فقه التغفيلة.. ليس للخيانة معنى آخر

- يعتقد البعض أن الشعب المصرى شعب طيب سرعان ما ينسى ويمكن تغفيله بسهولة
- يعرف المصريون من هو الوطنى الذى يجب أن يقفوا إلى جواره كما يعرفون الخائن الذى لا يمكن أن يقبلوه أو يتقبلوه
يخطئ من يعتقد أنه يحتكر معنى الوطنية.
ويخطئ من يتصور أنه يملك صكوكها.. يمنحها لمن يريد ويحجبها عمن يشاء.
ويخطئ من يتخيل أن من حقه الحكم على ما يعتقده أو يعتنقه الآخرون، فيرفع هذا إلى أعالى مراتب الوطنية، ويحط من شأن هذا فيهبط به فى مهاوى الخيانة.
هذه قناعتى التى أتفاعل بها مع المجال العام من حولى، لا أمنح نفسى أبدًا الحق فى الحكم على الآخرين لا فى دينهم ولا فى وطنيتهم.. ولا فيما يعبرون به عن أنفسهم بأى طريقة حتى كانت مستفزة لى أو أختلف معها تمامًا.
لكن كل ذلك لا يعنى أن معنى الوطنية ليس واضحًا.
أو أن معنى الخيانة ليس محدد الملامح والأبعاد.
هناك أشياء لا يمكن الخلاف عليها.

هناك معانٍ لا تحتاج لمعاجم أو مجامع لغوية.. لا تحتاج لتعريف اصطلاحية أو إجرائية، ترجمتها أفعال على الأرض، سلوك يشهده أناس ويشهدون عليه، تصرفات معلنة، وتصريحات واضحة وصريحة ومباشرة لا تقبل تأويلًا ولا تحتاج إلى تفسير.
هناك أفعال لا يمكن أن تخدعنا أو ننخدع بها، فنقول مثلًا إنها أعمال وطنية وهى ليست كذلك.. أو أنها من أعمال الخيانة وهى ليست كذلك أيضًا.
الوطنية واضحة للجميع.. والخيانة أيضًا.
لن تشغلنى هنا الأسماء.. ولن ألتفت إلى أفراد، فالقضية أكبر وأهم من الجميع.. والأهم أنها قولًا وفعلًا فوق الجميع.
لكننا نحتاج من آنٍ إلى آخر أن نذكر أنفسنا ونذكر الآخرين أيضًا بما جرى، فعلى ما يبدو أن الذاكرة بعافية، أو أن هناك من يراهن على ضعف ذاكرتنا، فيريد أن يمرر ما يخالف ما توافقنا عليه، واستقر عليه الوجدان المصرى خلال السنوات الأخيرة.
يحتاج منا ذلك إلى أن نذكر بما حدث، أن نروى الحكاية كل صبح، ولا نمل، فنعيد التأكيد عليها كل مساء.
عندما خرج المصريون بالملايين فى ٣٠ يونيو كان لديهم هدف واحد، وهو تحرير بلادهم من المحتل الإخوانى، الذى تجسد فى رئيس إخوانى، كان يحكم مصر بأوامر مباشرة من مكتب الإرشاد، لم يكن ولاؤه لمصر، بل لمن أقسم له على السمع والطاعة.
كان المصريون يعرفون أنهم سيدفعون ثمنًا كبيرًا وغاليًا لموقفهم، لكنهم لم يترددوا، واصلوا نضالهم، وتعالى هتافهم «يسقط.. يسقط حكم المرشد»، فقد أدركوا أن المرشد هو الذى يحكم، ولأنهم يعرفون أن الجماعة ستأخذ مصر إلى طريق لا يريدونه لها، قطعوا عليهم أى وكل سبيل يمكن أن يصل بهم إلى ذلك.

أصبحت مصر فى اللحظة التى أعلن فيها الفريق أول عبدالفتاح السيسى وزير الدفاع بيان ٣ يوليو فريقين.
الفريق الأول هو فريق مشروع ٣٠ يونيو الذى حدده البيان الشامل والكامل الذى ألقاه عبدالفتاح السيسى فى ٣ يوليو، وهو محاط بالقوى السياسية والوطنية مختلفة الاتجاهات ومتباينة التوجهات، لكنها اجتمعت على كلمة واحدة وهى رفض حكم جماعة الإخوان.
ولأننى على ثقة أن هناك من تفلت من بين ذاكرتهم هذا البيان، فإننى أعيده هنا مرة أخرى، فالذكرى تنفع المؤمنين.. والوطنيين أيضًا.
يقول البيان:
«بسم الله الرحمن الرحيم.. شعب مصر العظيم، إن القوات المسلحة لم يكن فى مقدورها أن تصم آذانها أو تغض بصرها عن حركة ونداء جماهير الشعب التى استدعت دورها الوطنى، وليس دورها السياسى على أن القوات المسلحة كانت هى بنفسها أول من أعلن ولا تزال وسوف تظل بعيدة عن العمل السياسى.
ولقد استشعرت القوات المسلحة- انطلاقًا من رؤيتها الثاقبة- أن الشعب الذى يدعوها لنصرته لا يدعوها لسلطة أو حكم، وإنما يدعوها للخدمة العامة والحماية الضرورية لمطالب ثورته.. وتلك هى الرسالة التى تلقتها القوات المسلحة من كل حواضر مصر ومدنها وقراها وقد استوعبت بدورها هذه الدعوة وفهمت مقصدها وقدرت ضرورتها واقتربت من المشهد السياسى آملة وراغبة وملتزمة بكل حدود الواجب والمسئولية والأمانة.
لقد بذلت القوات المسلحة خلال الأشهر الماضية جهودًا مضنية بصورة مباشرة وغير مباشرة لاحتواء الموقف الداخلى، وإجراء مصالحة وطنية بين كل القوى السياسية بما فيها مؤسسة الرئاسة منذ شهر نوفمبر ٢٠١٢.. بدأت بالدعوة لحوار وطنى استجابت له كل القوى السياسية الوطنية وقوبل بالرفض من مؤسسة الرئاسة فى اللحظات الأخيرة.. ثم تتابعت وتوالت الدعوات والمبادرات من ذلك الوقت وحتى تاريخه.

