرهابية التفسير المغلوط للدين بيد، وتحمل السلاح باليد الأخرى. والعلاقة بين التفسيرات المتطرفة والقتل علاقة جدلية، ووثيقة للغاية، وهى نفسها الصلة الممتدة بين التطرف والإرهاب.
سيبدو كل شىء خاليًا من الروح، طالما ظلت هذه الذهنية متغلغلة فى العقل العام، فالتصور الرجعى للعالم ليس مجرد نظرة تخص صاحبها صوب الحياة، لكنها فى عالمنا العربى تتحول إلى ممارسة فعلية تتجه صوب القتل فى حال الجماعات الإرهابية المنظمة، أو التعاطف مع القتلة وسوق المبررات لهم فى حال المؤيدين لهذه التصورات الماضوية، التى تجعل من الماضى دائمًا حكمًا وبوصلة للحاضر والمستقبل، دون أن يمعن أحدهم النظر فى جوهر هذا الماضى، وارتباكاته، وتناقضاته، فضلًا عن علاقته المبتورة بالمستقبل.
وإذا كنا لا نستطيع أن نفهم الأنا دون أن نفهم الآخر، فإن قبول المختلف عنا يصبح من لوازم العيش فى هذا العالم، ومن المخزى للغاية أن نجد هذه الحالة من السعار لدى الجماعات المتطرفة صوب المختلفين معها، فالآخر فى عرف الجماعات المتطرفة مستباح، كما يجعل الإرهابيون من أفكارهم التعسة مركزًا للكون، ومن ثم يوزعون صكوكًا جديدة تعود بالعالم إلى القرون الوسطى، حيث الظلام الدامس، ومعاداة العقل، وسحق إنسانية الإنسان.
وفى هذه اللحظات المفرطة فى قساوتها على عالمنا العربى، سنكون بحاجة إلى نزع الغطاء عن عقل متكلس، وجامد، ارتمى فى أحضان الماضى، وأعتقد أن فيه الخلاص، ولإيقاظ العقل العربى لا بد من الابتعاد عن الأحكام المطلقة، التى تنطلق من رؤى يقينية ثابتة، فكل شىء قابل للمراجعة، والعالم نسبى، وهو ابن للتحول والتغيير المستمر، ويتصل بهذا الشأن اتصالًا وثيقًا توسيع نوافذ الحريات البحثية والفكرية، وحريات الرأى والتعبير من جهة، ومجابهة التصورات الرجعية من جهة ثانية، ومن ثم تجد القيم الكبرى مثل التسامح والتقدم والتنوير مناخًا محفزًا وملهما لأفكارها الإنسانية التى لا تعرف التمييز أو الكراهية.
وإذا كانت مفردة الضمير لم تكن لها ثمة رائحة لدى السفاح جان باتيست فإنها لم تزل حاضرة فى الوجدان العام، نشتم رائحتها عبر القيم الفلسفية الكبرى: الحق والخير والجمال، تلك القيم التى لا تعرفها الجماعات الإرهابية التى تظل مخلب قط، وأداة من أدوات الاستعمار الجديد لتفتيت الهويات الوطنية.
تفضى البدايات المأوساوية دومًا إلى نهايات مأساوية، وربما بالأسلوب ذاته الذى اتبعه القناصون مع الفرائس، فجان باتيست حين يفتضح أمره بعد زوال التأثير المؤقت لعطره الذى يأخذ بالألباب، يفر من المدينة التى قتل فيها أجمل بناتها، إلى الحى البائس الذى يسكنه المشردون، والمتسولون، ويهيمن عليه بارونات الليل، وقطاع الطرق، واللصوص المتنوعون؛ ليفتنوا به كما عادة كل من يراه، لكنهم فى فتنتهم لا يلبثون أن يأكلوه، ويسعوا لالتهامه، وتشرب كل العطر الذى بداخله، فى نهاية فجائعية ترتبط بمسار السرد طيلة الرواية.
ولا تأتى النهاية فحسب مثل عقاب مستحق، أكثر من كونها تعبيرًا فنيا عن قدرة النص الروائى فى أن يرفد الواقع بعناصر متجددة من التخييل، والنهايات التى تعبر عن جوهر الفكرة، وقلب الحكاية، وربما أيضا النهايات التى تعبر عن واقع فاق الخيال فى تحولاته وتعقيداته وتشابكاته اللانهائية، حيث كل شىء يصير على المحك، بدءًا من الإنسان ذاته، الذى يفقد أثمن ما فيه، حين نحيله إلى أداة للقتل، وهدف للقنص والمطاردة! كما يفعل الآن ممولو الإرهاب وداعموه، وحين نشيع سياقًا من الجهل والتخلف، وفى الوقت نفسه نقدم أنفسنا بوصفنا أحرارًا ومؤمنين بالإنسان.
إنه لعار حقيقى أن نقول الأشياء ونفعل نقيضها، لأنها اللحظة التى سنتحول فيها إلى «جان باتيست» المتعطر ذى القلب الوغد، والشر القاتل، اللعين.