نجيب محفوظ.. أيام الألم
أصداء السيرة الذاتية.. تحولات الزمن.. تحولات البشر
- بدا للزمن حضور بارز فى «أصداء السيرة الذاتية» بوصفه فضاءً للوجود البشرى ذاته
لقد مثّل التجديد هاجسًا ملحًا لدى نجيب محفوظ طوال مسيرته الإبداعية بمراحلها الفنية المختلفة، وتحولاتها السردية المتلاحقة، حيث يمكننا القول، وبوثوق شديد: إن التجديد فى نص نجيب محفوظ كان استجابة جمالية لممارسة إبداعية تنحو- وباستمرار- تجاه فعلى «المجاوزة»، و«التخطى»، لا «السكونية»، و«الثبات».
وعلى الرغم من تلك الحكمة المقطرة التى تملأ عمله الإبداعى الفارق «أصداء السيرة الذاتية»- والحكمة صنو اليقين- إلا أن نجيب محفوظ يظل باحثًا، دومًا، عن جوهر الحياة، والكون، معنيًا بجدل العيش والفناء، طارحًا رؤيته للعالم، عبر صيغة سردية تتخذ من «النص/المقطع» أسلوبًا لها، حيث تصبح النصوص/المقاطع قائمة، ومستقلة بذاتها، تصلح كل منها لأن تمثل قصة قصيرة، حاوية وجهة نظر تجاه العالم والأشياء، غير أن ثمة رؤية جامعة مثبوثة عبر المسارات السردية المتعددة داخل «الأصداء»، تتبدى فى ذلك الحس الصوفى، والنزوع الإنسانى الرهيف، والجدل العميق ما بين الحياة والموت، والتواشج الخلاق ما بين الثابت والمتغير، والطابع الحكمى الذى يغلف النصوص.
تتشكل «أصداء السيرة الذاتية» من ٢٢١ مقطعًا/ نصًا، تتواشج فيما بينها لتشكل الرؤية السردية داخلها، ويعد الشيخ «عبد ربه التائه» بمثابة الشخصية المركزية فيها، إنه يمثل ذلك الخيط الفكرى، والتقنى- فى الآن نفسه- الرابط ما بين المقاطع المختلفة، فضلًا عن الدلالة التى يحملها منطوق الخطاب السردى لشخصية الصوفى الحكيم «عبدربه التائه»، والتى تأتى بوصفها تمثيلًا جماليًا رهيفًا لحكمة مقطرة، لا عبر الصياغات التقريرية المباشرة، ولكن من خلال الحس الإنسانى العميق، واللغة ذات النّفَس الصوفى الحاملة لمتسع من المعنى، وربما بدا أيضًا للاسم الذى اختص به محفوظ شخصيته المركزية فى «الأصداء» «عبد ربه التائه» دلالة كاشفة على حالة الحيرة التى تنتاب هذا الشيخ الباحث عن اليقين، فى عالم مسكون بالأسئلة، ويقترن وجود الشيخ «عبد ربه التائه» فى النص الذى يحمل اسمه بالسؤال: «كان أول ظهور للشيخ عبد ربه فى حينا حين سمع وهو ينادى:
«ولد تائه يا أولاد الحلال»
ولما سئل عن أوصاف الولد المفقود قال:
«فقدته منذ أكثر من سبعين عامًا، فغابت عنى جميع أوصافه».
ويشغل الشيخ عبد ربه من حيز المتن السردى للعمل ما يوازى مئة وتسعة مقاطع، أى ما يعادل نصف العمل تقريبا، ويأتى ذكره صراحةً مفتتحا به النصوص/ المقاطع، إما عبر قول تقريرى له، أو سؤال من السارد يتوجه به إلى الشيخ فيرد عليه، لتتكرر هاتان الصيغتان السرديتان: «قال الشيخ عبد ربه التائه»، و«سألت الشيخ عبد ربه التائه».
تأتى الاستهلالات السردية فى «أصداء السيرة الذاتية» مسكونة بهاجس الزمن، ومعبأة به، ومن ثم تبدأ كثير من نصوص هذا العمل الأدبى بالإشارة إلى ملمح زمنى، لنجد جملًا سردية فى مفتتح النصوص، من قبيل: «فى صباى- فى عيد الربيع- فى ذلك الوقت البعيد- فى عزلة الشيخوخة- بعد انقطاع عشرين عاما- فى عهد الصبا- فى ليلة عاصفة ممطرة- فى تلك الليلة-... إلخ».
فى النص الأول «دعاء» ثمة تلميذ صغير، يذهب إلى المدرسة، فيجدها مغلقة ذات صباح، وحين يعلم أن السبب هو قيام الثورة، فيدعو بدوامها إلى الأبد:
«دعوت للثورة وأنا دون السابعة.