كما تقدمت القوات المسلحة أكثر من مرة بعرض تقدير موقف استراتيجى على المستوى الداخلى والخارجى تضمن أهم التحديات والمخاطر التى تواجه الوطن على المستوى الأمنى والاقتصادى والسياسى والاجتماعى، ورؤية القوات المسلحة بوصفها مؤسسة وطنية لاحتواء أسباب الانقسام المجتمعى، وإزالة أسباب الاحتقان ومجابهة التحديات والمخاطر للخروج من الأزمة الراهنة.
فى إطار متابعة الأزمة الحالية اجتمعت القيادة العامة للقوات المسلحة برئيس الجمهورية فى قصر القبة يوم ٢٢/ ٦/٢٠١٣ حيث عرضت رأى القيادة العامة ورفضها للإساءة لمؤسسات الدولة الوطنية والدينية، كما أكدت رفضها لترويع وتهديد جموع الشعب المصرى.
ولقد كان الأمل معقودًا على وفاق وطنى يضع خارطة مستقبل، ويوفر أسباب الثقة والطمأنينة والاستقرار لهذا الشعب بما يحقق طموحه ورجاءه، إلا أن خطاب السيد الرئيس ليلة أمس وقبل انتهاء مهلة الـ٤٨ ساعة جاء بما لا يلبى ويتوافق مع مطالب جموع الشعب.. الأمر الذى استوجب من القوات المسلحة استنادًا على مسئوليتها الوطنية والتاريخية التشاور مع بعض رموز القوى الوطنية والسياسية والشباب ودون استبعاد أو إقصاء لأحد.. حيث اتفق المجتمعون على خارطة مستقبل تتضمن خطوات أولية تحقق بناء مجتمع مصرى قوى ومتماسك لا يقصى أحدًا من أبنائه وتياراته، وينهى حالة الصراع والانقسام وتشتمل هذه الخارطة على الآتى:
- تعطيل العمل بالدستور بشكل مؤقت.
- يؤدى رئيس المحكمة الدستورية العليا اليمين أمام الجمعية العامة للمحكمة.
- إجراء انتخابات رئاسية مبكرة على أن يتولى رئيس المحكمة الدستورية العليا إدارة شئون البلاد خلال المرحلة الانتقالية لحين انتخاب رئيس جديد.

- لرئيس المحكمة الدستورية العليا سلطة إصدار إعلانات دستورية خلال المرحلة الانتقالية.
- تشكيل حكومة كفاءات وطنية قوية وقادرة تتمتع بجميع الصلاحيات لإدارة المرحلة الحالية.
- تشكيل لجنة تضم كل الأطياف والخبرات لمراجعة التعديلات الدستورية المقترحة على الدستور الذى تم تعطيله مؤقتًا.
- مناشدة المحكمة الدستورية العليا لسرعة إقرار مشروع قانون انتخابات مجلس النواب والبدء فى إجراءات الإعداد للانتخابات البرلمانية.
- وضع ميثاق شرف إعلامى يكفل حرية الإعلام ويحقق القواعد المهنية والمصداقية والحيدة وإعلاء المصلحة العليا للوطن.
- اتخاذ الإجراءات التنفيذية لتمكين ودمج الشباب فى مؤسسات الدولة ليكون شريكًا فى القرار كمساعدين للوزراء والمحافظين ومواقع السلطة التنفيذية المختلفة.
- تشكيل لجنة عليا للمصالحة الوطنية من شخصيات تتمتع بمصداقية وقبول لدى جميع النخب الوطنية وتمثل مختلف التوجهات.
تهيب القوات المسلحة بالشعب المصرى العظيم بكل أطيافه الالتزام بالتظاهر السلمى وتجنب العنف الذى يؤدى إلى مزيد من الاحتقان وإراقة دم الأبرياء.. وتحذر من أنها ستتصدى بالتعاون مع رجال وزارة الداخلية بكل قوة وحسم ضد أى خروج عن السلمية طبقًا للقانون، وذلك من منطلق مسئوليتها الوطنية والتاريخية.
كما توجه القوات المسلحة التحية والتقدير لرجال القوات المسلحة ورجال الشرطة والقضاء الشرفاء المخلصين على دورهم الوطنى العظيم وتضحياتهم المستمرة؛ للحفاظ على سلامة وأمن مصر وشعبها العظيم.
حفظ الله مصر وشعبها الأبى العظيم.. والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته».