ذهبت ذات صباح إلى مدرستى الأولية محروسًا بالخادمة. سرت كمن يساق إلى سجن. بيدى كراسة، وفى عينى كآبة، وفى قلبى حنين للفوضى، والهواء البارد يلسع ساقىّ شبه العاريتين تحت بنطلونى القصير. وجدنا المدرسة مغلقة، والفراش يقول بصوت جهير:
- بسبب المظاهرات لا دراسة اليوم أيضًا.
غمرتنى موجة من الفرح طارت بى إلى شاطئ السعادة، ومن صميم قلبى دعوت الله أن تدوم الثورة إلى الأبد».
وإذا كان المستوى القرائى الأول للنص/ المقطع السابق، قد يشير إلى فعل الفرحة التى تنتاب الصبى جراء إغلاق المدرسة، فإن قراءة أعمق للنص قد ترى هذه الدعوة المبطنة إلى عدم الركون أو الاستسلام، وذلك على اعتبار أن الثورة فعل إنسانى خصيب يتجدد باستمرار، وفى مناحى الحياة جميعها، خاصة أن الحدث المحكى عنه هنا يحيل إلى ثورة ١٩١٩م، بما تحمله من دلالات راسخة فى الوجدان الجمعى للمصريين حول قيم الإخاء والمساواة، والتلاحم الوثيق بين فئات المجتمع المصرى، وأطيافه المختلفة.
يبدأ التحديد الزمنى منذ الاستهلال فى نص (دَين قديم)، وتأتى الأفعال جميعها فى صيغة الماضى: «تغير الجو من حولى/ تغيرت المعاملة/ ولت/ تلقتنى/ تماثلت/ خفت/ خُلق/ صممت»، وتبدو الحكاية هنا ذات طابع إرشادى:
«إذا كان الاجتهاد مفتاح السعادة فلأجتهد مهما كلفنى ذلك من عناء».
وتأتى النهاية حاملة ذلك النزوع الحكمى المهيمن على النصوص جميعها فى «الأصداء»:
«هيهات أن يفوز مرض بجميل الذكر مثل مرضى».
فى نص «مفترق الطرق» لعمة السارد ولدان، يختلفان فى الهيئة، والمكانة الاجتماعية، مثلما يفترقان أيضًا فى توقيت حضورهما لأمهما «العمة»، فأحدهما «البيه» يأتى على فترات متباعدة، والثانى «الأخ/ المسكين» يأتى بانتظام كل جمعة، وتتحقق المفارقة حينما يعلم السارد بأنهما أخوان:
«رجل آخر يتردد على أم البيه كل يوم جمعة. صورة طبق الأصل من البيه غير أنه يرتدى عادة جلبابًا ومركوبًا وطاقية، وتلوح فى وجهه أمارات المسكنة. وتستقبله عمتى بترحاب وتجلسه إلى جانبها فى أعز مكان. حيرنى أمره. وحذرتنى أمى من اللعب فى الحجرة فى أثناء وجوده. ولكنها لم تجد بدًا فى النهاية من أن تهمس لى:
- إنه ابن عمتك!
تساءلت فى ذهول: أخو البيه».
وهنا كان من الممكن أن ينتهى النص، غير أن «محفوظ» قد أراد أن يكمل الدائرة:
«وأصبح يثير حب استطلاعى أكثر من البيه نفسه».
يتحرك نص «الأيام الحلوة» زمنيًا ما بين منطقتين: الأولى الراهن/ اللحظة الحاضرة، التى يصل إليها السارد، ورفيقه القديم، حاويةً ما اعتراهما من تغير بادٍ على وجهيهما، والمنطقة الثانية: اللحظة الماضوية، التى انطلق منها السرد، بوصفها افتتاحية للنص، والتى تومئ إلى أن ثمة اختلافًا قد طرأ على حياة الرفيقين القديمين:
«كنا أبناء شارع واحد تتراوح أعمارنا بين الثامنة والعاشرة. وكان يتميز بقوة بدنية تفوق سنه، ويواظب على تقوية عضلاته برفع الأثقال. وكان فظًا غليظًا شرسًا مستعدًا للعراك لأتفه الأسباب. لا يفوت بسلام ودون معركة، ولم يسلم من ضرباته أحد منا حتى بات شبح الكرب والعناء فى حياتنا».
وقد أسهم هذا الجدل على مستوى البنية السردية ما بين الماضى والحاضر فى صنع المفارقة الساخرة التى تتجلى فى ذلك التعارض بين ما كان، وما هو قائم، خاصة أن الصديق القديم «الباطش غليظ القلب»، قد أضحى شيخًا مسنًا لا حول له ولا قوة، يتحسر على الأيام السابقة بوصفها أيامًا حلوة، وهو ما لم يكن يراه السارد الذى طالما تعرض هو وزملاؤه للضرب على يد ذلك الصديق القديم:
«ورآنى فعرفنى وابتسم، وجلس دون دعوة. وبدا عليه التأثر فراح يحسب السنين العديدة التى فرقت بيننا. ومضى يسأل عمن تذكر من الأهل، والأصحاب، ثم تنهد، وتساءل فى حنان.
- هل تذكر أيامنا الحلوة؟!»
«فى قبيل الفجر» تبدو المفارقة الساخرة حاضرة عبر زمن الحدث السردى ذاته، فـ«قبيل الفجر» تجلس الحماة مع زوجة ابنها الراحل، تسمران، بعد أن كانتا من قبل عدوتين لدودتين:
«تتربعان فوق كنبة واحدة، تسمران فى مودة وصفاء. الأرملة فى السبعين، وحماتها فى الخامسة والثمانين. نسيتا عهدًا طويلًا شحن بالغيرة والحقد والكراهية».
ثمة جدل دومًا بين الزمنين: الماضى، والحاضر، وينطلق السارد من ذلك الماضى دائمًا، جاعلًا منه مفتتحًا للنص، وشاهدًا- فى الآن نفسه- على التغيرات التى تمت، والتى يشير إليها الزمن الحاضر، ليصبح هذا الجدل ما بين الماضى، والحاضر أساسًا تتكئ عليه البنية السردية، لا باعتباره محض تقنية مركزية تنهض عليها، ولكن بوصفه- فى الأساس- تعبيرًا جماليًا دالًا على رؤية العالم عند نجيب محفوظ، هذه الرؤية التى تظللها المفارقة وتعمقها:
«رجعت إلى الشارع القديم بعد انقطاع طويل لتشييع جنازة. لم يبن من صورته الذهبية أى أثر يذكر. على جانبيه قامت عمارات شاهقة فى موضع الفيلات، واكتظ بالسيارات والغبار وأمواج البشر المتلاطمة».
تهيمن روح من النوستالجيا على «أصداء السيرة الذاتية»، حيث ثمة رغبة عارمة فى استعادة ما فات، وهذا ما نلقاه فى نص «رسالة»:
«وردة جافة مبعثرة الأوراق عثرت عليها وراء صف من الكتب، وأنا أعيد ترتيب مكتبى. ابتسمت. انحسرت غيابات الماضى السحيق عن نور عابر. وأفلت من قبضة الزمن حنين عاش دقائق خمس.
وند عن الأوراق الجافة عبير كالهمس.
وتذكرت قول الصديق الحكيم: «قوة الذاكرة تنجلى فى التذكر، كما تنجلى فى النسيان».
ويتكئ المقطع/ النص السابق على تقنية البناء على المفردة، فالدال المركزى فى النص «الوردة الجافة» يصبح مفجرًا لإمكانات السرد داخله، وباعثًا على الحنين «التيمة المركزية» فى «الأصداء»:
«وأفلت من قبضة الزمن حنين عاش دقائق خمس».
وتبدو العبارة السابقة أكثر تماسًا مع المتلقى، قادرة على النفاذ إلى سيكولوجيته، عبر إشراكه فى صنع الدلالة الكلية، وتخيل ما قد يمر على ذاكرة السارد فى الدقائق الخمس.
لا تحوى النصوص فى «أصداء السيرة الذاتية» هذا الطابع السكونى الذى قد يتوهمه القارئ للوهلة الأولى، فعلى الرغم من أن الموت يمثل تيمة مركزية داخل العمل، بوصفه جزءًا من بنية أشمل تحوى جدلًا ما بين «البقاء والفناء»، إلا أن الحياة تطل بصخبها، وعنفها أحيانًا، مثلما نجد فى نص «التسبيح»، والتى نرى فيها مشهد ﺫبح الرجل الضعيف على يد الرجل الأقوى، وحين يتواطأ المجموع بالصمت، يتقدم «الدرويش» ليدلى بشهادته، غير أنه ليس من جدوى ما قد يقوله؛ نظرًا للاعتقاد الراسخ ببلاهته، فيقرر «الدرويش» حينئذ الانتقام من الجميع، رجلًا كان أو امرأة.
وبعد.. لقد بدا للزمن حضور بارز فى «أصداء السيرة الذاتية» بوصفه فضاءً للوجود البشرى ذاته، وعلامة على ذلك التحول الذى يصيب الإنسان/ الفرد، وشاهدًا على الثابت والمتغير من الأشياء، لنصبح فى «الأصداء» أمام نص سردى خصيب، تتجاور حلقاته القصصية مكونة المتن السردى له، مسكونة بحس صوفى، وفلسفى عميق، وبنفس إبداعى يستمد خصوصيته من انتصاره للجدارة الإنسانية فى أشد تمثلاتها خلقًا، وابتكارًا، وفى انحيازه للجمالى والتقنى، عبر لعب فنى دال، يعيد النفاذ إلى جوهر الزمن، بمستوياته المختلفة، وصيغه المتعددة، متكئًا فى ذلك كله على جدلية أساس «تحولات الزمن/ تحولات البشر» تكتنز داخلها طبقات من المعنى، كما تفتح أفقًا واعدًا للتلقى.