الفريق الثانى كان معاديًا لمشروع ٣٠ يونيو، وهو الفريق الذى اجتمعت فيه جماعة الإخوان ومن تحالفوا معها وتعاطفوا مع موقفها، وبدأ هذا الفريق يأتى بكل ما من شأنه أن يهدم الثورة ويعطل طريقها.
قابلت مصر من هذا الفريق كل الأذى، جماعات إرهابية نشطت بحدها الأقصى فى سيناء وبدأت فى تنفيذ عمليات إرهابية ضد قوات الجيش، ولجان نوعية بدأت تتنشر فى كل المحافظات وتنفذ عمليات اغتيال وتدمير وتفجيرات فى كل مكان، وتجمعات نظمت مظاهرات كانت تجوب الشوارع خارجة من اعتصامى رابعة والنهضة.
كان إلى جوار هؤلاء فريق قرر أن يخرج من مصر قاصدًا عواصم معينة، وهناك نظموا صفوفهم، وبدأوا فى شن أكبر حرب إعلامية ضد مصر، وهى الحرب التى كانت أكثر تأثيرًا ووطأة وعنفًا ضد مصر، شككوا فى كل شىء، وهالوا التراب على الجميع، نشروا الشائعات والأخبار الكاذبة، وسفهوا كل ما تقوم به مصر، أشاعوا مناخًا تشاؤميًا فى قلب الجميع، وبدأوا فى زراعة الفتنة بين الجميع، كان هدفهم خلخلة الجبهة الداخلية لهدم مصر من داخلها.
انتظم فى هذا الفريق الذى اختار أرضًا أخرى يناضل منها- وهو النضال الكاذب- فنانون وإعلاميون ولاعبو كرة، وأعتقد أن ما فعلوه لا يمكن أن ينساه أحد.
خلال هذه السنوات كنت شاهدًا عن قرب على توبة بعض من هربوا، أدركوا أنهم انخدعوا فى الجماعة فقرروا أن يعودوا مرة أخرى، وعندما عادوا كشفوا زيف الجماعة وعارها، وقالوا ما لم يكن أحد يتخيله أو يعتقد أنه يمكن أن يكون موجودًا.
وفى الوقت الذى أفاق فيه بعض من هربوا، أصر آخرون على غيهم، ظلوا هناك يمارسون حياتهم، ومنهم من ربح الملايين، أصبح كثيرون أصحاب ثروات، وكانت هذه الثروات مقابل بيعهم لبلدهم وخيانتهم له وتحريضهم عليه.
قد يعتقد البعض أن الشعب المصرى يمكن أن ينسى لهؤلاء ما عرفوه بسهولة، أو أن أحدًا من هؤلاء يمكنه أن يعود بسهولة وكأن شيئًا لم يكن.
يعتقد البعض أن الشعب المصرى شعب طيب سرعان ما ينسى، ويمكن تغفيله بسهولة، إنه يسامح ويعفو، ولن يعترض على عودة زيد أو عبيد، لكن ما لا يعرفه هؤلاء أن الشعب الطيب الذى ينسى ويسامح لا يمكن استغفاله أبدًا، ولا يمكن الضحك عليه أبدًا، ولا يمكن ضربه على قفاه أبدًا.
يعتقد هؤلاء أنهم يجيدون فقه التغفيلة، لكنهم فى الغالب لا يعرفون معدن هذا الشعب، الذى يملك قيمًا وأخلاقيات وثوابت لا يمكن أن يتنازل عنها.
يعرف المصريون من هو الوطنى الذى يجب أن يقفوا إلى جواره، كما يعرفون الخائن الذى لا يمكن أن يقبلوه أو يتقبلوه، لذلك لن ينجح من تخلى عنهم أبدًا، لن يسمحوا له بأن يدخل بيوتهم مرة ثانية أبدًا.

لقد دفع المصريون ثمن موقفهم من أمنهم واستقرارهم وقوتهم والأهم من دماء أبنائه الشهداء، هؤلاء الذين قدموا حياتهم من أجل أن يبقى هذا الوطن فى مواجهة من كانوا يخططون لذبحه.
لن يسامح المصريون من أعانوا القتلة على ذبح أولادهم، ولن يتسامحوا أبدًا مع من يريد تغفيلهم، والعفو والسماح عمن عملوا لصالح آخرين على حسابه.
كل ما يمكننى قوله دون تفاصيل هو: احذروا غضبة هذا الشعب.
فهو يعرف متى يغضب.. وإذا غضب فلن يقدر عليه أحد.
لا تختبروا صبره.. والأهم لا تختبروا تسامحه.
اللهم قد بلغت اللهم فاشهد.
